وبعد أن نقلتُ في الحلقة الماضية عن بعض العلماء بيان الأدلة الواضحة لبطلان قصة التحكيم بالرواية المشهورة وتوضيح بطلانها من جهة المتن ومضمونها، ومنافاتها للواقع المعلوم المتفق عليه
فالصحيح الواضح يشهد أن موقف أبي سعيد الخدري وعمرو بن العاص كان موفّقاً مسدداً ولم يترتّب على حكمهما خلع لعلي رضي الله عنه لأنه بقي حاكماً في ما كان عليه قبل التحكيم فأي خدعة كانت إذاً ؟! كما لم يترتّب على حكمهما أمراً جديداً بالنسبة لمعاوية رضي الله عنه ، وبعد هذا التوضيح والتنبيه انتقل لبيان بطلان القصة المشهورة من جهة السند فأقول : أنَّ القصة المشهورة في قضية التحكيم باطلة موضوعة من جهة الإسناد تدور على الكذابين والضعفاء , لا يماري في ذلك مبتدئ في طلب الحديث ! فإن في بعض طرقها : أبو مخنف وهو لوط بن يحيى اخبارىٌّ تالفٌ لا يُوثق به وفي بعضها محمد بن عمر وهو الواقدي وهو كذاب ومتروك الحديث وبعضها مرسل منقطع فهو ضعيف لا يصح. إن هذه الرواية المكذوبة في قصة التحكيم تطعن في أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بأنه مغفل وهذا طعْن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل. والطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في عمر رضي الله عنه الذي ولاه أميراً على البصرة وقائدًا على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب عمر في وصيته: «لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين ».فكيف يقرّ عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري أربع سنين وهو مغفل؟! فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام ورجاله مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم. هذه الخديعة ـ لو صحت ـ ما نقصت مما كان لأمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه عند أتباعه شيئًا وما أفادت معاوية رضي الله عنه شيئًا جديدًا زائدًا عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلانًا داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها، وغاية أمرها أنها أشبه بالعبث إذ لا تتجاوز العابث والمعبوث به، وقد برَّأ الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا العبث. لا يخلو قول عمرو بن العاص رضي الله عنه فيما زعموا عليه : «وأثبت صاحبي معاوية» من أمرين :الأول: تثبيته في الخلافة كما كان أولًا، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت، وهو باطل قطعًا؛ فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية رضي الله عنه كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبّته حَكمه فيها بعده، ولم يدَّعِها هو لا قبله ولا بعده، ولم ينازع عليًّا رضي الله عنه فيها. الثاني: تثبيته على إمارة الشام كما كان قبل، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية، وهو تحصيل الحاصل، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئًا جديدًا لم يكن له من قبل؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟! وقد وردت رواية صحيحة تناقض تلك الروايات الموضوعة والمكذوبة والضعيفة تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في (التاريخ الكبير) بسند صحيح وابن عساكر وغيرهما، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما جاء التحكيم التقى مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: «أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عنهم راض».فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «فأين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟».قال: «إن يستَعِن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. ثم انتهى الأمر على هذا فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية رضي الله عنهما بهذا الخبر ورجع أبو موسى الأشعري إلى عليٍّ رضي الله عنهما. أردتُ بهذا التنبيه أن ألفت الأنظار إلى وجوب التحري والتبين والتثبت في قبول مثل هذه الأخبار وسؤال أهل العلم المتخصصين فأعداء الدين وأعداء من نقلوا الدين لا يتورعون في بذل الجهود للتشكيك في هذا الدين وحملته ونقلته مهما كلفهم ذلك ليصلوا إلى مبتغاهم .. وقضية التحكيم بها أبحاث متخصصة متاح كثير منها على شبكة (الانترنت) لمن أراد المزيد.. أرجو أن يعم التنبيه بتصحيح الخطأ في تداول قصة التحكيم ، ولعل وزارة التربية والتعليم تصحح هذه المعلومة ويتم تدريسها وفق المصادر الموثوقة عند أهل السنة والجماعة .. وحماية الدين وحراسته أولى من حماية الأبدان والأموال .. (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون).
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة