|
قيمة الثورة المفقودة يقيناً وأسطورة الوطنية و الضمير و المسئولية أحمد يوسف حمد النيل
|
قيمة الثورة المفقودة يقيناً وأسطورة الوطنية و الضمير و المسئولية
أحمد يوسف حمد النيل
الحكاية السودانية عالم جميل , هي أسطورة تشبهها عوالم الفن و الغناء بشقيه الوطني و العاطفي , غُرست في روح الشباب فأصبحت صدى السنين الحاكي , صورة أجمل ما يكون في العالم المُتَخيّل , ربما في زمن مضى قد تشبث العالم العربي من حولنا بمد الحركات العالمية , سياسية كانت أم عاطفية. و لكن يبدو أن الثورة في السودان قد اندلعت عاطفيا ً , فقد كانت حواشيها من أثمن ما انتجه الفن الحديث من أغاني وطنية و حكايات. إلا انها تحولت الى أسطورة فنية و أدبيات تهز وجدان السوداني الرهيف و تزلزل كيانه. و في ظل الكبت الديني الذي كان يُمارس في بعض مراحل تطور العقل السوداني و النقد المتسلط , نشطت اسطورة الحكاية و الثورة , و لكنها اتجهت نحو القداسة و المعاني المُتَخيّلة , و لم تحمل مظاهر الواقعية أو الثورة من أجل الواقع الاقتصادي , لذا تكونت صورة للحكاية و أسطورة من أجل الثورة ناقصة التكوينات. فقيمة الثورة المفقودة هي القيمة المدنية بأخلاقياتها و الاقتصادية بتفرعاتها و هو ذلك الجانب العملي لقيمة أي ثورة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية.
ربما يتفق معي في هذا الزعم كثير من الناس , فحالة الإحباط التي تسيطر على الناس , ما هي إلا كفرٌ بالقيم الأدبية لما قبل الثورة , فالناس يؤمنون بالأغنية الوطنية الثائرة , و يكفرون بالواقع المرير , فانعكس ذلك سلباً , في واقع كله إحباط و يأس. فالضمير الذي كان يغني للوطن قد أشكل حال الوطن , فقذف كل تلك القيم من وراء ظهره , و انكب على موائد الحلول السياسة , عارية من أي قيمة , في سبيل التطور. فجاء انقلاب العسكر في السودان في العام 1989م بلا قيمة أخلاقية أو مدنية أو اقتصادية. فتبعه الناس في ظل هذا الإحباط و هم يريدون الحلول الوقتية. فغابت المسئولية في ذلك المشهد و غاب الضمير الواعي كمتحكم في سلوك البشر. و لن تُسترد هذه القيمة المفقودة في ليلة و ضحاها. فالحكام ضمائرهم قد بِيعت من أجل أغراض شخصية دنيئة , و الذين يعارضون قد افترقوا و تشتت شملهم فهم لم تنضج رؤاهم بعد كل هذه السنوات من الخبرة. فقيمة الوطن و الوطنية هي الأبرز غياباً في كل مشاهد الوطن , و قيمة المسئولية هي الأكثر ضياعاً في السيرة الذاتية لمشاهد السياسة السودانية. و موت الضمير هو الشاهد الأكبر على عمليات النصب و الاحتيال على المواطن , بدواعي فكرية خيالية و خالية من المسئولية.
و في سبيل اتيان الثورة من أجل هذا الوطن , على الجميع التحلي بالقيم الوطنية و المسئولية , و تحتاج الثورة لبطل همام يبيع نفسه من أجل الوطن. فالبطولة في هذا السياق لا يشترط فيها من اشتهر بين الناس بحزب أو طائفة أو عائلة أو اسم براق , و لكن يشترط فيها الضمير و المسئولية فهذه القيم انسانية و ليست حصرية على أحد دون الآخر أو حزب دون الآخر و العبرة فيها بالعمل , فالعسكر الذين قلبوا الحكم لصالح حركة الأخوان في السودان , كثير منهم لا يدرك ما معنى الضمير و المسئولية و الوطن , فالواقع العملي هو ما يعطينا هذه المعطيات و النتائج , فكثر الفساد و غُلّت يد العطاء عن الوطن و المواطن , و استشرت المحسوبية و الرشوة و موت الضمير. فالثورة القادمة ثورة شباب يجب أن يتحرر من قيود المجتمع الضارة و التي تضر بالمفهوم الاقتصادي و السياسي , فليصنعوا قيمة الحكاية الجديدة , و ليرفعوا سقف المسئولية الشخصية و الوطنية , فغياب تجانس الفكر و الواقع في ظل هذا الحكم على أسس وطنية , و على أسس قيم و أخلاق السودانيين , هو الذي أدى إلى هذا الانفراط المريع في عِقد المجتمع. و فقدان روح الوطنية و القيم الحقيقية في تسلسل المناهج الدراسية و التي عكف على اعدادها نفر يدينون بدين الأخوان و ليس السودان , لذا جاء النتاج باهتا بلا روح و لا لون.
اما إذا اردنا أن نقيس نجاحاتنا حسابيا , فالنتائج مذهلة , و بمنطق العمل و النتيجة فان الحصيلة (صِفر ٌ كبير) , نتيجة لا تتناسب مع حجم البشر الذين تعلموا في بلادي , و سيرة التعليم في السابق كانت حصيلتها عقول عبقرية و كوادر منظمة و ملزمة للنجاح , فقد هجر بعضها الوطن فارتفعت بهم أمم أخرى و علت و انحدرنا في وديان الفشل , و هنا يبدو ان المشكلة ليست عقول متميزة أكاديميا أو اقتصاديا أو فلسفيا , و اتضح من بعد ذلك ان المشكلة أزمة ضمير و وطنية و سلوك يجافي قيم التعليم و الاخلاق. فكان عقب كل ثورة في السودان يرتد عليها العسكر و يغتصبون شرعيتها , و لعل السبب أن حركة التعليم و الثقافة هي أجسام مُتخيلة لا صلة لها بالواقع , فالمثقفون و السياسيون يهيمون في وادي و الشعب في وادي آخر. و علاوة على ذلك عدم اتساق المثقف و السياسي و العسكري , فكل واحد منهم اذا ما قفز على كرسي الحكم ألغى الآخر أو أغواه. و في نفس الوقت كان من الممكن ان تسير المركب سير طبيعي اذا أدى كل واحد دوره بجدارة دون تداخل في الصلاحيات و الأدوار.
المجتمع السوداني على مستوى الأفراد و الأسر و المجتمعات الريفية و الحضرية , لا توجد مجتمعات تشبهه في العالم أجمع من حيث قيمة التكافل الاجتماعي. فلماذا تنتهي روح و حدود المسئولية بهذا الشكل الغريب فقط بين المجتمعات و لا تمتد الى حيث المؤسسات الوطنية؟ و لماذا عندما يعتلي كثير من السياسيين و المثقفين و العسكر دفة الحكم يتبدلون الى فلاسفة لا يدينون بدين بيوتهم التي خرجوا منها. و من هنا تبدأ القطيعة و تظهر أشياء أقرب الى الأشباح منها الى البشر. ففشلهم في تحديد الحاجات المادية و الاقتصادية للمجتمع جعلهم يفشلون في نظم الحكم و تكوين المدنيات و انشاء الحضارات , مما أدى الى الاهتمام بأُمور انصرافية لا تهم الناس من بعيد أو قريب , فهذا هو سر الإحباط في أوساط الشعب و الجماهير. فبعد أن جربت كل الأحزاب السياسية السودانية الحكم و بطرق مختلفة كانت المحصلة أن اقتنعت الجماهير بأنه ليس هنالك جديد يُذكر , و ليس هنالك أمل فيما يُسمى بالأحزاب السودانية.
و في خلاصة هذا المقال يمكننا أن نخلص الى أن المجتمع السوداني من أكثر المجتمعات إيغالاً في الحياة الريفية حتى في أطراف العاصمة و بعض الأحيان في قلبها القديم. فالحياة في السودان لا ترقى لأن تكون مدنية. فدوافع المد المدني و الحضاري و الإقتصادي قد كُبلت برغبة السياسة و ممارساتها الغبية اللا مسئولة. فقيمة التشبث بالحياة المدنية و الحضرية و العمرانية ضعيفة بل و غائبة في كثير من الأحيان. و قد تتفاوت هذه القيمة من منطقة لأخرى و من عقل لآخر. لذا قلت الرغبة و الدافعية للحياة بالمفهوم الحديث مما أدى الى الإحباط و الزهد في التغيير. و لكننا من هذا المنبر ندفع شبابنا نحو تلك المفاهيم العصرية الحديثة و التي جعلتنا في مؤخرة الأمم بسبب اليقين الأسطوري و التقليدي. و انهم هم معاول الثورة و هم من يُعول عليهم في استرداد القيم المفقودة و المسروقة.
ان الشعوب و ان تطاول ليلها **** كالشمس تسري في الظلام فتشرق
|
|
|
|
|
|