|
قلق الفراغ ... ذاكِرة الألم عوض عثمان عوض
|
لندن –يناير 2013م
[email protected]
رياح الشتاء البارِدة تلفح جسد المدينة المثقل بالجرح والألم , أصوات الرصاص تطلق بلا رحمة وتتقاذف بطيش مبالغ فيه صوب كل الإتجاهات , من ضد من ؟ من مع من ؟؟ لا أحد آمن في هذه المدينة حتى الشيطان نفسه , كل من يتحرك هو مشروع ضحية بإمتياز , كانت الحرب على فريقين أما الآن فصارت عدة فرق ولا أحد يمكنه أن يتخيل شكل النهاية لهذا الكابوس الجحيمي .. إذا لم يجد الإنسان هدف يصوب نحوه, سوف يطلق النار على نفسه في آخر المطاف ويقول ( تباً لك أيتها الحياة ) .. هذا البؤس الذي يمتد ويطال كل شئ لا أحد يعلم متي سيتوقف , كم يكفي من الضحايا حتى تتوقف هذه الحرب العبثية .. من يلفظ الآخر ويتقيأه المدينة أم البشر ؟ عيون الصغار البريئة تحدق بتأمل وإستغراق صوب السماء عسى أن يأتي فرج من هناك حتى يوقف هذه المهزلة .. الفوضى تمارس طقوس صخبها و جنونها بدقة متناهية في طرقات المدينة .. كرنفال من الحزن والألم يتراقص في مسرح التيه والضياع الأبدي , لم يكن الحضور أناس عاديين , أطياف من الظلال ومن بقايا الأشباح وأشلاء من الجثث لم تجد حتى من يدفنها في الأرض وضحايا لم يستطيعوا السير أبعد من خيالهم المحبط حد السأم .. كانت المدينة في السابق مسكونة برائحة الفل والياسمين , الآن أصبحت رائحة البارود تسود كل مكان .. الفراغ يمارس تسكعه ببراح في البيوت وأرصفة المدينة الخالية إلا من دوي التفجيرات وأصوات الرصاص, النسيم العابر في الصباح يسأل نفسه بذهول هل هذه المدينة نفسها؟ أم أن هؤلاء البشر أصابتهم لوثة الحرب ومشاهد الدماء والدمار ..
تذكرت حديث جارك حين كان يهذي ويكلم نفسه, بصوت مبحوح من شِدة الحزن بعد أن فقد كل أفراد أسرته دفعة واحدة , وأصبح بين ليلة وضحاها يتيم في هذا العالم ..: لماذا تسكنني رائحة الموت أكثر من طعم التوت , ما هذا العالم البغيض الذي نعيشه الآن .. مازلت أسمع صوت طفلتي الصغيرة زينة وهى تصرخ في حضن أمها القتيلة التي نحرت أمام أطفالها, براءة الأطفال لم تشفع لهم عند القتلة .. لا يمكن أن يكون هؤلاء من بني البشر, إنهم شياطين بملابس عسكرية , بل الشياطين أرحم منهم .. وتقولون أن هذا عصر الإنسان , يا لها من خيبة وفوضى ( إن العالم سجن ونحن السجناء, فأحفر فتحة تُخرج منها نفسك ) ...
مهلاً أيتها الرياح الحزينة
خذيني معك صوب المجهول
فلم يعد بمقدوري تحمل هذا العبث
لم تصيبك الدهشة بعد مدة حين سمعت بوفاة جارك .. من يستطيع أن يتحمل كل تلك الآلام والمصائب .. الصمت المعدني يعقب في الغالب حالات الموت هكذا تقول سيرة الفراغ وذاكرة الألم ومرارة الذكريات , وسط ذهول الأشجار والأحجار وهروب الحيوانات والطيور من كل أرجاء المدينة ..هذه الحرب اللعينة لا يدري أحد متى ستنتهي .. الخروج من هذا المستنقع الدامي يحتاج لمعجزة .. لكن للأسف إنتهى زمن المعجزات ونعيش الآن زمن النكبات الكبرى ..
قلت لنفسك بعد يوم طويل من التعب (وحده الصبر قادر على أن ينقذنا سالمين من هذه المهزلة ) لكن هل سيصمد الصبر نفسه أمام كل هذه الفواجع ؟ أم ستنقطع حباله الطويلة في القريب العاجل ؟؟ أجبني بربك أيها الفراغ .. لمحت قطتك الصغيرة التي ظلت وفية لك في تلك الأيام الحالكة .. تذكرت حين قال لك رفيقك ساخراً ذات مرة : أتمنى ألا يأتي يوم تضطر فيه لتأكلها وسط حالة الجوع التي نعيشها .. وواصل بصوت جاد : أعلم أنك يمكن أن تموت بالجوع ولا تأكلها .. بعد عودتك من المقابر جلست تحت ظل شجرة ما زالت متماسكة في الأرض .. تأتي كل يوم إلى المقابر وفي بعض الأحيان تأتي أكثر من مرة .. قلت لنفسك لماذا لا تسكن هنا وتريح نفسك من تعب هذه المشاوير .. بعد أن صارت المقابر أأمن مكان في هذه المدينة .. رأسك مثقلة بالتعب والصمت والفراغ الكثيف الذي يملاء كل شبر في هذه المدينة .. وجدت نفسك بعد لحظات غارق في عالم آخر .. معلق في أقاصي الفضاء الفسيح تسبح في البعيد وتعلو خفيفاً كالريشة .. تحيط بك أطياف كثيفة من الوجوه التي إرتحلت عن هذا العالم .. ومن الناحية الأخرى تبدو شاشات كثيرة بلا عدد تنطق بلغات مختلفة تكاد تعرف البعض منها .. تأتي الأصوات دفعة واحدة لكن بهمس ناعم .. ضوء القمر ينسكب في تلك الأطياف والشاشات .. كانت نفسك فارغة من كل شئ .. كما أنك نسيت كل شئ في حياتك السابقة .. تحاول بشدة أن تجيب نفسك من أنا ؟ وقلت هل هذا السؤال مهم الآن ؟؟ تركت سؤالك معلق في الفراغ بلا إجابة .. تتمعن في مشاهد الغيوم تكاد تلمس السحب العابرة التي تحيط بك .. كانت روحك في حالة إنفصال تام وتبدو منتشية الآن بعودتها إلى أصلها , عوالم أكثر حرية من العبودية , وأكثر ثراء من الخواء , وأكثر محبة من الكراهية .. لقد زالت كل أسباب حزنك وكآبتك والآن أنت في قمة الفرح والسعادة .. إندهشت عندما رأيت قطتك تسبح في ذلك الفضاء .. غمزت لك بعينيها بإبتسامة مشرقة .. تتنسم رائحة عبير مقدسة لا تشبه روائح عالمك الزائل .. تفتحت بصيرتك, إنشرح قلبك, طربت روحك .. لحظات لا نظير لها تفوق كل الوصف والخيال والجنون .. وأنت من هناك رأيت جسدك مسجي تحت الشجرة .. تائه بين الخيط الذي يفصل الحلم والواقع .. تعود وتتمعن في هذا الفراغ المٌدهش الذي يتمدد في حضرة الأفق بلا نهاية .. الآن أصبح كل شئ جلياً بالنسبة لك حين تسود الحقيقة وتملأ عينيك ولا ترى سواها .. ( الآن أنت سيداً لروحك, ولست عبداً لجسدك ) ..هنيئاً لك أيتها الروح العذبة وأنت تتراقصين بهجة وطرب في أروقة الحقيقة السرمدية ..
|
|
|
|
|
|