لا شيئ يغسل الحَزَن مثل هذا المَدى..تتكسّر الأمواج عند الصُخيرات..قبل عشرات السنين اجتاز بحّارة مالطا مُنعرج سرت المائي بأشرعة من هواء..كان البحر، ولم يزل مقبرة للنازحين..كانت الثورة ولم تزل، تأكل بنيها..كانت أحزاني، ولم تزل، بين مدّ وجزرٍ،مثل كدمات الطغاة في وجه التاريخ..!
يلزمني أن أتعلّم اللُّغة في مدينة القائِد، كي أتجاوز عقباتٍ كثيرة..كلمات قليلة تكفيني للمرور، أهمها :باهي باهي ..و تُقال هكذا بحِزمة التكرار..!
و "عادي عادي".. و"خيركُم" التي تقوم مقام السلام، أو"صباح الخير"..!
وبين ما أحتاجه من كلمات:"سكّر فمّكْ"، التي أسمعها ولن أقولها إلّا لخاصّتي..حبّذا لو أضِفت واواً في نُطق الكلام.. ولا بأس بشيئ من "سَبّ ....." حتى لا يتشكك أحد المفاتيح وينسبني إلى الكلاب الضّالة..!
"و ما تعمل لي فيها بتاع جوامِع"..!
قالها لي ودّ المِحيريبا ،مِن باب حِرصه عليّ..حكى لنا أحد السودانيين، أنه دخل ذات يوم على مسجدٍ جميل، حيث هواء البحر يغري بالتناسي..التأم جمع العُبّاد هناك، ولم يظهر فيهم إماماً يتقدّم للصلاة.
أحد السودانيين، كان يظُن أنّ "هُنا وهناك، كلّو ياهو الكوراك"..!
رأى اللّجلَجة، فتقدّم الصّفْ.. دقّ صدرو متحزِّماً ومتلزِّماً بها : الله أكبر..!
صلى ببعضِهم ، و نفر عنه البعض وهم يتغامزون:" ليش هَاي العِبيد يِصلّي بِينا"..!
ــ مولاي..دعك من علاقات السماء بالأرض..فأنا أصلاً ، لا أملك ديناً يؤهلني لاصطفاف النّاس ورائي..حدّثني كيف اتعلّم لغة المفاتيح..!
قال أنه في أول عهده بليبيا، سمعهم يهدْرِسون:"القطّوسَة مُقعمِزة عَالرّوشة، تِشْبَحْ لوطَا"..!
ـــ دا كلام شنو يا زول ..!؟
*والله زي ما بقول لكْ..الكلام دا معناهُ بالعربي، أنّ ثمة قِطّة "قطّوسة" تجلس على البلكونة ،موجهةً ناظريها نحو الأرض..!
..كلام خارج بارم ، لكنه من بعضاً من تسالي الليل، لكنّ "قعمِز" هذه، ليست غريبة ًعلي..لقد سمعتها كثيراً في الطرقات ،مقرونة بـ "... أُمّكْ"..!
تقدمت بطلب للعمل..حتى يُقبل طلبي، ينبغي علي تدبيج الثناء لثورة الفاتح العظيم..يتعيّن علي كذلك،أن أكتب اسم أطول جماهيرية في التاريخ.
فعلت ذلك عِرفاناً بأن خادم الفكي مجبورة على الصلاة..!
طلب مني موظّف مكتب العمل كذا دينار، فدفعها السودانيون بالتنقيط..دمغَ الموظّف على وريقتي بعنف :"كوّ"..! وقال مومئاً بانصرافي من شبّاكه :"هيّا يا سوداني..عدّي غُدْوة، بيش تِشبح إسمك في لوحة الإعلاناتو"..!
سألت السوّادين،عن حجم تِلك "الواو" في لوحة الاعلانات..!
عدّيت على اللّوحة غُدوة، وبعد غُدوة، وبعد بعد غُدوة ، ووجدتهم قد "شَبَحونِي"..!
سألت أحدُهم مرّة:ماذا تَعنِي بكلمة "تِشْبَحْ"..!؟
أجابني من عِنده بسؤال:خيرك يا سوداني يا مسكّر، ما تِفهمشْ عَرَبي..!؟
في طريق العودة الى البيت العربي الذي نسكنه في الطرف الصحراوي من الصحراء، حدثني ودّ المحيريبا، صدّيق محمد علي، عن لا جدوى السؤال..عند دخولي منفذ السلّوم، كان القائد يخاطب مؤتمراً للجان الثورة..أثناء حوار التشاركيات، وقف أحدهم واقترح قائلاً: "نِبّي نخرّجو السوّادينْ من لِبْلادْنا..السوّادينْ هاذايا ، لبّظوا لِبْلادْ"..!
ذهب إليه القائد، وقال له :"شين تِعرَف عن السّودان..؟ هاي السوّادين كانت عِنْهم / عِندهم جامعة منذ عام 1902.. قَعْمِزْ...أُمّكْ"..!!
سمِعتها هكذا ، و ما أحلاها من فم القائد..!
بيتنا العربي مسقوف بالزِنك..عندما يقرقر المطر الشتائي فوقنا، يشرب الرمل ماءه ،فتخرج من حجور هذا الصخر أشياءاً وأشياء..ذات صباحٍ مبلل بالندي وزُعاف البحر،خرجت علينا عقرب سوداء ،مثل حِبر المَطابِع..!
قرأ السوّادين حَسرتي، وقالوا أنّ عقارب الرّطوبة منزوعة السُّم..!
قالوا كلماتهم ومضوا أُجراءاً في سوق العمل، بينما أخذتُ طريقي عبر الميدان الكبير، لتصفُّح وجه حبيبتي: لوحة الإعلانات..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة