|
قصة قصيرة بقلم /عليش الريدة العنّابة والشُرّابات
|
03:10 AM Jun, 03 2015 سودانيز اون لاين عليش حسن أحمد محمد-الخرطوم-السودان مكتبتى فى سودانيزاونلاين
لطالما كنت أنا في أعينهم سلبيا،وربما تكون هي حقيقة صرفة ولايمكن إنكارها،وحتي لو حاولت إنكارها فلن أجد أحدا من القرية سينطلي عليه إنكاري هذا، لأن حياة القري كما تعلمون ـ بخلاف المدن ـ تصعب فيها جدا مثل هذه الأمور،أعني محاولات التظاهر والتزين،أو السعي لإخفاء شئ ما،حتي وإن كان هذا الشئ هو حالة من الإمساك الخفيف ألمّت بأحدهم في منتصف الليل..لكن القدرعوضني عن تداعيات هذه الصفة التي تعتبر في نظرهم مشينة بصديقي طه.. فقد كان صديقي هذا من نوع أولئك الرجال الذين يوصفون بالايجابية الفطرية المطلقة، تلك الإيجابية التي تتحول عند اللزوم إلي مكنسة كبيرة وصارمة، لاتدخر جهدا في لم الأوساخ ذات الروائح الكريهة من التردد والانزواء و الخمول وتقذف بها بعيدا في بطن المزبلة القذرة، حيث تستحق أن تكون. ولحسن الحظ أن الناس في القرية علي عكس ما يعاني غيرهم في العالم الخارجي،يستسلمون سريعا لجبرية التحمل والتأقلم مع طباع بعضهم البعض،وقد يرجع هذا الاستسلام إلي نزعات راسخة من التحضرالمجتمعي ، أوقد يكون مجرد مظهر من مظاهر الشح التطوعي العام المتوفرة بكثرة في ربوعنا..لكن علي أي حال لا أحد هنا تغريه شجاعة ما ليحاول تغيير سلبيتي، أو زعارة ما ليحاول السخرية منها..وبنفس القدر لم يكن هناك أحد ــ إلاّ ماندرــ يتمسك كثيرا بالتبرم من الإيجابية المفرطة التي جُبل عليها صديقي..لقد كان هناك تفاهم عام علي وجوب قبول كل شخص كما هو بالضبط دون أية محاولة للزيادة أو النقصان..وربما يكون هذا التسامح المجتمعي الواسع هو الذي حفزنا لنكون صديقين أكثر من غيره من المحفزات..لكن رغم أن الناس كرماءٌ جدا في عدم التدخل في طباع بعضهم، إلاّ أن ذلك الكرم تقابله تلقائية صارمة في ضبط رتبة كل شخص حسب الدور الذي يؤديه أو المتوقع منه لمجتمع القرية..لذلك كنا أنا وطه رغم صداقتنا المعروفة للجميع ،نقبع في درجتين متباينتين تباينا كبيرا في سلّم القرية الاجتماعي ،فقد كان طه بمقاييسهم جنرالا ملهما، وكنت أنا مجرد جنديٌ جوالا. ورغم أني أتفهم بقدر كبير تقويم الناس المنمط للسلبية التي أُوصم بها،إلا أن ذلك التفهم لم يمنعني من الشعورباليقين التام في أنها تحوي كثيرا من المزايا الأكيدة،وكلامي هذا ليس من تأثير الإيحاءات الخبيثة ــ كما عبر طه ذات يوم ـ التي تبثها تلك الكتب التي أدمنتها..إذ أن هناك شواهد حياتية مباشرة في قريتنا تؤيده،كما أني لا أعني هنا بالمزايا، تلك التي تنصب فقط في خدمة الفردية والخصوصية، بل أعني تحديدا تلك التي تصب فعلا في مصلحة مجتمع القرية العام ،أي بمعني آخر أنا أؤمن تماما بأن في السلبية كثير من الإيجابية، ولاأريد أن اتكئ هنا علي تلك الفلسفة القائلة بأن الندم علي السكوت أفضل من الندم علي الكلام، ولاعلي تلك التي تقول بأن خطأ السكون تقصير وخطأ الفعل تدمير..وهي علي أي حال فلسفات لها شواهد عملية في ما نحن نتحدث عنه،إذ كثيرا ما أخطأ طه بطريقة عنيفة وخرقاء في حق أناس أبرياء أثناء تقلباته الإيجابية تلك، بينما أنني لا أذكر علي الإطلاق أنه قد توترت علاقتي بأحد من رجال القرية في أي يوم من الأيام..لكن كما أسلفت ليس هذا ما أود إيضاحه هنا، فما أريد أن أبينه باصرار ،هو أنني أساهم مساهمة كبيرة ــ بطريقة غير مرئية وقد تكون مضطهدة للأسف الشديد ــ في الاستقرار الاجتماعي للقرية،وذلك ببساطة ليس لأني مقبول من جميع أهلها وحسب،وإنما لأني مقبول خاصة من أولئك الرجال ذوي الصفات والطباع والمصالح التي تكون دائما متضادة،وهو أمر طالما كان سهل عندي ــ دونما أي فخرــ أن أظل صديقا مشتركا لرجلين يتقاتلان للحصول علي شئ ما،أو معسكرين يتصارعان في سبيل فرض سياسات ما علي مسار القرية، وتدوم حبال صداقتي متصلة بالجميع بغض النظر عما يحدث في تلك الصراعات..لقد كنت دوما ثابت القدمين علي جزيرة الحياد المحاطة بمياه العزلة المنيعة من جميع اتجاهاتها..الشئ الذي أعتقد أنه إذا تجاسرت معي علي فعله بضعة أقدام إضافية في هذه القرية،فسيكون له دون ريب أثر فعال للغاية في إجهاض تشعب تلك الصراعات، وذلك لأن قريتنا ظلت علي الدوام يمزقها تشعب الصراعات وليس الصراعات نفسها.. بينما صديقي طه لايستطيع أن يفعل بطولات من نوع هذه التي أفعلها حتي وإن كان تحت تأثير تنويم مغنطيسي.. فهو مُصمّم علي كيمياء بسيطة وواضحة ومرعبة ،وهي اتخاذ قرار ما، أبيض أو أسود،ثم السعي الجاد لتنزيل ذلك القرارعلي أرض الواقع قارنا ذلك السعي بالتوزيع العلني للمشاعر طرفية الحماسة ،علي من يقف معه أوضده، ثم العمل علي دهس كل من يعترض الطريق.. وقد يقول قائل بأن هذه أيضا بطولة لا استطيع أنا أن أفعلها.. وأنا أقول لا استطيع أن أفعلها هو أمر لاجدال فيه،لكن أن تكون هي بطولة فذلك أمر فيه كرٌ وفر.. ومع ذلك قد يغرينا التسليم به ، إذا نظرنا إليه من بعض الزوايا الأخري،لكن من نظرتي أنا الخاصة ،من زاويتي أنا الخاصة، فإني أري أن هذه البطولة تحقُّ فقط للأنبياء المعصومين، أما من سواهم من المجرّبين ــ من بني جلدتنا أو من بني تلك الجلود الشاحبة ــ فقد كالوا وأوفوا باسم تلك البطولة من الأذي أصنافا كثيرة..كما أني من اتجاه آخر أحمّل تلك الكيمياء الخرقاء مسئولية حرمان صديقي المفضل من كل تلك المتع البديعة التي تجود بها محاولة أن يفسح المرؤ في دهاليز نفسه متسعا للنقائض من الناس والأشياء،أن يسعي ليكون صدره مثل حافظة الألوان الخشبية التي تكفل لكل لون نفس الفرصة ليرسم نفسه. لكن الشئ الذي يجب أن أقرّ به بإعجاب شديد، هو أن مشاكسات طه كانت دائما ماتموت سريعا.. لم يحدث له أبدا ،أن أدام سيل العداوة أوتبني موقفا مبدئيا تجاه أحد من القرية ،باستثناء جهة واحدة هي عباس حمدان ومجموعته،ولذلك الاستثناء أسباب عديدة،لكن الموقف الأخير بينهما كان أقوي تلك الأسباب وأهمها.. كما سأقص لكم. في ذات ليلة قبل نحو عام ،ألم بأحد صبيان القرية مغصٌ معويٌ حاد،ولأن قريتنا ليس بها مركز صحي،ولأن أقرب مركز يبعد منا حوالي الثلاثين كلم،ولأنه غالبا لا توجد بالقرية عربة جاهزة تماما للتحركات الليلية، لكل تلك الأسباب المألوفة،حاول والدا ذلك الصبي علاجه بما تيسر من الأدوية البلدية المعتادة حتي تشرق الشمس علي الأقل،لكن جميعها لم تؤد إلي نتيجة، فقد تزايدت وتيرة الألم بسرعة عالية، فأخذ الغلام المسكين في النهاية يصيح بأعلي صوته،وماهي إلاّ دقائق حتي تجمعت كل القرية في منزله، وبعد هرج ومرج كثيرين قررت القرية ــ بقيادة طه بطبيعة الحال ــ بأن الغلام لابد أن يُحمل فورا للمركز الصحي، أعقب ذلك القرار بحثٌ مستعجل عن أنسب عربة متوفرة لإنجاز تلك المهمة،وفي النهاية اتفق الناس علي (بوكس) عبد العاطي،لكن كانت المعضلة في أن مصابيح البوكس معطلة تماما ولايخرج منها أي بصيص ضوء..لكن ماكانت معضلة كهذه ستقف بطبيعة الحال في وجه طه،فقد كان عنده حلا جاهزا لها:أن يحمل هو مصابيحا يدوية ويركب علي سطح كابينة البوكس ليضئ الطريق للسائق من أعلي..في تلك الليلة زمجر حتي غلمان القرية من هذا الحل الأخرق،فالكبينة ملساء تماما ولاتصلح للجلوس الآمن، وضوء المصابيح اليدوية لن يكفي لإنارة الطريق،علاوة علي أن الطريق نفسه ملئ بالمطبات الوعرة والخطرة..لكن كان طه قد وصل إلي الحد الكافي من تلك الكيمياء المرعبة الذي أتاح له تنزيل حله المقترح علي أرض الواقع،أو بالأحري علي كابينة البوكس.. ورغم كل الركاكة التي جللت الموقف،إلاّ أن منظر ذاك البوكس عندما تحرك كان رومانسيا جدا،أعني أحاسيس الشغف المتولدة منه والتي سيطرت علي القرية في تلك اللحظات الدافئة ، أحاسيس التكافل والتضامن والتضحية التي أُريقت في مذابح وحدة القطيع..لكن بعد أن قطع البوكس مسافة، وبدأ الناس ينفضون،سمعت من أحدهم تعليقا خافتا ولازعا :هاهو عنترنا يشرع في غزوة وهمية جديدة. ولم أكن احتاج طبعا للالتفات أوالتحديق كي أتبين من هو صاحب هذا التعليق،لكن ما أذكره الآن جيدا رغم مرور كل تلك الشهورالطويلة هو أني قد ابتسمت عندما سمعته،نعم ابتسمت لأني وجدت سخرية التعليق لاتخلو من دعابة رشيقة،ابتسمت رغم أني ملم بكل المعطيات التي أخرجت تعليقا مثل هذا،من شخص مثل هذا،و رغم يقيني التام بأن طه لو سمع تعليقا مشابها في حقي لكانت المعارك قد قامت،أو بالأصح لا أحد يجرؤ أصلا علي قول شئ فيّ بالقرب منه..لكني أنا اختلف عنه، أناحافظة ألوان خشبية،أحاول فقط أن أكفل لكل لون نفس الفرصة ليرسم نفسه. عندما عاد البوكس صباحا،علمنا بأن الغلام كان يعاني من التهاب حاد في الزائدة الدودية، و تكرارا لعبارة الأطباء المفضلة،قال لهم الطبيب الذي وجدوه هناك أنهم لو تأخروا بضع ساعات أخري لفقد الغلام حياته. ظل المسجد دائما هو منتدانا المفضل والوحيد لبحث مشاكلنا ،وخاصة بعد صلاة العشاء،فهي الصلاة التي تحظي عادة بأكثر عدد من الرواد،في تلك الليلة بعد انتهاء الصلاة وقف طه وتحدث بطلاقة وحرقة عن تجربة ذلك الغلام،وعن تجارب سابقة مماثلة لعدد من أهل القرية..كان صوت طه يتهدج عندما قال :ليس هناك حل إلاّ أن ننشئ مركزا صحيا في قريتنا. علت الهمهمات بوضوح بعد اقتراحه هذا،وللأمانة هذا أصعب اقتراح يتقدم به طه من ضمن عشرات الاقتراحات التي سلخها بعد صلوات العشيات في مسجدنا هذا ،فبناء المركز وتوفير المعدات الطبية اللازمة واستقطاب الكادر البشري وضمان استمرارية توفر الدواء،تلك أمور فوق طاقة قريتنا بكثير..لكن طه استمر في حديثه قائلا :اسمعوني يا جماعة،الأمريمكن تحقيقه وليس بمستحيل،أولا نجمع تبرعاتنا المتيسرة،ثانيا لدينا بنائيين وصنايعية في القرية سيتبرعون طبعا بالعمل مجانا،ومواد البناء الخام متوفرة وسنجهز معظمها مجانا،لابد في البداية أن نبني بامكانياتنا المحلية حتي ولو ثلاث غرف، ثم نضع اللافتة و نتصل بكل الجهات المتيسرة ونقول لهم بدأنا مشروع مركز صحي ونريد إكماله. سأل أحد الرجال متحفزا:وماهي تلك الجهات المتيسرة؟ رد طه بطريقة توحي بأنه قد فهم مايرمي إليه الرجل :أبناء القرية المنتشرون بباقي الوطن، وكذلك المغتربون بالخارج،والمنظمات الطوعية ورجال البر.. وخلافه،المهم أن نبدأ الآن في العمل. وواصل طه:ولاتنسوا أيضا أنه لدينا أطباء وممرضين من أبناء القرية. صاح رجل آخر:وهل سيتركون المستشفيات التي يعملون بها ليأتوا للعمل في مركز صحي مؤسس من ثلاث غرف ولافتة؟ وعلت الضحكات متناسية قداسة المكان،لكن طه لا ييأس أبدا :لن نلزمهم بذلك طبعا،لكن يمكن أن يكونوا مستشاريين لنا وسينفعونا جدا في هذا الأمر،يا اخوانا بالأمس كان سيموت منا غلام،وقبله حدثت أمور كثيرة مماثلة،وستتكرر هذه الأمور، نحن لانريد مستشفي تخصصي بمواصفات عالمية، مانريده فقط هو مركز صحي معقول لحفظ الحياة لاغير. وتدخل صوت آخر: والله يااخوانا أنا افتكر فعلا إنو الفكرة ممكنة،وبالنسبة للكادر الطبي، أنا أضمن لكم أن أخي الدكتور صلاح ليس لديه مانع من العودة والاستقرار في القرية وإدارة المركز بعد اكتماله إذا وافقتو،لأنه يفكر منذ زمن في نفس الفكرة التي يقترحها طه. وعلت الهمهمات مرة أخري..ورغم أن الدكتور صلاح المقترح للتو لادارة المركز،هو في الأصل مساعد طبي وليس طبيب خريج كلية جامعية،إلا أن سمعته المهنية الممتازة كانت دائما مثار اعتراف أهل القرية والقري المجاورة. وأخيرا تنحنح رئيس القري وقال :أنا شايف إنو فكرة طه منطقية وتتناسب مع مشكلتنا،سنبدأ من صباح الغد إن شاء الله في وضع خطة لتأسيس الموقع وبعدها نتصل بالجهات ذات الصلة. في تلك الليلة منح المصلون لأسرهم مادة ثرة للسمر والثرثرة بددت الملل في قريتنا لأيام كثيرة قادمة،لكن رغم تلك الثرثرة استمر العمل قدما في تأسيس المركز،وبعد شهرين من تلك الليلة كانت هناك لافتة مثبتة علي مبني رشيق وجميل بصورة لاتتناسب إطلاقا مع باقي المباني في قريتنا،كتب عليها المركز الصحي . وواصل طه في نفس قوة الاندفاع لإكمال باقي الخطة ،ولم يستغرق الأمر أكثرمن شهرين آخرين حتي كان المركز جاهزا تقريبا لأداء مهامه،لولا التدخلات التي حدثت بعد ذلك... فبينما كان الجميع يتهيأ لليوم الذي ستطلق فيه صافرة البداية،وقف عباس حمدان بعد صلاة عشاء وقال كلاما عن أننا يجب ألاّ نفتتح المركز لوحدنا وبصورة عشوائية كهذه.. قال لابد أن نعقد احتفالا كبيرا وندعو المحافظ وباقي الجهات الرسمية حتي تكون دعاية جيدة للقرية،تفتح باب تواصل مع تلك الجهات لإدامة المركز وتنفيذ باقي الخدمات المطلوبة. كل المصلين دون استثناء عدا مجموعته وأنا، انهمروا بالردود الغليظة عليه ..وبصراحة كانت كل تجارب القرية مع الجهات الرسمية في غاية البؤس،لذلك من البداية ،لم يفكر أحد في اشراكها في أمر المركز..ولذلك أيضا اضطر عباس للانسحاب ذليلا في تلك الليلة التي تقدم فيها باقتراحه. لكن يبدو أن انسحابه كان فقط لإعادة تنظيم قواته لشن هجوم جديد وناجح،ولأن القرية كما تعلمون يصعب فيها جدا محاولة إخفاء شئ ما،عرف الناس فيما بعد أن عباس أقنع رئيس القرية بالمكاسب الشخصية والعامة التي ستؤول بعقد ذلك الاحتفال،لكن الرئيس كان لايود أن يدخل في مواجهة مباشرة ضد قريته،فهذا أمر سيسبب له حرجا كبيرا،لكن عباس الممتلئ جرابه دوما، كان لديه الحل المثالي :المركز الطبي ياريس جهة صحية ستقدم خدمات مباشرة للجمهور،لذلك هو بديهيا يتبع لوزارة الصحة حتي وإن كان مشيد بالعون الذاتي،ولكي يبدأ في العمل لابد أن يحصل علي تصريح من وزارة الصحة،والدكتور صلاح يعرف هذا الأمر جيدا ولايمكنه أن يجازف بالعمل من دون ذلك التصريح،وطلب التصريح واعتماده لابد أن يمر عبرك أنت،لأنك أنت الجهة الممثلة للحكومة في القرية، وبهذا التصريح سنلوي يد طه وجماعته حتي يوافقوا علي ذلك الاحتفال. وتماما كما خطط عباس وافقت القرية في النهاية علي عقد ذلك الاحتفال ودعوة المحافظ ،علي أمل أن يبدأ فقط المركز في العمل وبعد ذلك فليحصل رئيس القرية وعباس علي ما يطمعا من مصالح من ذلك الاحتفال.. لكن مرّ شهر وآخر وشهور ولم يحضر المحافظ ولم يعقد الاحتفال ولم يمنح التصريح ..ومازال المركز بطبيعة الحال مغلقا..ومازال بوكس عبد العاطي يشق الليالي العتية متجها لمسافة ثلاثين كلم علي الطريق الوعرعند كل وعكة تستعصي علي الأدوية البلدية المعتادة. وعلمنا لاحقا أن أناسا يعملون مع المحافظ كانوا بالصدفة من شاكلة عباس، استطاعوا إقناع المحافظ بالمكاسب الشخصية والعامة التي ستؤول لو حضر الوالي لذلك الاحتفال،وكان بالصدفة أيضا أناسٌ من شاكلة عباس يعملون مع الوالي،استطاعوا إقناعه بالمكاسب الشخصية والعامة لو حضر رئيس البلاد لذلك الاحتفال،ولأن رئاسة البلاد، خلاف قريتنا كما تعلمون،يسهل عندها جدا إخفاء أي شئ كان ــ حتي وإن كان هذا الشئ هو قطيع من الأفيال تذرف دموع البؤس والهوان في شوارعنا والبيوت ــ لذلك اختفت هناك أخبار ذلك التصريح وذلك الاحتفال ولم نعد نسمع عنها شيئا. لكن القصة لم تنته عند هذا الحد،أو بالأصح كانت تلك قصة القرية العامة،وبقيت قصتي الخاصة، أو ربما قصتي الخاصة العامة،أو العامة الخاصة،أو يمكنكم اختيار أية تسمية تناسبكم بعد أن تسمعوها.. ماأريد أن أخبركم به هو أنني قد لاحظت مؤخرا فتورا من طه تجاهي،لم يعد ذلك البريق يشع من عينيه عندما يقابلني..لم تعد حية عنده تلك اللهفة في خلق اللقاءآت المتكررة ،صرنا نتقابل بالصدف،ونتجول عندما نتلاقى علي حواش الكلام بعيدا جدا عن اللب الكامن في أعماقي الحائرة،كان طه في الواقع يخطط لكي تموت علاقتنا موتا بطيئا وهادئا، تماما كما يموت الناس من السرطانات،لاموتا عنيفا ومفاجئا كما يموت الناس تحت أقدام السيارات. وعندما وجدته أمسك أمسكت..كان يمكنني أن أسأله ببساطة عن أسباب تغيرّه،لكني لم أفعل،طيلة مايقارب الشهر لم أفعل.. وفي آخر صدفة لقاء جمعتنا سألته هروبا، عن المركز الصحي وعن عباس وجماعته،عن تلك الأشياء التي كنت أعتقد أنها من حواش الكلام، وماكنت أدري أني بسؤالي ذاك كنت أقرب ما أكون من الّلب الأليم. رد علي سؤالي باستياء ملول:هل تعلم أن أهل القرية يطلقون علي عباس ومجموعته وماشابههم في تلك الجهات الرسمية لقب العنّابة؟ وأدهتشني جدا تلك الكلمة فسألته :وماذا يعني هذا اللقب؟ :يعني اللبلابة. ورغم روائح الخطورة التي بدت تفوح بوضوح من ذلك الحوار إلاّ أني لم انسحب،وواصلت مترددا :ومامعني اللبلابة؟ قال بضجر:دلالة اللقب في التسلق ياشيخنا..التسلق علي أكتاف الغير من أجل ضوء الشمس والغذاء،وهو أمر يحدث طبيعيا في حالة قصور النبات الذاتي كما تعلم..لكن مايؤلم حقا هو أننا صرنا نملك أكبر مزرعة من العنب واللبلاب في العالم. ودهمني من الغم صنفان، واحدٌ عندما سمعته يتكلم بتلك الطريقة المتشفية عن تلك الألقاب اللئيمة..والثاني عندما سمعته يخاطبني ب ياشيخنا،وكان في السابق يخاطبني ب ياصاحبي. ودفعتني لجة الغموم تلك لمجزرة أفظع من الأولي.. لم أدر لم سألت،لكني سألت:وهل أهل القرية يطلقون عليّ أنا لقبا؟ أجاب دون تردد كأنه كان ينتظر ذلك السؤال:نعم. :ماهو؟ رد هذه المرة في لهجة ممطوطة وواضحة :الشُرّاااب. ماكنت فزعا،فقد شبع الفزع ،كنت مستسلما:ماذا؟الشُرّاب؟ولماذا يطلقون علي لقبا مثل هذا؟ لم يكن هناك حياء،اختفي ذاك الحياء المتفهم،أجاب دون حياء:الدلالة في قدرة الشُرّاب المطاطية ، أنت تعلم أنه يمكنه التماشي مع مقاسات مختلفة من الأقدام ــ كان وهو يتكلم يصنع بيديه حركات تفسيرية بالغة الأذى ــ أي بمعني آخر ياشيخنا هو يخلو من الشخصية ذات التضاريس الواضحة والمحددة . ولم ينطق هو بكلمة واحدة بعد ذلك..ولم أنطق أنا بكلمة واحدة بعد ذلك،فقط درت نصف دورة واتجهت مترنحا نحو منزلي.. كنت موقنا تماما بأني قد تركت للتو خلف ظهري وللأبد الصداقة الحقيقية الوحيدة التي املكها في هذا الكون،كنت موقنا تماما بأن تلك الحافظة الكئيبة قد فقدت للتو و دون رجعة أكثر ألوانها ألقا وبهاء.. لكن رغم التيه المصبوغ في ترنحات اليقين الهذيانية تلك، كنت يقظا كفاية لاتبين همسا ينقر في رأسي متسائلا: هل سئمت القرية أخيرا من الاستسلام لجبرية التحمل والتأقلم؟
أحدث المقالات
- الشريف زين العابدين الهندي وجولته بالشعر في ربوع السودان - الشمال النيلي بقلم الشيخ الحسين 06-02-15, 11:21 AM, الشيخ الحسين
- تنمية غرب كردفان ... الطريق مراقب بالرادار بقلم حامـد ديدان محمـد 06-02-15, 11:18 AM, حامـد ديدان محمـد
- فقط في السودان !! بقلم صلاح الدين عووضة 06-02-15, 11:15 AM, صلاح الدين عووضة
- موسى هلال والأجندة الوطنية بقلم الطيب مصطفى 06-02-15, 11:12 AM, الطيب مصطفى
- تحقق مما إذا كنت سوداني الجنسية حقا؟ بقلم Tarig Anter 06-02-15, 04:42 AM, Tarig Anter
- طهران تتأرجح بين إحتمالات أحلاها مر بقلم منى سالم الجبوري 06-02-15, 04:41 AM, مقالات سودانيزاونلاين
- رحمة الله على سايكس بيكو بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي 06-02-15, 04:38 AM, مصطفى يوسف اللداوي
- لماذا لم يأت إلى غزة مع نظيره الألماني؟ بقلم د. فايز أبو شمالة 06-02-15, 04:37 AM, فايز أبو شمالة
- 16 / 6 يوم الغضب الفلسطيني بقلم سري القدوة 06-02-15, 04:37 AM, سري القدوة
- الصحفي الرياضي فاقد الهوية والمهنية وبلا شخصية بقلم عبد المنعم هلال 06-02-15, 03:57 AM, عبد المنعم هلال
- لوحة معبرة للتفاعل الحضاري الإيجابي بقلم نورالدين مدني 06-02-15, 03:55 AM, نور الدين مدني
- اعادة اكتشاف الإنسان في الفكر الحديث (3) بقلم عماد البليك 06-02-15, 03:54 AM, عماد البليك
- يوميات نيفاشا وصكوك البراءة السياسية لعلي عثمان وفريق التفاوض بقلم خالد موسي دفع الله 06-02-15, 03:51 AM, خالد موسي دفع الله
- خالد موسى وصكوك الإدانة السياسية الكاملة لعلي عثمان وفريق نيفاشا بقلم صديق محمد عثمان 06-02-15, 03:49 AM, صديق محمد عثمان-لندن
|
|
|
|
|
|