|
قصة اغلاق السفارة السودانية بواشنطن
|
الثلاثاء31أغسطس2004
مـن الالـــف الى اليــاء
قصة اغلاق السفارة السودانية بواشنطن
تقـــريــــــــر: ضياء الدين بلال
اغلال ذات اليد .. وضيق هامش الحركة في ظرف تجري كل رياحه بما لا تشتهي سفن الحكومة السودانية لم يكن امام وزير الخارجية مصطفى عثمان من التعليق وابداء الغضب على تصريحات السفير الامريكي قالوشي الذي اعطى جسده راحته كاملة على كرسيه بالسفارة الامريكية على شارع علي عبد اللطيف.. ومن حالة الاسترخاء تلك اصبح يتحدث للصحافة عن كل شيء في السودان كانه الحاكم العام الفعلي للخرطوم وبواديها.. الظرف لم يكن يسمح للدبلوماسية السودانية سوى ان تقول على لسان وزيرها في مؤتمر صحفيتمضغالغمظ « لوكان الظرف غير الظرف الحالي لكان ردنا عليه سيكون مختلفاً!!».
الكبرياء الدبلوماسي الجريح هو الذي فرض على وزير الخارجية السوداني ان يسجل موقفاً في دفاتر الاحتجاج على امريكا.. فرفض استقبال مساعدة نظيره الامريكي كولن باول للشؤون الافريقية كونستين نيومان تضامنا مع اعضاء بعثة السودان في واشنطن الذين يعانون اوضاعا سيئة بسبب البنوك الامريكية الرافضة التعامل معهم.. وفي خطوة غير مسبوقة سلم الدكتور التيجاني فضيل وزير الدولة بالخارجية المسؤولة الامريكية رسالة اعتذار عن اللقاء من الدكتور مصطفى مشددا فيها انه لا يجد مبررا اخلاقيا او سياسيا يجعله يجلس اليها والبعثة الدبلوماسية السودانية تعاني اشكالات مالية مهينة في واشنطون..!!
كانت البداية
بدأت القضية في بنك «ناشيونال ريقزNational Riggs» وهو بنك به حسابات اغلب السفارات في الولايات المتحدة مما يقارب لاكثر من مائة سفارة بواشنطن وهو من البنوك الكبيرة .. السفارة السودانية ظلت تضع حسابها في هذا البنك لمدة ثلاثين عاما دون ان يعترضها عارض او تسجل عليها مخالفة مصرفية... البنك تناولت سيرته الصحف الامريكية خاصة الـ«واشنطون بوست» في الفترة الاخيرة باعتباره قد وقع في بعض المخالفات والتجاوزات غير القانونية ولم يلتزم باللوائح التي توضع لتنظيم عمل البنوك التجارية في تعامله مع سفارتين.. وبناء على هذه التجاوزات تم تغريم البنك 25 مليون دولار واجبة السداد واجبر مديره على الاستقالة وعلى اثر ذلك تم عرض البنك للبيع وتم ذلك في وقت قياسي..!!
رحلة البحث
في مايو الماضي تم اخطار السفارات المتعاملة مع البنك باغلاق حساباتها وامهلوا شهرا لترتيب اوضاعهم وبانقضاء الشهر اغلقت الحسابات وقدمت بقية الارصدة في شكل شيكات معتمدة للسفارات..!!
لم يكن هنالك من خيار امام السفارات المتعاملة مع بنك « ناشيونال ريقز National Riggs» سوى ان تبحث لنفسها عن بنك آخر لفتح حسابات جديدة ... اغلب السفارات وجدت صعوبة اولية في اكمال ترتيبات الانتقال لبنك آخر غير «ناشيونال ريقز.
السفارة السودانية في واشنطون بدأ لها من خطواتها الابتدائية ان هنالك عوائق ما توضع امامها وان هنالك ايدي خفية تحاول ان تقطع الطريق بينها وتلك البنوك التي ظل بعضها يرفض استضافة اموال السفارة السودانية بحزم واقتضاب دون ان تكلف نفسها بصياغة اسباب تبرر الرفض.. واخرى حاولت ان يكون رفضها مهذبا وان كان حاسما.!!
مفاجأة
المعلومات تؤكد بان السفارة السودانية لم تكن تتوقع هذا السيناريو الذي يبدو محكم الصياغة.. خاصة وان علاقاتها مع الدوائر الامريكية طرأ عليها تحسن واضح بعد احداث 11 سبتمبر وانتقلت العلاقة بعد تعاون الحكومة السودانية مع واشنطن في مجال مكافحة الارهاب من مربع العداء والوعيد المتبادل الى شراكة كان من المرتجى ان تتحول لشراكة استراتيجية بعد توقيع اتفاق السلام السوداني .. المهم في الامر ان السفارة السودانية بواشنطون استلمت ارصدتها من بنك «ناشيونال ريقز بعض الاموال النقدية وشيكات معتمدة وظلت السفارة تنفق على نفسها وانشطتها اليومية مما توفر في يديها من نقد.. كما ان الشيكات المعتمدة التي في يديها لم يكن من الممكن الاستفادة منها دون ان يكون للسفارة حساب في بنك محدد .. بدأت الايام تمضي والدولارات تتسرب من الايدي والالتزامات المالية تدخل حيز العسر.. والشيكات المعتمدة الرابضة في الادراج لا تقدم حلا... لم يكن من خيار سوى ان تقوم السفارة السودانية برفع الامر للخارجية الامريكية.. ويبدو ان الخطوة كان الغرض منها التحقق ان كان الرفض الذي تقدمه البنوك موقفا رسميا يستتر خلف اللافتات المصرفية ام ان هنالك امرا آخر.. الخارجية الامريكية وعدت بتدارك الامر عبر تقديم معالجات في نطاق حدود صلاحياتها او ما هو متاح لها من خيارات..!!
قلق الانتظار
تأخر انفاذ الوعد .. وتعسر وضع السفارة التي لم تعد تصلها تحاويل مالية من الخرطوم لعدم وجود حساب يستقبل تلك التحاويل .. قبل اكثرمن اسبوعين اخطرت السفارة الخارجية الامريكية بانها ستضطر لاغلاق مكاتبها نسبة لعدم مقدرتها على الايفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين «مرتباتهم ووسائل الحركة» من وقود ومعينات التحرك.. بل الامر وصل حد عدم مقدرة السفارة تسديد فواتير الكهرباء والمياه لدرجة انه قد تم قطع بعض مباني السفارة من خدمة المياه لعدم السداد ..
بدت الخارجية الامريكية تبدئ اهتماما اكبر وطلبت من السفارة عدم اتخاذ تلك الخطوة بل مضت اكثر من ذلك عندما حددت لها بنكاً تجارياً قالت انه بامكانه استقبال حساب السفارة ومضى الامر اكثر من ذلك حيث التقى نائب مدير بنك «اندستيرال الاتحادي »بالسفير خضر هارون ونقل اليه الموافقة بفتح الحساب بل انه قدم اليه رقم حساب وشيكات مؤقتة.. ولكن المفاجأة كانت تختفي خلف ابتسامة ذلك الموظف الرفيع اذ انه بعد ايام معدودة من ذلك اللقاء وشروع السفارة في اجراءاتها المالية فاذا بها تفاجأ بان الحساب لم يفتح والبنك يخطرها باعتذاره عن فتح الحساب طبقا لقرار صادر من مجلس الادارة.
البحث عن خيارات
مصدر رفيع بالسفارة قال انهم تباحثوا في الامر مع رئاستهم في الخرطوم وتم الاتفاق على ان هنالك استحالة في استمرار عمل السفارة في ظل ذلك الوضع الاقتصادي المتأزم .. ومن حيثيات ذلك تم اتخاذ قرار اغلاق السفارة..!!
وابتدرت السفارة حركة اتصال واسعة بالدوائر الامريكية المعنية بالامر.. واخطرتها بان ما حدث يندرج في ما نصت عليه اتفاقية فينا حول مبدأ التعامل بالمثل... واوردت السفارة كيف ان حكومة السودان سعت لتيسير اوضاع السفارة الامريكية في الخرطوم لدرجة انها اغلقت شارعا رئيسيا مهما يطلق عليه اسم بطل قومي وهو شارع علي عبد اللطيف .. في سبيل توفير ظروف ملائمة لعمل سفارة واشنطون في الخرطوم...!!
رد الخارجية الامريكية على احتجاج السفارة السودانية كان مزيجا من تهدئة الخواطر وتقديم وعود غير ملزمة بالسعي لايجاد بنوك تقبل بفتح حساب للسفارة السودانية مع تأكيد الخارجية بانها ليس من سلطتها ولا في نطاق صلاحياتها الزام البنوك التجارية بفتح حساب لجهة معينة..!!
صيغة مؤقتة
لم تكتف الحكومة الامريكية بذلك.. فقبل ثلاثة أيام اتصلت وزارة الخزانة الامريكية بالسفارة السودانية مقترحة عليها صيغة مؤقتة لتجاوز الازمة لم يكشف عن تفاصيلها لانها لا تزال قيد البحث والتقييم من قبل الخارجية السودانية..!!
قضية اغلاق السفارة السودانية بواشنطن وجدت حظها من الاهتمام في الاعلام الامريكي على صفحات الاخبار وفي اعمدة الرأي وفي المقابلات الصحفية وعبر مواقع السفارة السودانية على شبكة الانتر نت..!!
تفسير
وسالت تفسيرات عديدة وتحليلات مختلفة بحثا عن مكونات ذلك الموقف الجمعي من قبل البنوك الامريكية في واشنطون وخارجها حيال رفض تلك البنوك استضافة اموال السفارة السودانية في سابقة تعد الاولى من نوعها في نظام دولة يقوم في اساسه على الفصل بين السياسي والاقتصادي .. وتقديم اعتبارات المنفعة الاقتصادية على اي اعتبارات ايدولوجية او سياسية.. كما ان توافق المواقف واجماعيتها قد يشير لوجود مركز محدد صدر منه ذلك القرار وقد يكون ذلك المصدر تنظيماً يجمع تلك البنوك..!!
من التفسيرات الواردة لذلك الموقف المتخذ من قبل البنوك الامريكية تجاه السفارة السودانية.. اولها ان هذه المواقف جاءت كرد فعل دراماتيكي للحملة الشرسة التي تواجه بها الحكومة السودانية من قبلها الرأي العام الامريكي ممثلاً في اجهزته الاعلامية ومجموعات الضغط خاصة المجموعات المنحدرة من اصول افريقية وقد كان ملاحظا ان بنك اندستيرال الاتحادي الذي تراجع عن فتح الحساب للسفارة السودانية بعد ان وافق على ذلك وحدد لها رقم حساب ومنحها شيكات مؤقتة تأسس من قبل سبعين عاماً من قبل بعض اثرياء السود في امريكا .. وما يدعم هذا التفسير بان ما حدث هو مترتب على الحملة الضارية التي تواجه الحكومة في قضية دارفور انه جاء بعد مظاهرات عديدة استمرت لمدة شهرين كانت تتم امام السفارة حتى وهي مغلقة وكان آخرها المظاهرة الشهيرة التي القى فيها القبض على الممثل الامريكي «داني جلوفر»..!!
وهنالك تفسير آخر يفيد بان ما تم ياتي ضمن تدابير امنية استخباراتية واسعة النطاق متعلقة بالتداول النقدي والتحويلات المصرفية الآتية من الخارج خاصة بعد ارتفاع نبرة بعض المجموعات الاسلامية بتهديد امريكا من الداخل بضربات ارهابية على نسق 11 سبتمبر .. الامر الذي وسع مظلة الشكوك والريب في اي شئ .. ومن يتبنون هذا التفسير يستدلون بان خمس دول من الدول التي اغلقت حساباتها في بنك «ناشيونال ريقز National Riggs» من بين اكثر من مائة بنك... وجدت نفس الصعاب التي واجهت السفارة السودانية .. هذه الدول الخمس والتي سادسها السودان... هي دول قريبة لافغانستان ومجاورة لها..!!
هذا التفسير يضعف من اعتماده ان السودان خرج وباعتراف الادارة الامريكية من ناطق الدولة الارهابية الى نطاق الدولة المتعاونة في مجالات مكافحة الارهاب وان لم يسقط اسمه بعد من قائمة الدول الراعية للارهاب.. كما ان الاعتمادات التي تأتي للسفارة السودانية هي اعتمادات تقدر بانها محدودة والاهم من ذلك ان مناحي صرفها معروفة للامريكان ويضاف الى ذلك ان الحكومة الامريكية عبر وزارة الخارجية ووزارة الخزانة ابديا تعاطفا وتعاونا مع السفارة السودانية في سبيل ايجاد بنك يقبل فتح حساب للسفارة..!!
وهنالك تفسير ثالث يجمع الاقتصادي والسياسي .. وهو ان البنوك تتحسب من المردود السلبي الذي يمكن ان يترتب على قبول استضافة اموال سفارة دولة تتهم باتهامات متعلقة بالابادة الجماعية والتطهير العرقي ... وتخشى البنوك علي نفسها من هجمة شرسة يمكن ان تواجهها من قبل اجهزة الاعلام ومجموعة اللوبيات المناهضة للحكومة السودانية مثل ما حدث مع شركة تلسمان الكندية..!!
عنصر ضغط
مما يزعج الحكومة السودانية ويمثل لها عنصر ضغط وهي تتخذ قرار اغلاق السفارة بواشنطون ان توقيت هذه الازمة جاء قبل ايام معدودة من انتهاء امد المهلة المقدمة من قبل مجلس الامن للحكومة السودانية في ما يتعلق بالاوضاع في دارفور .. وجاءت الازمة عند اقتراب عودة الكونغرس من اجازته في مستهل سبتمبر بعد ان قرر من قبل في محاضر جلساته ان ما يحدث في دارفور ابادة جماعية.. توقيت الغياب جاء في اشد لحظات حاجة الحكومة السودانية للسفارة لتقوم بدورها الدبلوماسي والاعلامي في مواجهة الحملات الشرسة خاصة وان السفير خضر هارون ظل في الفترة الاخيرة يسجل حضوراً كثيفاً في اجهزة الاعلام والمنتديات الامريكية..!!
عقوبات سابقة
قضية البنوك الامريكية مع السفارة السودانية تعتبر مرحلة بالغة الحرج والتعقيد في سلسلة عقوبات سابقة لا تزال مفروضة على حركة الدبلوماسيين السودانيين في امريكا رغم ان مجلس الامن الذي فرض تلك العقوبات قد قام برفعها في 2001 الا ان هذه العقوبات لا تزال مفروضة على الدبلوماسيين السودانيين في امريكا .. فالدبلوماسيون السودانيون كانت الادارة الامريكية قد فرضت عليهم عدم التحرك خارج نطاق 25 ميلاً في واشنطون ونيويورك دون اخذ الاذن بذلك الامر الذي حد من تحركاتهم حتى في المناسبات الاجتماعية.. والتطور القليل الذي حدث في سياق التماشي مع قرار مجلس الامن برفع العقوبات الدبلوماسية عن السودان حيث تحول اخذ الاذن للتحرك خارج الـ25 ميلاً الى اخطار يتم قبل 48 ساعة تحدد فيه السيارة ورقمها والطيارة وعلى اي الخطوط تتم الرحلة ..
الحكومة السودانية ومن جانبها وعلى اعلى المستويات ظلت تطالب الامريكان بالامتثال لقرار مجلس الامن الذي رفع العقوبات عن السودان.. ولكن الامريكان يردون بابتسامة واعدة بانه سينظر في الامر..!!
رفض وزير الخارجية السوداني الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل مقابلة « كونستن نيومان» يأتي كرد فعل للموقف السلبي الذي تتخذه الادارة الامريكية حيال ازمة السفارة السودانية في واشنطون .. ولكن السؤال المهم هل هذا آخر ما في جراب الدبلوماسية السودانية ام انها ستمضى في تطبيق اتفاقية فينا التي تدعو للتعامل بالمثل في المجال الدبلوماسي الى اقصى محدداتها وتوعز للبنوك السودانية بعدم التعامل مع السفارة الامريكية.. وتطلق سراح شارع علي عبد اللطيف من قبضة السفير قالوشي وحراسته الاسمنتية.. وتجعله يعتدل في جلسته عندما يتحدث عن السودان..!!
_________________________________________________________________
|
|
|
|
|
|