للأسف وجدت رسائل علمية كثيرة تمنحها الجامعات السودانية لا تنطبق عليها شروط منهج البحث ، والجواب يبين من عنوانه ، أي من عنوان البحث نفسه ، للأسف الشديد لا يمكن أن يقبل مشرف محترم وأمين مثل هذه المواضيع ، لأنها تخالف أوليات بل وبديهات انضباط البحث العلمي ، وجدت مثلا رسالة دكتوراه بعنوان أثر العولمة على التشريع ، وكان ذلك بالنسبة لي مفاجأة حقيقية أن يتم قبول بحث بمثل هذا العنوان الذي يبدو جذابا لمن لا علاقة لهم بالبحث العلمي بل وتتم مناقشته ومنح الدرجة العلمية على أساسه ، ولكي أبين عدم انضباط مثل هذه العناوين ساحلل معكم عناصر هذا العنوان لكي نرى بكل سهولة لكل من له خبرة في مجال البحث العلمي سيولة مثل هذا الموضوع... فمن ناحية أولى ، لم يبين هذا البحث أي نوع من أنواع العولمة يقصدها ، في الواقع هناك عشرات من أنواع العولمة فهناك عولمة ثقافية ، وهناك عولمة سياسية ، وهناك عولمة اقتصادية ، وهناك عولمة أمنية ، وهناك عولمة نظامية قانونية ...الخ ، هذا يعني أحد أمرين إما أن الباحث سيتناول جميع أنواع العولمة وهذا مستحيل أو أن عنوان البحث غير دقيق لعدم محدودية الموضوع ، ولنأت للجزء الثاني أثر العولمة في التشريع ، أي تشريع ، هل هي العملية التشريعية البيروقراطية ، أم التشريع باعتباره مجموعات القوانين الصادرة عن البرلمان ، واذا كانت مجموعات المدونات القانونية فعن أي مدونة يتحدد نطاق البحث ، القانون الجنائي ، أم المدني ، أم التجاري ، أم البحري ، أم الجوي ، أم العمل ، أم القوانين التي تنظم المهن ....الخ ... ام ان هذا البحث سيتناول كل هذه التشريعات وبالتالي لا يكون للبحث لا بداية ولا نهاية ، بل وما المقصود بالأثر ، هل هو الأثر على فلسفة التشريع ، أم على السياسة التشريعية ، ام على ماذا؟؟؟ ومثل هذا فحدث ولا حرج ..يختار الباحثون وهم لازالوا في بداية مشوارهم البحثي عناوين براقة ولكنها في الواقع لا تصلح البتة لتكون موضوعا لبحث علمي ، مع ذلك فإن المسؤول عن ذلك ليس الطالب ، إنما المشرف على البحث ، وخاصة مع ما نشهده من كثير من المشرفين من اهمال في قراءة البحث ومراجعته شكلا وموضوعا ، بل وحتى زيادة حالات مماطلة المشرفين في مقابلة طلابهم ناهيك عن متابعتهم ، وهذا لعمري عدم امانة علمية ، وانعدام لأي وازع اخلاقي لهؤلاء المشرفين ، طبعا أنا لا أعمم ، ولكني أشير إلى هذه الظاهرة الخطيرة ، حيث يؤدي إهمال المشرف إلى وقوع الطلاب في مصيدة السيولة الموضوعية ، وهذا لا يستنزف فقط وقت الباحثين سدى بل يؤدي إلى أن الباحث لا يستفيد من البحث أي فائدة في الخلوص إلى نتائج علمية ذات فائدة بل ويمنعه من القدرة على الإحاطة بجزئيات البحث لغرقه في اقتفاء عموميات يحاول لملمة شتاتها ، وفي النهاية يخرج لنا بحث لا فائدة منه .. فلا هو طور فكرة ولا هو انتج فلسفة ولا هو عالج مشكلة ، وانما بقى مجرد عنوان براق عندما يقرأوه عوام الناس. أعتقد أن على الجامعات السودانية أن تعيد تقييم عملية البحث العلمي بكل ما يحيط بها من ظروف واشتراطات ، وأن تفرض ضوابط على عدد الرسائل التي يجب ألا يتجاوز اي استاذ جامعي حدها الأقصى ليشرف عليها ، وأن يتم مراقبة المشرفين ومساءلة المماطلين منهم عن متابعة الطلبة ، والاستاذ الذي ليس لديه وقت للإشراف عليه أن يكون أمينا علميا ويمتنع عن قبول الإشراف لمجرد الحصول على ترقية على حساب الطالب المسكين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة