[email protected] لا تفتأ الساحة السياسية تعجُّ بالأعاجيب كل صباح جديد.. وتمتلئ بالإرهاصات والبيانات السرية والعلنية التي تضجُّ بها الأسافير آناء الليل وأطراف النهار من إعلان معارضة النظام القائم وإسقاطه إلى تجديد التحالفات القديمة والمؤتمرات والعنتريات التي لم تقلب (طوبة) دعك من استقلاب النظام.. الشئ الوحيد الذي انقلب رأساً على عقب هو حال المواطن العادي الذي أصبح يهرول بين البحث عن الرغيف والألبان وحقن الملاريا وتلك ثالثة الأثافي. النظام القائم يستل سيفه في وجه المجوس، وشركاء الكيكة يأكلون ويبصقون ف ذات الصحن، والأحزاب تحج بليل خلف الآكام لولائم الحكومة وبنكنوت الحكومة. وقد واجهتْ كل القوى السياسية أخطر استحقاق في تاريخ السودان باستفتاء الجنوب لكنها وقفتْ متفرجة تماماً حتى انفصلت البلاد، وانفصال الجنوب مؤشر على ضعف كل القوى السياسية بلا استثناء ودليل على غياب آليات الفكر التراكمي السياسي لممسكات الوحدة الوطنية التي كان يمكن عبرها إدارة أزمة الإستفتاء بذكاء وتجييرها لصالح خيار الوحدة، ولم نكن نتوقع أن لا تمتلك القوى الساسية بكل هيلها وهيلمانها وسنواتها في تاريخ العمل السياسي لم نكن نتوقع أن لا يكون لها تأثير مباشر على مجريات الأمور في الجنوب لينفصل ببساطة لم يتوقعها الجنوبيون أنفسهم، بقدر ما اتضح آنذاك ضعف حيلة القوى السياسية كلها والتقليدية منها خصوصاً بل وهوانها على الحكومة.. ومسئولية انفصال الجنوب ليس مسئولية الحكومة فحسب لكنها كذلك مسئولية كل الأحزاب التي تفرَّجتْ كما تتفرج على مباراة كرة قدم.. والحكومة نفسها الذي أقرتْ منهج الانفصال في الاستفتاء وجدتْ نفسها على شفا الدولتين بعد أن أهرقت موارد ضخمة في الجنوب لا طائل تحت دعاوى الوحدة الجاذبة وقبلها الخيار العسكري وأراقت الدم بلا هوادة ثم جاءت إلى نيفاشا لتتنازل عن كل شئ.. نعم الواقع الجنوبي كان مأزوماً ومترعاً بالمرارات والذكريات المؤلمة والتفرقة غير المعلنة ومفارقات اللون والدين واللغة منذ ليلة الاستقلال التي عقدتْ بين الشمال والجنوب زواجاً كاثوليكياً غير متكافئ، وشئنا أم أبينا فإنّ إستقلالنا خرج مثل (جنا السبعة شهور) مليئاً بالتشوهات وبالقضايا العالقة ولم يكن مبشراً بالعافية والاستمرار والاستقرار ولذلك انفجرت قضة الجنوب باكراً جداً حتى قبل رفع العلم البروتوكولي للزعيمين الذين تمنطقا بالحلل الأفرنجية الزاهية وبكامل أناقتهما رفع الأزهري والمحجوب علم السودان في موازنة مقصودة بين الحزبين الإتحادي والأمة وبرعاية الزعيمين على المرغني وعبدالرحمن المهدي تماماً كما صوتوا لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان بموازنة مقصودة كذلك بين دبكة ومشاور جمعة سهل المنتسبين للحزبين الكبيرين فذاك اقترح وهذا ثنَّى (وما فيش حد أحسن من حد).. ماهذا كأنّ كل شئ مصنوع في هذه البلاد يهترئ بالتقادم كما اهترأتْ حدودنا المصنوعة بالتقادم والحروب بين الشمال والجنوب. المهم.. والحال هكذا لا يزال ساستنا الأشاوس يمارسون ذات الهوايات القديمة ومع المعطيات الآنية وعدم الاستقرار الاقتصادي الذي قد يستولد واقعاً فوضوياً أيَّاً كان شكله تجنح كل القوى السياسية لاحترار قضايا مكرورة سئمها الشارع وأدمنها السياسيون من أقصى اليمين لأقصى اليسار. فما جدوى التعديلات الدستورية وتهافت التهافت على منصب رئيس الوزراء وكراسي المجالس التشرعية في المركز والولايات، كان الأجدى إنفاق كل الوقت الطائل هذا لقضايا المواطن الذي لن يفرحه تقسيم الكيكة التي تلهث وراءها كل القوى التي شاركت في الحوار ثم انزوتْ دون أن نسمع لها صوتاً حيال المتغيرات الاقتصادية القاسية التي صدرتْ مؤخراً. وما معنى أن تتكون لجنة لترتيب عودة الصادق المهدى الذي يملأ الأفق بتصريحاته الاستعراضية ولا أقول المعارضِة فمن قبل كان الصادق في قلب الخرطوم دون أن يفعل شيئاً وما معنى أن يُعارض بينما ابنه وقائد جيشه أيام معارضة أسمرا يمكث في القصر الجمهوري بأرفع المناصب تتوشح أكتافه الأوسمه والنياشين.. المواقف لا تتجزأ يا سيدي رئس الوزراء الأسبق. وما معنى أن يُعارض الحزب الإتحادي بنصف كلمة ونصف لسان وإبن رئيس الحزب يرأس إبن رئيس حزب الأمة في داخل حكومة القصر الجمهوري.. إما أن تُعارضوا أو لا تعارضوا فقد سئم الناس أنصاف المواقف التي ما أورثتْ الشارع العرض غير مزيد من الرهق ف مسرح العبث السياسي الذي تلعب بطولته هذه الأحزاب التقليدية منذ بواكير العهد الوطني. وللحقيقة يجدر بالشارع أن يتخلص من دكتاتورية الأحزاب التقليدية وقاداتها الموروثة قبل أن يفكر مجرد تفكير في تغيير الأنظمة لأنه ما من نظام أو حكومة منذ ماقبل منتصف الخمسينات إلا وفيها هؤلاء القوم الذين يظنون أنهم يمتلكون (شهادة بحث) هذا الشئ الذي اسمه السودان. لا يهم رجل الشارع العادي أن يفصل السيد إبن السيد إبن السيد عشرات الأعضاء من القيادات التاريخية فقد تشتت حزب مولانا لأيدي سبأ، وربما بعض المنشقين والمفصولين والمغبونين خدموا في الحزب الاتحادي قبل أن يرى السيد محمد الحسن المرغني ضوء الشمس، ولا يهمنا والحال هكذا عودة (الدواعش) كما أسماهم المساعد الأول ووريث الحزب أو عودة على السيد أميناً عاماً أو مديراً عاماً فلا تزال الأسعار ترتفع وروشتات العلاج ترتفع وانقسامات الاتحاديين ترتفع. لا يهم رجل الشارع العادي صراعات مبارك الفاضل مع أبناء عمومته في حزب الأمة الذي تفتت لعشرات اللافتات على مرأى من السيد الإمام بين الأمة القومي وإصلاح وتجديد وقيادة جماعية.. لا يعنينا كشعب أي حزب أمة هو؟؟!! مات الملك عاش الملك.. ومنْ نزلتْ بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء. وحزب الأمة الذي يطرح فيه السيد الصادق خياراته المشهودة المسنودة بأحكام الإمامة والاستخارة والرؤى المنامية لم يقدم للساحة أطروحاته للخروج من عنق الزجاجة، هو دائماً يتحدث عن أزمة لكنه لم يطرح معادلة واضحة المعالم تحو برنامجه الذي يجعل الناس ينتخبون طروحاته كمنقذ بديلاً لفشل الحكومة التي يريد إسقاطها. نعم لقد سئمنا التحالفات والانقسامات والصراعات المزمنة غير المنتِجَة وسئمنا لعبة الكراسي التي أورثتنا المآسي.. المآسي التي ندفع ثمنها أنا وأنت وأبكر العجلاتي أما هؤلاء الذين أدمنوا بيع الكلام وتعبئة الأوهام ففي أبراجهم العاجية يقبعون بانتظار صولجانات الحكم ومفاتيح الخلافة وأثمان النضال الناعم. ونضال أبسط مواطن يكدح (من الصباح للمطاح) في سوق (الله أكبر) لتوفير (كيس طماطم) هي كل غذاء عياله لهو أفضل من نضالات السادة الموسومين بصكوك الغفران. والتساؤل البرئ إلى متي تستمر هذه المتناقضات والصراعات التي باتت تحيط بالمجتمع السوداني إحاطة السوار بالمعصم.. متناقضات الواقع السياسي الذي يُقصي كل طرف فيه الآخر وصراعات السلطة والثروة طوال سنوات العهد الوطني ولا يمكن لكائن شارك في صناعة الأحداث صغرها وكبيرها أن يتبرأ من جريرته ومن مآل الحال منذ أيام حكومة الأزهري إلى أيام الحكومة الحالية، كلهم شاركوا بكفاءة منقطعة النظير في حياكة الفشل المزمن الذي أوصلنا للطريق المسدود وإلى قرارات وزير المالية الذي لم يجد أمامه إلا أن يدعم المواطن الدولة لا أن تدعم الدولة المواطن. لقد كنا نأمل أن تنضج التجربة الوطنية بما يكفي لتقديم نموذج حكم يقود البلاد للاستقرار ولا أقول الرفاه، وأن تتجاوز القيادات بلا استثناء المرارات التي تراكمت عبر السنين فولدتْ الانفجارات التي نراها الآن.. نعم كنا نأمل أن يكون واقعنا السياسي أكثر رشداً بنظرة بعيدة المدى لخير إنسان هذا السودان بما يحقق تطلعات الاستقلال الذي منحنا إياه الإنجليز كصحن الصيني كما قال الأزهري ودون إراقة نقطة دم واحدة وباتفاقيات جنتلمان، ولكن.. ما أشبه الليلة بالبارحة جاء الاستقلال وصحبته الصراعات المعروفة للقاصي والداني ذات الأحزاب التي شهدتْ ميلاد السودان تتأهب الآن لدفنه في مقابر التاريخ. فلا الأحزاب ولا الحكومة بمنأى عن المسئولية التاريخية، تتحدث الحكومة عن ضبط الشارع وتأمينه!! وتتحدث الأحزاب والقوى المعارضة عن إسقاط الحكومة ولكن ماذا بعد؟؟!! فإسقاط الحكومة ليس هو الغاية فقد سقطتْ الحكومات من قبل ألف مرة هنا وهناك.. ببساطة أين هو البرنامج الوطني الذي يضمن لهذا السودان طريقه الآمن. المشهد الآن لا ينبئ بضوء في آخر النفق، ومع دعوات الحوار الوطني مؤسف أن يكون كل زاد الأحزاب والحكومة وقادتها المزيد من الكلام والمماحكات دون إجراءات عملية لصالح المواطن الذي بات سيئ الظن بالحكومة والأحزاب.. الكلام فقط في هذا المحك الأخطر لن يجدي فتيلاً.. سهلةٌ هي الأقوال لكن الإختبار الحقيقي هو الأفعال.. ورحم الله الإمام علي حين قال: ومن وضع نفسه مواضِع التُّهمةِ فلا يلومنَّ من أساءَ به الظَّن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة