|
قريب الله الانصارى – فى ذكراه الاولى بقلم عبد آلمجيد على حسن
|
اول لقائى بالراحل العزيز قريب الله كان فى مايو/يونيو 1964 حيث تم تعييننا بجامعة الخرطوم انا كمعيد بكلية العلوم - قسم النبات وهو كمساعد محاضرفى كلية الاقتصاد والعلوم السياسيه وذلك بمجرد عودته من بلغاريا وقد حصل على الدرجة العلمية المؤهله في الاقتصاد السياسى. وعلى كر السنين والعقود قويت واشتدت اواصر هذه العلاقه بفضل عوامل اخرى عديده منها امتداد حبل هذه الصداقة المتين لتشمل شقيقه المغفور له حامد الانصاري ثم لاحقا شقيقاه المغفور لهما الجيلى وبرير إضافة الى مصاهره اسريه احكمت تقارب الرؤى والامزجه حول العديد من مناحى الحياة خاصة والراحل المقيم قد إتسم تفكيره ومعالجته لكل الامور بالمنهجية العلميه الصارمه بفضل دراسته الجامعية الاولى فى علم الرياضيات. وبقدر ما افتقد فى قريب الله الحميمية الصادقة التى كانت تجمعنا على مدى نصف القرن من حيواتنا فإن الاعوام آلثمآنية عشر الاخيرة بالذات من خريف أعمارنا شهدت تطابق ظروفنا العامة وتشابه همومنا الشخصية خاصة من حيث البعد عن الوطن و الاهل إذ مازلت - وقد انصرم العام منذ رحيله عن دنيانا - انوء بذلكم القدر من الحزن القابض الممض على فقدان صديق أثير كان قسيمى وحشة الاغتراب ومرارته. ومن على هذا البعد عن الوطن والايام تدبرعنا سراعا لم نكن نملك الا إجترار ماضى ذكرياتنا فيه ومضغ احزاننا وحسرتنا على مآله فنأسى على بلد طالما احببناه يتسرب من بين ايدينا وينزلق فى وتيرة متلاحقه الى اخدود التفتت والضياع على يد حفنة من ابنائه اختطفوا مقوده فى غفلة من الزمان فصار هوانا علي الناس وعلى بلاد وشعوب كانت ترنو وتشرئب أعناقها كى تضاهينا منعة وعزة وكرامة. لا اود فى هذه العجالة ان استطرد معددا مناقب صديقي الراحل ولا ان اشيد بصفاته وخصاله بل ساحاول ان اقف قليلا عند محطات معينه فى مسار حياته وحافل تاريخه وعطائه لشعبه ووطنه وهو يتمسك بقيم اصيلة وساميه ينظمها عقد نضيد من المواقف المبدئية النبيله التى ما حاد عنها قيد انمله حتى تاريخ رحيله عنا. كما واثق ان استعراض بعض الاحداث الهامه التى عاصرها وعايشها ثم القاء بعض الضوء على مواقفه منها وقدر اسهامه فى صياغتها وتشكيلها تمكننا من النفاذ الى مكنونات الراحل قريب الله ومدى اتساق تلكم المواقف مع مبادئ الحق والانتصار للوطن والشعب. وفي هذا فما انا بصدده لايعدو كونه إضاءات جانبيه على مسرح حياته آمل ان تعين على تلمس ابعاد هذه الشخصية السودانية الفذه اذ لاادعى اننى امتلك ناصية الحقائق المطلقه ولا مطلعا خبيرا بدقائق الاحداث التى اتعرض لها - حتى وان عاصرتها وكنت جزءا منها- فان اعتور نقلى لها بعض الهنات فمردها ثقوب فى الذاكره بفعل الزمن وطول الامد. بيد اننى فى اطارهذا السياق السردى لا اعدو كونى شاهدا على البعض القليل منها وهو امر تأتى لى من خلال إقترابى الشخصى منه ونتاج عوامل عديده اهمها تلاقى المسيرة المهنية لكل منا في مجال قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعيه فى بلدان العالم الثالث من خلال الدبلوماسيه متعددة الاطراف وبالذات من خلال منظمة الامم المتحده وبعض وكالاتها المتخصصه. إضاءه اولى:- مؤتمر باندونج – ابريل 1955 وفد السودان الرسمى ترأسه إسماعيل الازهري وبمعيته مبارك زروق وحسن عوض الله الى جانب خليفه عباس عن وزارة الخارجيه. أثق فى اننا جميعا ندرك ونعى اهمية الدور المفصلى لهذا الؤتمر فى مسيرة الحركة الإستقلاليه وبلورة الرأى العام السودانى تجاه خيار الاستقلال الذى اعلن من داخل البرلمان فى 19 ديسمبر1955. كما واثق فى ان الكثير منا قد وقف على مشاركة الوفد السودانى وما تعرض له من ضغوط ومضايقات على يد الوفد المصرى وجمال عبد الناصر شخصيا واعتراضه على تكوين ومشاركة السودان كدولة مستقله عوضا عن المشاركة كجزءً من الوفد المصرى بحكم ثنائية الحكم الاستعمارى. بيد ان الوفد السودانى ضم - وإن بطريقة غير رسميه – كلا من قريب الله الانصارى ودفع الله الحاج يوسف ممثلين ليس فقط عن الحركة الطلابيه الشبابيه النافذه انذاك بل وسياسيا المد اليسارى المتنامى ممثلا فى الجبهة المعاديه للاستعمار والمد الإسلامى القادم من مصر ممثلا فى حركة الاخوان المسلمين على التوالى. وكالعاده لايتوفر الكثير من قبيل الرصد والتوثيق الارشيفى لهذا الحدث الهام سواءأ بالنسبة للسودان أو حتى لحركة عدم الإنحياز ومجموعة ال77 اللاحقه. إثرها طفقت المجالس السياسية فى الخرطوم تتحدث عن المواجهة التى وقعت بين اعضاء الوفد السودانى من جهة والوفد المصرى من جهة اخرى حيث إحتدم النقاش وعليت الاصوات فى قاعات وردهات المؤتمر مما استدعى تدخل شو ان لاى متوسطا وتمثل الحل الوسط فى ان قبل جمال عبد الناصربأن يعتبر المنديل الابيض الذي رفعه مبارك زروق على سن القلم كالسارية علما مؤقتا لدولة السودان. ولقد جاءت هذه الواقعه بمثابة اول إعلان عملى حول استقلال السودان أعقبه الاعلان من داخل البرلمان بعد ثمانية اشهر فى ديسمبر 1955. وكان دور الوفد غير الرسمى فى المؤتمرمحط الاحاديث والتاويلات الهامسه والمواربه فى مجالس الخرطوم السياسيه والتى لا اريد ان اتعرض لها الا بقدر مايتصل بالظروف السياسيه السائده آنذاك. ولعل اهمها الشد السياسى فيما بين الاتحاديين والاستقلاليين ( أحدث أول مارس 1954 ) ثم العداء السياسى الصاخب بين عبد الناصر والاخوان المسلمين عقب أحداث المنشيه وإرهاصات الصدام السياسى بين الشيوعيين وثورة يوليو المصريه فى اعقاب الصدامات والاعدامات العماليه فى المحله الكبرى. ونجم عن تداخل هذه العوامل انطباع لقي صدى ورواجا فى اوساط غلاة الاتحاديين عن ثمة تدابير تامريه هدفت الى عزل مصر عن السودان واضعاف دورها فى الشأن السودانى واعتبرت هذه الأوساط ان هذه الحمله إنطلقت ببداية انعقاد مؤتمر باندونج عندما تطابقت وتلاقت مواقف اليمين واليسار فى العداء لمصر. مايسترعى الانتباه فى هذا الصدد أمران :- اولا:- الوعى السياسى المبكر للراحل قريب الله ومدى إنغماسه فى العمل الوطنى العام ليتبوأ ذلكم الموقع مع عظماء رموز تاريخنا الوطنى ولما يبلغ العقد الرابع من العمرفيتأتى له ان يشارك ممثلآ عن السودان- ولو على نحو غير رسمى- فى ذلكم التجمع المفصلى فى تاريخ وتطور الحركه الاستقلاليه فى السودان. ثانيا :- يثور السؤال : هل كان قريب الله الانصارى حقيقة من المناوئين لثورة مصر ولقائدها عبد الناصر؟؟ يدحض مثل هذا التساؤل حقيقة انه لما يمض العام ونصف على أعمال مؤتمر باندونج حتى وقع العدوان الثلاثى على مصر ( آخر اكتوبر 1956) فكان قراره الشخصى المساهمه فى صد هذا العدوان على الشعب المصرى وثورته. ودون ان يخبر احدأ حتى اقرب افراد اسرته بما انتوي وعقد العزم عليه سافر خلسة الى مصر لينضم الى الفدائيين المصريين فى مدن قناة السويس. ولم يكن ذلك القرار اندفاعا عاطفيا او رد فعل طائش وانما كان ترجمة حقيقية لمبادئه التى كانت تحكم مواقفه الاساسيه وعلى راسها التضامن والانتصار لكل الشعوب عامة وللشعب المصرى خاصة ضد المستعمر وذلك استلهاما للروح والمبادئ التى كان يؤمن بها واحكم ارساءها مؤتمر باندونج. كما لم يكن إقدامه على السفر إلى مصر بايعاز او توجيه سياسى من الحزب الشيوعى السودانى ولكنه كان قرارا شخصيا نابعا من قوة إيمانه وعزيمته ثم تمسكه بمبادئه وقناعاته الراسخه التى ظل يهتدى بها فى حياته العمليه ليس فقط فى السودان بل وهو يعمل في الامم المتحده فى خدمة شعوب جنوب وغرب القارة الافريقيه.
إضاءه ثانيه :- ثورة اكتوبر 1964 لما يمض على استيعابه فى وظيفة مساعد محاضر بجامعة الخرطوم فى يوليو 1964 حتى إنتفضت البلاد فى اكتوبر من ذات العام إثر مقتل الشهيد القرشى. وأخذ نادى الاساتذه الذى تم إفتتاحه قبلها بشهور موقعه ودوره فى تكوين وتفعيل نقابة اساتذة الجامعه كأحد اهم ركائز جبهة الهيئات الى جانب القضاة والمحامين ثم الاطباء والعمال وكافة القوى والفصائل.. وفى البدأ تباطأ بل وتردد عدد من الا ساتذة القدامى تجاه اعتبار المعيدين جزءا من هيئة التدريس ولكنهم رضخوا للضغوط المتناميه من قبل المعيدين الذين تزعمهم قريب الله الانصارى. ومن ثم برز دوره بشكل واضح فى اوساط هيئة الاساتذه وشهدت قاعة الاجتماعات رقم 102 بكلية الاداب صولات وجولات قريب الله التى اظهرت قدراته القياديه والتنظيميه مما مكن هيئة اساتذه الجامعه من تبوء دورها القيادي الى جانب نقابة المحامين والقضاة فى تسيير موكبهم الشهير من امام مبنى القضائيه والذى شاركنا فيه ونحن نلتحف الروب الجامعى كجزء اصيل من هيئة التدريس الجامعى. ومازالت صورة قريب الله ماثلة فى مخيلتى بطوله الفارع وهو يعتلى " اللورى" الذى حمل نعش الشهيد القرشى الى قرية القراصه كما ولا يزال صوته يرن فى اذنى وهو يتصدى مصادما لخصومه السياسيين داخل القاعه "102" لكلية الآداب فى اجتماعات هيئة الاساتذه. ولم يلبث بعدها الراحل قريب الله ان صار رقما مشهودا داخل جبهة الهيئات وقد تراس الفصيل التقدمى الفاعل والنشط في هيئة اساتذة الجامعه وبالتالى ترأس ذات النفر من الأساتذه الذين استكثروا على المعيدين عضوية نادي الأساتذه. وماكان دوره فى هذا المنعطف إلا إمتدادا لدوره قبلها فى أوساط الحركة الطلا بية النافذه فهو الذى ابتدع بخلفيته العلميه فى الرياضيات مبدا التمثيل النسبى فى انتخابات إتحاد طلبة جامعة الخرطوم وذلك بإعتراف القيادى الإخوانى الدكتور على الحاج. وخلال المرحلة التى تلت ذلك وإبان حملة الانتخابات الساخنه التى اعقبتها داخل الجامعة لانتخاب مدير جامعة الخرطوم كانت مجالس نادى الأساتذه تردد فى تهكم و سخريه قول أحد كبار الأساتده ممن كانوا يتطلعون لذلك الموقع مخاطبا قريب الله فى اعقاب إجتماع صاخب لهيئة الاساتذه ".... منعناك من الدخول بالباب نطيت من الشباك.....!! " اشارة الى اعتراضه داخل مجلس الجامعه على اجازة قبوله معيدا. ويشاء القدر أن تأتى مسيرة الراحل بمنظمه العمل الدوليه مقرونة بعطاء وإسهام أفذاذ السودانيين الذين عملوا بالامم المتحده أمثال مكى عباس وأبورنات ومحمد عثمان ياسين الى جانب حمزه ميرغنى ويحيي عبد المجيد. ثم تأتى مسيرة ذلك الأستاذ الكبير فى اوساط المنظمه الدوليه ووكالاتها المتخصصه يلأحقها الفشل المدوى وهو ينتقل من وكالة الى أخرى فما ترك فى اوساط من عاصروه سوى سيرة تنضح بالنرجسية المفرطه والاخطاء المهنيه .
إضاءه ثالثه:- التخطيط الإقتصادى إرتبط اسم الراحل قريب الله بأول محاولة وجهد جاد تجاه وضع خطة خمسية حديثه للبلاد إبان توليه وكالة وزارة التخطيط الإقتصادى فى أعقاب ثورة مايو 1969 التى لم تلبث ان إعتقلته إثر احداث شعبان ولما يتسن له إنزالها على أرض الواقع وهو الذى رفض من اجل التفرغ لوضع هذه الإستراتيجيه منصب وزير التخطيط الاقتصادى عندما عرض عليه وذلك فى تجرد ونكران للذات قل ان تجد له نظيرا. ولاتملك إلا أن تعجب اليوم من الذين قفزوا على "عمدان" سياسة التمكين التى ابتدعها نظام الإنقاذ فاحتلوا مواقع مفصليه فى الخدمة المدنية السودانية دونما علم او خبره فصارت هزواً ومسخرةً تتحدث بها الركبان. وبعد حصوله على الدكتوراه فى انجلترا إلتحق بمعهد التخطيط الاقتصادى بداكار - السنغال تحت إدارة الاقتصادى المصرى الدكتور سمير امين. وعندما تقدمت السويد باقتراح انشاء وتمويل فريق يدعم التخطيط الإقتصادى لدول الجنوب الافريقي من خلال دعم العماله تحت مظلة منظمة العمل الدوليه تم تعيينه رئيسا لذلك الفريق ومديرا لمقره فى لوساكا – زامبيا. Southern African Team for Employment Promotion ( SATEP) وإنطلق قريب الله كما شأنه دائما فى منهجية علمية صارمة ودقيقه فى صياغة استراتيجيات وبرامج عمل متكامله لما يربو عن اثنى عشر دولة من دول الجنوب الافريقي مما انتزع اشادة ليس فقط منظمة العمل الدوليه بل وكل حكومات ووزراء قطاعات الاعمال والتخطيط الاقتصادى والاجتماعى لمجموعة دول الجنوب الافريقى فاصاب قدرا غير مسبوق من النجاح تمثل فى العلاقات الرسمية والشخصية الوثيقه التى اقامها مع كبار المسؤلين والوزراء المعنيين بهذه القطاعات فإستقطب الاحترام والتقديرمن كل اللذين إلتقاهم وعمل معهم حتى تقاعده بالمعاش. وإبان عملى بجنيف سفيرا لدى الامم المتحده بمقرها الاوربى تكثف تواصلنا إذ كانت منظمة العمل تستدعيه لمهام خاصه ثم لللمشاركة فى ألأجتماعات الدورية السنويه لجمعيتها العموميه. ثم تمدد هذا التواصل بعد إحالتى الى المعاش الاجبارى فى اغسطس 1989 وقيامى ببعض المهام الاستشارية للامم المتحده بالقارة الافريقيه ومن بينها بعض دول الجنوب الافريقي فشهدت عن كثب كيف تأتى له خلق تلك العلاقات الرسمية والشخصية مع المسؤلين فى البلدان التى كان معتمدا لديها ومدى االاحترام والمشاعر الطيبه التى كانوا يحملونها تجاهه وهو يسارع فى الاستجابة لطلباتهم الاستشاريه وتقديم المشورةالمخلصه عن طيب خاطر وحماس دافق. وماكان السودان ليغيب عن خاطره يوما واحدا وهو منغمس فى مهام ونشاطات الفريق الذى يتراسه وقد تضاعفت مسؤلياته إذ عندما تقدمنا بطلب سودانى رسمى لمنظمة العمل الدولية كى تتولى رسم وصياغة استراتيجية متكامله للقوى العاملة بالسودان اختارت المنظمه الراحل قريب الله كى يرأس فريق الخبراء الذى كونته وكان من بينهم الدكتور/ سمير رضوان وزير الماليه المصرى السابق. وصدرت الاستراتيجيه المتكامله فى ختام نشاط دؤوب استغرق عامين فى شكل كتاب تزيد صفحاته عن الثلاثمائه كان من المقدر ان يصادق عليه رئيس الوزراء الصادق المهدى وذلك بالتوقيع عليه اعلانا باجازة الاستراتىجيه فى اجتماع احتفائى خاص كان من المقرر ان ينعقد فى جنيف فى سبتمبر 1989 بحضور رئيس الوزراء السودانى. وجاءت "إنقاذ" الثلاثين من يونيو 1989 لتعاجل هذا الجهد وتصيبه فى مقتل اذ إنكبت على تبديد اسس الخدمه المدنيه السودانيه المتميزه وتشريد نخبها وقياداتها فى كل الأصعده على نحو مايعلم الجميع.
إضاءه رابعه :- السودان ودول الجنوب الأفريقي :- عندما إستقلت ناميبيا فى مارس 1990 وشرع قادتها الوطنيون الجدد فى بناء دولتهم المستقله جوبهوا بعراقيل كبيره خلقها وتركها لهم المستعمرعن قصد وسوء طويه. كان على رأسها تدنى البنى التحتية الاساسيه وبالذات النقص المريع فى الكوادر البشريه لادارة الدوله فى ادنى مستوياتها من المرافق العامة ناهيك عن تلكم المتعلقه بالوزارات السياديه وقوى الامن الداخلى ومختلف القوى النظاميه وتسيير دولاب العمل من خلال منظومة مالية ومحاسبيه ثم مكاتبيه. وكان الراحل قريب اللة من اوائل من قاموا بزيارة العاصمه "ويندهوك" وتعرف على مشاكلها وتفاصيل ماتواجه من مصاعب عن قرب والتقى المناضل "سام نجومو" رئيس منظمة شعوب جنوب وغرب افريقيا " "SWAP O سوابو- "التى قادت النضال الناميبي ضد الدولة العنصريه. وفى السودان كانت حملة اغتيال الخدمة المدنية على اشدها وموجات الاحالة الى المعاش فى ذروتها وهى تطال المئات فى كل مرافق الدوله عسكرية كانت او مدنيه . وصدف ان اخذتنى مهمة استشاريه للامم المتحده الى "هرارى- زمبابوى" والتى كان الراحل قريب الله قد انتقل اليها وفريقه من "لوساكا - زامبيا". كان يشغل بالنا مصائر ومآلات الكثيرين من اصدقائنا وزملائنا بل وسائر افراد الشعب السودانى يطاح بهم الى الشارع ليجدوا انفسهم دونما سند مادى او موارد ودونما مستقبل لهم ولافراد عائلاتهم القريبة والممتده. ثم كان الهم العام ثقيلا واشد وطأة على كلينا ونحن نرى هذا الكم الهائل من الخبرات فى كل مجالات الخدمة المدنية السودانية المشهود لها بالكفاءة والانضباط وهى تهدر تماما وتذروها رياح القوى الظلاميه. وبوعى كلينا الرصيد الطيب فى اوساط شعوب جنوب افريقيا وبالذات فى زامبيا عندما تم تشييد ثم ادارة وتشغيل خط السكة الحديدعلى غرار سكك حديد السودان من داخل الحزام النحاسى الى الشمال الغربى من البلاد على يد خبراء ومهندسين سودانيين بحيث ظل هذا المرفق شاهدا على قدرات الكوادر البشرية السودانيه من مهندسين وفنيين وعمال. تمخضت مناقشاتنا عن رؤية مشتركه بسيطه لكن عظيمة الاثر تمثلت فى ان نبذل كل الجهود تجاه ان تستوعب الخدمه المدنيه الناميبيه الخبرة والدراية السودانيه التى اهدرتها حكومة الانقاذ. والفكرة على بساطتها كان من المقدر لها ان تكون عظيمة الاثر للتالى:- أ) هؤلاء الخبراء كانوا سيمثلون النواة الاولى للخدمة المدنيه الناميبيه ومن ثم يستقطبون الكوادر المتخصصه والوسيطه من ضحايا الانقاذ وبذلك يتعاظم الدور والنفوذ السودانى داخل مختلف الاصعده بشكل مضطرد فى الجنوب الافريقى عامة. ب) تخفيف صدمة الطرد والاحلات الى المعاش الاجبارى وتأثيرها الاجتماعى والاقتصادى السالب على المجتمع السودانى. ج) كان من مصلحة النظام – إن كان له قليل من بعد النظر- ان يتخلص من هذه العمالة الفائضة والمقتدره حتى لا تكون شوكة فى خاصرته. كانت لى صله قديمه طال بها العهد بالمناضل "سام نجومو" تعود الى اوائل السبعينيات وانا اعمل ببعثة السودان الدائمه لدى الامم المتحدة بنيويورك وبعدها مديرا للإدارة الإفريقية برئاسة الخارجيه ثم الى اوائل الثمانينيات عندما كنت اعمل منتدبا مع برنامج الامم المتحده الانمائي. وعن طريق الراحل قريب الله ومن خلال محادثة هاتفيه بينهما تسنى لى ان اذكرالسيد نجوما بالعلاقة القديمه وان اعيد تقديم نفسى اليه. وكان الراحل العزيز أكثر حماسا واندفاعا تجاه دفع هذه الفكرة فتولى دراستها علميا ك " فكرة مشروع " ليتم تقديمها للمناضل سام نجومو ورفاقه من المسئؤلين الناميبيين على نحو غير رسمى وفى اطار الفكره الاساسيه . وتوليت صياغة المذكرة التي كان من المفترض ان تصدر عن الخارجية السودانيه الى دولة ناميبيا وذلك نزولاعلى المتطلبات الاجرائية والقانونية المسبقه لتسويق المشروع وتامين تمويله وتنفيذه. كنا قريب الله وشخصى على قناعة راسخه بان ورود اى من اسمينا - حتى ولو من بعيد – بهذه الفكرة كفيل بوأدها وذهاب ريحها. إثرها خاطبت على المستوى الشخصى البحت السفير على سحلول أو السفير جعفر ابوحاج عليهما الرحمه - إذ لاأذكر ايهما على وجه التحديد- بحكم الزمالة المهنية القديمه متوسما فيهما بقية من موضوعية ومهنية خالصه وكانا فى بداية خوضهما فى مستنقع الانقاذ. خاب ظنى تماما اذ لم يحرك احد ساكنا فماتت الفكره تماما وقبرت موؤدة لم تجد من يروج لها او ينافح عنها ولا أعتقد ان احداً ممن دفعوا بهم إلى حوش الخارجيه من كوادر الانقاذ تأتت له الملكة او القدرة على تفهم مرامى واهداف الفكرة على المدى القصير او الطويل. وما من لقاء جمعنى والراحل قريب الله وطوفت بنا الذكريات حول هذه المرافئ والمحطات حتى رحيله عنا الا وتجد الحسرة قد ملكت جميع اقطابه على ضياع هذه الفرصة على السودان. ومن ينبيك عن اقتصاد ناميبيا الواعد وبنياتها الاساسيه ثم خدمتها المدنية اكثر من قريب الله خاصة وهو من على ذلك القرب يرى عن كثب وهو فى حسرة عظيمه حشود الافارقة البيض قد عادوا واستعمروا ذلكم البلد الفتي من جديد وذلك من خلال احتكار الخدمة المدنيه واحتلال مايزيد عن 80% من مجالاتها ومستوياتها فيمتصون فى نهم كاسح رحيق ثرواتها البكر من خلال تمكين شركاتهم ومؤسساتهم المالية والاستثماريه الشرسه من اقتصادها ومقدراتها. إضاءه خامسه:- طيلة الاعوام الخمسون الماضيه ظلت علاقتى بالراحل على وتيرة هادئة لم تشبها شائبه رغم االاختلاف البين فى توجهنا السياسى فقد كان يعلم ان المبادئ السياسيه التى كان يؤمن بها والفكر السياسى التى كان يعتنقه لم يجدا قبولا لدي منذ تعرضى لها بمنتصف الخمسينيات. رغما كنت اقرب الى اليساريين من غيرهم منذ ان تفتح الوعي السياسى لدى فى السنوات الباكره من عمري وانا أرقب الكثيرين من اقربائى النشطاء سياسيا تطاردهم الشرطه ويودعون فى السجون والمعتقلات. وجاء احساسي بالظلم الماحق الذى وقع على عشيرتى النوبيه جراء اتفاقية مياه النيل عام 1959ومقاومتهم للاتفاقيه واغراق قراهم ومواطنهم ثم مناهضتهم للنظام الحاكم فى الخرطوم لتجدنى فى معية زمرة مرتادى السجون والمعتقلات السياسيه من أهلى النوبيين. وأشهد بان الحزب الشيوعى وحده من دون القوى السياسيه التى كانت تصطرع على الساحة السياسيه هو الذى وقف معارضا لاغراق المنطقة النوبيه وسياسات الحكومة تجاه تهجير النوبيين حتى سقوط حكومة عبود فى اكتوبر 1964 . هذا الاستطراد املته ضرورة القاء مزيد من الضوء على ماجاء فى صدر حديثى عن قربى اللصيق بالراحل قريب الله والموده الصادقه التى كانت تجمع بيننا اذ كان موقفه تجاه هذه القضيه فى لقاءآتنا بنادى اساتذه الجامعه عام 1964 هو المدخل الاساسى لقيام هذه العلاقه ورسوخها على مر السنين. كان كلانا يحترم راى الاخر وقناعاته الفكريه دونما شطط او تشنج ونحن نتعرض لكل ما يعن لنا من مواضيع تمس الشأن السياسى سودانيا كان او اقليميا او عالميا اذ كان قارئا نهما ومطلعا حصيفا على كل ما يستجد من مواقف وافكار وتطورات فلا يفوت المرا ان يدرك ويحس من أول وهله بأن مواقفه وقناعاته قد نضجت على نار هادئة من الاطلاع والتمحيص وعبر مدىً زمنى لايستهان به. وخلف ذلكم الوجه الجاد و القسمات الصارمه كانت هنالك غلالة رقيقه تخفى وراءها روحا مرحة متوثبه تستجيب فى ضحك ضاج ومعد للنكتة الذكيه والملحة الطريفه فينهال منه شلال هادر من النوادر الطريفه والمفارقات الساخره حتى وان كانت على نفسه . لم يكن يحب الحديث عن نفسه الا فى معرض حدث تاريخى او موقف معين اسهم فيه شخصيا او شهد وقائعه بنفسه وذلك فى اقتضاب وامانة متناهية فى النقل والسرد. وعندما يحتد النقاش ويتبعه جدل ساخن يشتم فيه قريب الله اقل القليل من التعريض بمصداقيته تخرج الكلمات من فيه كما طلقات المدفع الآلى.. ... ( ... شوف....!!..أنا فى حياتى ما كضبت ولا مره واحده......!!!). وعندما يخرج مخزونه من شرائط الكاسيت واغلبها لمطربه المفضل عثمان الشفيع فى "القرشيات" ويديرها فى ساعة صفاء يذهب ذلكم القناع الجاد عن وجهه وتستريح ملامحه تماما ليغوص فى اعماق ذكريات ذلك الزمن الجميل وفى مجالسه ومنتدياته بمعية احبابه من الاصدقاء والزملاء. عندها تنشرح قسماته وتنهمرمنه حكاوى وقصص تلقى الضوء الكاشف على تفاصيل مواقف واحداث فى ساحة الحراك السياسي الوطنى منذ اواخر الاربعينيات ظلت خافية على الكثيرين. وعندما يستثار كى يكتب عنها ويسجلها كواجب وطنى وتاريخى كان يردد انه من الأولى ان تتكاثف وتنصب الجهود الآنية تجاه إنقاذ وإخراج السودان من وهدته الحاليه قبل فوات الاون إذ يكفى ان ذكرياته عن تلكم الاحداث والمواقف التاريخيه مازالت "... تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليد...". ولاول مرة اقول لراحلنا العزيز .. " ...لكم أخطأ كلانا التقدير ياصديقى !!! فأنت لم تكتب وانا لم اسجل..!!!". إضاءة اخيره :-
كما عادة السودانيين من أهل الشمال النيلين فى احلال حرف ال " ق " محل ال " غ " فى النطق وكذلك بالعكس فينقلب المعنى الى عكسه تماما فقد كان الراحل العزيز لا يستسيغ مناداته ب "غريب الله" بدلا من "قريب الله" وشتان ما بين مقاصد الاسمين لغويا ولكنه الخطأ الشائع. وبتقديرى الخاص فقد كان هذا الموقف عائدا الى قناعات الراحل بان لا تعارض او مصادمه بين الشيوعية والأديان وعلى رأسها الدين الإسلامى وقد كانت له رؤى ووجهات نظر حول هذا الامر يجاهر بها فى كل محفل او منتدى ليس هذا مجال استعراضها وتقييمها. وفى اخريات مايو 1989 جائتني وزوجتى دعوة من وزير الحج والاوقاف السعودى لاداء مناسك الحج وقد تصادف ابانها تواجد الراحل المقيم بين ظهرانينا فى جنيف لاجتماعات منظمته. بعدها جاءنى منه وقبل ايام قليلة من بداية موسم الحج مايفيد بانه وشقيقته المغفور لها" ستنا الانصارى" قد اكتملت إجراءاتهما وتدابيرهما لاداء فريضه الحج ومع الرسالة اسم وعنوان المطوف السعودي كي نلتقيهما. وقد كان... وظل مسجد " آدمز سنتر" بمدىنة "ستيرلنق" القريبه منه بجنوب ولاية "فرجينيا" الأمريكية يشهد كل يوم جمعه الراحل قريب الله بمعية حرمه السيدة الفضلى رقيه الفادنى فى انتظام مشهود فيأخذ مكانه باطراف صفوف المصلين على كرسيه إذ كان يعانى من غضروف بالظهر أحال سجوده وركوعه إلى حراك بالغ الصعوبة .
عبد آلمجيد على حسن - الخرطوم - ديسمبر 2014
. واشنطن: مراسم الذكرى السنوية الأولى للراحل المقيم د. قريب الله الانصارى
مكتبة شوقى بدرى(shawgi badri)
|
|
|
|
|
|