1 نقوم في هذه السلسلة من المقالات بالردِّ على ما ورد في ورقة السيد الصادق المهدي "العلاقة بين السودان ودولة الجنوب من الابارتايد إلى الوحدة إلى الانفصال إلى التوأمة" التي قدّمها خلال ورشة العمل عن "آثار الأوضاع بجنوب السودان - الخيارات الاستراتيجية والآفاق المستقبلية" بدار حزب الأمة بأم درمان في 10 أبريل عام 2017. ثم قام السيد الصادق المهدي بنشر ورقته تلك في عددٍ من المواقع الالكترونية. وقد ذكر السيد الصادق المهدي في تلك الورقة: (1) أن مؤتمر المائدة المستديرة أثمر مشروعاً لحلِّ مشكلةِ الجنوب في أطار التنوّع وإقامة الحكم الذاتي، (2) أن هذا البرنامج طبّقه نظام 25 مايو 1969 الانقلابي. 2 أوضحنا في المقالات الثلاثة السابقة من هذه السلسلة من المقالات أن مؤتمر المائدة المستديرة فشل فشلاً ذريعاً في حلِّ مشكلة الجنوب. فقد ناقشنا في المقال الأول انعقاد مؤتمر المائدة المستديرة في شهر مارس عام 1965، وكيف أضاع الساسة الشماليون فرصةً تاريخيةً لبقاء السودان موحّداً برفضهم النظام الفيدرالي، وكيف فشل المؤتمر وتدهور إلى لجنة الاثني عشر. ثم ناقشنا في المقال الثاني تكوين وعمل لجنة الاثني عشر، والتعثّر الكبير الذي صاحب أعمالها منذ البداية، وانسحاب الحزب الشيوعي وحزب الشعب الديمقراطي منها. وتضمّن المقال الثالث بالتفصيل الخلافات بين الجانب الشمالي والجانب الجنوبي حول مقرّرات لجنة الاثني عشر، وكيف ساهمت الأحزاب الشمالية وحكومات فترة الحكم المدني الثانية في إفشال دور اللجنة، وفي وأد الآمال بالحلِّ السلميّ لمشكلة الجنوب. سوف نناقش في هذا المقال الفروقات الجوهرية بين مقرّرات مؤتمر المائدة المستديرة واتفاقية أديس أبابا التي عقدها العقيد جعفر نميري مع السيد جوزيف لاقو. وسوف نوضّح أيضاً أن اتفاقية أديس أبابا نجحت في معالجة الخلافات والإخفاقات الكبيرة في وثيقة مؤتمر المائدة المستديرة بصورةٍ معقولةٍ ومتوازنة. 3 استولى العسكر بقيادة العقيد جعفر نميري على السلطة في 25 مايو عام 1969. كان واضحاً أن مشكلة الجنوب قد احتلت قائمة اهتمامات الحكومة الجديدة. فقد أشار العقيد جعفر نميري في بيانه الأول إلى هذه المشكلة، وإلى الحرب المتواصلة والمتصاعدة في الجنوب وضرورة إيقافها وإحلال السلام من خلال التفاوض. وفي يوم 9 يونيو عام 1969، أي بعد أسبوعين من الانقلاب، أصدرتْ الحكومة بياناً عن سياستها في الجنوب أطلقتْ عليه "بيان 9 يونيو." أوضح البيان أن ثورة مايو هي امتدادٌ لثورة أكتوبر في تقدميّة مبادئها، وفي عزمها على حلِّ مشكلة الجنوب سلمياً. وضع البيان مسئولية مشكلة الجنوب على الاستعمار البريطاني الذي عزل الجنوب عن الشمال، وعلى الأحزاب السياسية الرجعية التي لم تتعامل مع المشكلة بجدّية، وعلى السياسيين الجنوبيين الذين تحالفوا معها، وأشار إلى دور الامبريالية العالمية والاستعمار الحديث في تعميق المشكلة. 4 اعترف البيان بالخلافات التاريخية والثقافية بين طرفي البلاد، وبحقِّ الجنوبيين في تنمية عاداتهم وتقاليدهم داخل إطار السودان الموحّد. أشار البيان بعد ذلك إلى اجتماعٍ مشترك بين مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء تمّ فيه مناقشة مشكلة الجنوب بتأنّي وعمق، وخلص الاجتماع المشترك إلى ضرورة الاعتراف بحق الجنوب في الحكم الذاتي في إطار السودان الموحّد. تضمّن البيان برنامج عملٍ لتطبيق الحكم الذاتي اشتمل على عفوٍ كاملٍ عن كل المشتركين في النزاع منذ عام 1955، ووضعِ خطةِ تنميةٍ اقتصادية واجتماعية وثقافية للجنوب، وتعيين وزير لشئون الجنوب، ومجلس تخطيط لتنمية الجنوب، وتحديد ميزانية خاصة لهذا الغرض، وتدريب أبناء الجنوب للمشاركة في الحكم الذاتي. نادى البيان في ختامه الجنوبيين بإلقاء السلاح والعودة إلى السودان للانضمام إلى عملية السلام. 5 كان البيان مليئاً بالشعارات اليسارية الثورية من تحميل الامبريالية العالمية والاستعمار الحديث مسئولية الحرب، ولكنه كان شجاعاً في الاعتراف بالتباينات الثقافية والعرقية والدينية والتاريخية والاقتصادية بين الشمال والجنوب، وضرورة حلِّ المشكلة بالحوار. لم يشتمل البيان على عبارات متمردين أو إرهابيين أو خوارج أو خونة، وهي الصفات التي أطلقتها الحكومات السابقة على المحاربين الجنوبيين. وكان مثار الدهشة أن تتحدّث حكومة عسكرية عن حلٍّ سلمي لمشكلة الجنوب، مقارنةً بحكومات العهد المدني الثاني التي قادها السيد محمد أحمد محجوب والسيد الصادق المهدي، والتي اعتمدت الحل العسكري لمشكلة الجنوب. تمّ اتباع البيان بخطواتٍ عمليّة تضمّنت إنشاء وزارة لشئون الجنوب، وتعيين السيد جوزيف قرنق وزيراً لها. ولا بُدّ من التذكير أن الحزب الليبرالي كان قد طالب عام 1954 بإنشاء هذه الوزارة ولكنّ حكومات العهد المدني الأول رفضت هذا الطلب. 6 بدأت بعد ذلك اتصالاتٌ سرية بين الحكومة والقيادات السياسية للجنوبيين المرتبطة بالأنيانيا والتي أعادت تنظيم نفسها في "حركة تحرير جنوب السودان." أدّت تلك الاتصالات إلى لقاءاتٍ سرية بين الحكومة الجديدة وحركة تحرير جنوب السودان في لندن، ثم في أديس أبابا، وتحوّلت تلك الاجتماعات إلى مفاوضات بين الاثنين في بداية شهر فبراير عام 1972. وقد تمّ اختيار أديس أبابا مقرّاً للمفاوضات بمبادرة من الحكومة السودانية، قبلتها حركة تحرير جنوب السودان. قاد وفدَ السودان لهذه المفاوضات السيد أبيل ألير، وشمل الوفدُ الدكتور منصور خالد وزير الخارجية، الدكتور جعفر محمد علي بخيت وزير الحكم المحلي، الفريق الباقر أحمد وزير الداخلية، والسادة عبد الرحمن عبد الله وزير الخدمة العامة والإصلاح الإداري، وكمال أبشر، وميرغني سليمان. وقاد وفد حركة تحرير جنوب السودان السيد ازبوني منديري، وشمل السادة الدكتور لورنس وول، مادينق دي قرنق، فريدريك بريان مابوت، أوليفر البينو، انجيلو فوقا مورغان، الأب بول بوت، وجوب أدير دي جوك. وقد قامت الحكومة الإثيوبية ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي بدور الوسيط في هذه المفاوضات، ولعبوا دوراً إيجابياً أدّى إلى توقيع اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير عام 1972. وقد تمّت إجازة قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي (المُكوّن الأساسي للاتفاقية) في 3 مارس عام 1972، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في ذلك اليوم بعد التصديق عليها بواسطة العقيد جعفر نميري رئيس الجمهورية، والسيد جوزيف لاقو رئيس حركة تحرير جنوب السودان. وهكذا بعد قرابة ثلاثة أعوام من صدور بيان 9 يونيو عام 1969 تمّ التوصل لاتفاقٍ بين شمال السودان وجنوبه، وعاد السلام إلى جنوب السودان بعد 17 عامٍ من الحرب والموت والدمار. 7 تكوّنت اتفاقية أديس أبابا من ثلاثة أجزاء. كان الجزء الأول هو قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي الذي تمّت إجازته بواسطة الحكومة السودانية في 3 مارس عام 1972 بعد أن تمّ الاتفاق على مضمونه خلال المفاوضات التي انتهت في 27 فبراير. بالإضافة إلى مواده الأربعة وثلاثين، فقد اشتمل القانون أيضاً على ملحقين، اختصّ الأول بالحقوق الأساسية والحريات، والثاني على بنود الإيرادات. أما الجزء الثاني من الاتفاقية فقد اشتمل على اتفاق بشأن وقف إطلاق النار، بينما تكوّن الجزء الثالث من أربع بروتوكولات (أو فصول) خاصة بالتنظيمات المؤقّتة، الأول بشأن التدابير الإدارية المؤقتة، والثاني خاص بقوات الشعب المسلحة في الإقليم الجنوبي، والثالث عن العفو العام والترتيبات القضائية، والرابع والأخير عن إعادة التوطين. 8 عرّف قانون الحكم الذاتي "الإقليم الجنوبي" بأنه يتكوّن من مديريات جنوب السودان الثلاثة، أعالي النيل وبحر الغزال والإستوائية، بحدودها القائمة في اليوم الأول من يناير عام 1956، وأيّة مناطق أخرى كانت جغرافياً وثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي على نحو ما قد يتقرّر عن طريق الاستفتاء. ورغم عدم ذكر منطقة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب بالاسم في الاتفاقية، إلا أنه كان مفهوماً للأطراف أن الإشارة في ذلك النص هي لمنطقة أبيي. وقد أكّدت ذلك الفهم بعض القرارات التي تمّ اتخاذها لاحقاً. أشار القانون إلى أن الإقليم الجنوبي يتمتّع بحقِّ الحكم الذاتي داخل نطاق السودان الموحّد، وتكون له أجهزة تشريعية وتنفيذية تمارس الاختصاصات والسلطات المضمّنة في القانون. أعلن القانونُ اللغةَ العربية اللغةَ الرسمية للسودان، واللغة الإنجليزية لغة رئيسية لإقليم جنوب السودان وذلك مع عدم المساس باستعمال أيّة لغة أو لغاتٍ أخرى قد تخدم ضرورة عملية، أو تساعد على أداء المهام التنفيذية والإدارية في الإقليم، وأكّد على حقِّ الأقليات في استعمال لغاتها وتطوير ثقافاتها وعاداتها. 9 أنشأ القانون مجلس الشعب الإقليمي والذي يتمُّ انتخابه عن طريق الاقتراع السِرّي المباشر، ومنَحَه السلطات الكاملة للتشريع في المسائل المحلية لحفظ النظام العام والأمن الداخلي في الإقليم الجنوبي، ولإدارته بطريقة رشيدة وتنميته في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وعدّد القانون هذه المسائل بصورة تفصيلية. أنشأ القانون أيضاً المجلس التنفيذي العالي وأسند إليه السلطات التنفيذية التي يباشرها نيابةً عن رئيس الجمهورية. أوضح القانون أن اختيار رئيس المجلس التنفيذي العالي وعزله يتمُّ بواسطة رئيس الجمهورية بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي. أشار القانون كذلك إلى حق مجلس الشعب الإقليمي أن يطلب بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه، ولأسباب محدّدة تتعلّق بالمصلحة العامة، من رئيس الجمهورية إعفاء رئيس المجلس التنفيذي العالي، ويتعيّن على الرئيس الموافقة على مثل هذا الطلب. أوضحت المادة الأخيرة من القانون أنه لا يجوز تعديل الاتفاقية إلّا بأغلبية ثلاثة أرباع مجلس الشعب القومي، وموافقة ثلثي مواطني إقليم جنوب السودان في استفتاءٍ عام يُجرى في المديريات الجنوبية الثلاثة. 10 تضمّن القانون ملحقاً عن الحقوق والحريات الأساسية أوضح فيه أن السودانيين يتمتّعون بنفس الحقوق والواجبات والمساواة أمام القانون بغض النظر عن العرق أو الموطن أو اللغة أو الدين، وأن لكل المواطنين الحقّ في حرية الدين والفكر، ولهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية في العلن، وإنشاء المؤسسات الدينية وفقاً للقانون. اشتمل الجزء الثاني من اتفاقية أديس أبابا على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في الإقليم الجنوبي، وعلى تكوين لجنة مشتركة يؤول إليها تنفيذ كافة الموضوعات المتعلّقة بوقف إطلاق النار بما في ذلك تعويض اللاجئين. 11 واشتمل الجزء الثالث من اتفاقية أديس أبابا على مجموعة بروتوكولات (أو فصول) اختصّت بالتنظيمات الانتقالية المؤقّتة. تناول هذا الجزء تكوين القوات المسلحة في الإقليم الجنوبي (القيادة الجنوبية) من 12,000 ضابط وجندي يكون نصفهم من أبناء الإقليم، وأنشأ اللجنة العسكرية المشتركة من ضباطٍ شماليين وجنوبيين لاختيار الضباط والجنود الجنوبيين الذين سيتم استيعابهم في القوات المسلحة. وكان واضحاً أن الإشارة هنا إلى ضباط وجنود حركة تحرير جنوب السودان الذين سوف يتمُّ دمجهم في القوات المسلحة. 12 كما تناول الجزء الثالث من الاتفاقية العفو عن كل المشاركين في العمل المسلّح في جنوب السودان منذ 18 أغسطس عام 1955، وهو تاريخ تمرّد حامية مدينة توريت. وشمل العفو الأفعال الجنائية وكذلك القضايا المدنية ذات الصلة بالأفعال التي ارتبطت بالتمرد. اشتمل الفصل أيضاً على إطلاق سراح كافة الأشخاص الذين كانوا يقضّون فترة عقوبة الحبس أو رهن الاحتجاز لارتكابهم جرائم مرتبطة بالتمرد. شمل هذا الجزء أيضاً إجراءات الإغاثة وإعادة توطين اللاجئين العائدين وإعادة تعمير المناطق المتأثّرة بالحرب. 13 كانت اتفاقية أديس أبابا متوازنةً لحدٍ كبير. فقد حافظت على وحدة السودان، وأعطت أبناء الجنوب حقَّ حكمِ أنفسهم وتطوير لغاتهم وثقافتهم وعاداتهم واعترفت بدياناتهم. وكانت الاتفاقية شجاعةً فقد اعترفت لأول مرّة بالتباينات العرقية والدينية واللغوية والثقافية بين شعبي السودان، بدلاً من التصريحات والخطب الاستعلائية والاستخفافية التي وصفت إحداها الجنوب بأنه يعاني من فراغٍ ثقافي سيملؤه الإسلام والعروبة، وتلك التي وصفت السودان بأنه دولةٌ إسلاميةٌ عربيةٌ، وطالبت من لا يتفق مع هذا الرأي بحزم امتعته ومغادرة السودان، كما ناقشنا في المقال السابق. 14 ادّعتْ بعض قيادات الأحزاب الشمالية أن اتفاقية أديس أبابا لم تُعطِ الجنوب الحكم الفيدرالي الذي كان يطالب به، وظلّتْ تكرّر وتدّعي باستمرار أن الاتفاقية انبنتْ تماماً على توصيات لجنة الاثني عشر المنبثقة عن مؤتمر المائدة المستديرة التي رفضها الجنوبيون. وقد كرّر هذا الادعاء السيد الصادق المهدي في مقاله الذي نقوم بالردِّ عليه في هذه السلسلة من المقالات. وقد كان الغرض من ذلك النقد هو الإيحاء بأن الأحزاب الجنوبية كانت متعنّتةً عندما رفضت مقرّرات مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وقبلت نفس النتائج في اتفاقية أديس أبابا. كان الغرض أيضاً الإيحاء بأن الأحزاب الشمالية قد تعاملت مع مشكلة الجنوب بمسئولية وقدّمت نفس التنازلات التي قدّمها نظام العقيد جعفر نميري. لكن ادعاء الأحزاب والقيادات الشمالية هذا ليس صحيحاً، وليس أميناً. كان يجب أن لا تعني مسألة تسمية النظام السياسي الذي أرسته الاتفاقية – نظام فيدرالي أو حكم ذاتي – شيئاً كبيراً بالنسبة للقيادات السياسية في الشمال أو الجنوب. كان المهم هو مضمون الاتفاقية الذي أعطى الجنوبيين الحق في حكم إقليمهم بدون تدخّلٍ من المركز، أو بتدخّلٍ متوازنٍ في بعض الحالات. كما أعطتهم الاتفاقية الحق في المشاركة في حكم السودان ككل من خلال وزاراتٍ ووظائف أخرى ذات مسئوليات. 15 وقد نجحت الاتفاقية في معالجة الأمور الخلافية الثلاثة في توصيات لجنة الاثني عشر بمعقوليةٍ لم يتوفّر حتى الحدُّ الأدنى منها خلال فترة عمل لجنة الاثني عشر، أو خلال الجدل الذي دار بعد ذلك في مؤتمر الأحزاب، وخلال فترة الحكم المدني الثانية. جعلت الاتفاقية الجنوب إقليماً واحداً كما طالب الجنوبيون، ولم يتم الإصرار على ثلاثة أقاليم كما فعل الشماليون في لجنة الاثني عشر ومؤتمر الأحزاب بلا أسباب منطقية، وبعنادٍ وإصرارٍ غريبين. وحلّت الاتفاقية مسألة طريقة اختيار رئيس المجلس التنفيذي حلّاً وسطاً أعطى سلطة التعيين إلى رئيس الجمهورية بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي، بدلاً من تعيينه بواسطة الحكومة المركزية كما أصرّ الشماليون في لجنة الاثني عشر. واتّبعت الاتفاقية نفس الحل الوسط في مسألة حفظ الأمن في الجنوب. فقد رفض الشماليون في لجنة الاثني عشر فكرة قيام وحدة عسكرية جنوبية للمساعدة في حفظ الأمن في الجنوب. كان البديل الذي قدّمته اتفاقية أديس أبابا هو تكوين وحدة عسكرية مشتركة يتساوى في عددها الشماليون والجنوبيون، وتستوعب العناصر المسلّحة من حركة تحرير جنوب السودان، وتُسمّى القيادة الجنوبية. عليه فيصبح القولُ إن اتفاقية أديس أبابا هي مقررات لجنة الاثني عشر مغالطةً بلا معنى. 16 غير أن أهم ما ميّز اتفاقية أديس أبابا هو أنها نتجت عن تفاوضٍ مع حملة السلاح، على عكس مفاوضات المائدة المستديرة التي تجاهلت تلك الحركات. بل ذهبت حكومة السيد محمد أحمد محجوب أبعد من هذا عندما أعطت إنذاراً للحركات الجنوبية المسلّحة بإلقاء سلاحها بلا مقابل. وقد حدث ما هو متوقّع، وتجاهلت الحركات ذلك الإنذار، وتصاعدت الحرب. وبالنظرة المتكاملة إلى هذه الحلول الوسط للمسائل الخلافية لا بُدَّ للمرء أن يتساءل: لماذا لم يقدّم مفاوضو الأحزاب الشمالية في لجنة الاثني عشر المنبثقة عن مؤتمر المائدة المستديرة أيّة مقترحاتٍ كان يمكن أن توصل الطرفين إلى حلٍّ وسط في الأمور الخلافية الثلاثة؟ تشير بعض المصادر إلى أن الدكتور حسن الترابي أوضح أنه يفضّل انفصال جنوب السودان على جعل المديريات الجنوبية الثلاثة إقليماً واحداً. الذي حدث هو العكس تماماً. فقد مهّد الرفض لفكرة الإقليم الواحد للجنوب بواسطة الأحزاب الشمالية، ثم تقسيم الجنوب بواسطة الرئيس نميري إلى ثلاثة أقاليم (كما حدث لاحقاً)، إلى اندلاع الحرب الأهلية الثانية، وإلى نتيجة الانفصال نفسها. 17 يتضح مما تقدّم في هذا المقال والمقالات الثلاثة السابقة ما يلي: أولاً: إن فكرة مؤتمر المائدة المستديرة هي فكرةٌ جنوبيةٌ بحتة، تضمّنتها رسالة السيد ويليام دينق رئيس حزب سانو إلى السيد سر الختم الخليفة رئيس وزراء حكومة أكتوبر 1964، ولا علاقة للأحزاب الشمالية وقياداتها بالفكرة إطلاقاً. ثانياً: رفضت الأحزاب الشمالية في مؤتمر المائدة المستديرة رفضاً قاطعاً مطلب النظام الفيدرالي الذي اقترحته رسالة السيد ويليام دينق وتضمّنته كلمته خلال المؤتمر. وكان ذلك الرفض تأكيداً لنقض وعد الشمال بالفيدرالية للجنوب عام 1955. ثالثاً: كان كل ما نتج عن المؤتمر هو تخويل بعض سلطات الحكومة المركزية إلى كلٍ من مديريات الجنوب الثلاثة. وهو نظامٌ لا يختلف عن الحكم المحلي المطبّق وقتها في مديريات الشمال الستة. رابعاً: رغم ادعاء الأحزاب الشمالية أنها قوميّة التكوين، إلا أن ممثليها لمؤتمر المائدة المستديرة كانوا كلهم شماليين، ولم تشمل تلك الوفود جنوبياً واحداً (عدا الأستاذ جوزيف قرنق الذي حضر بعض الجلسات كعضوٍ في وفد الحزب الشيوعي، لكنه لم يترأس وفد الحزب.) وقد كانت سكرتارية المؤتمر كلها من الشماليين أيضاً. خامساً: تدهور مؤتمر المائدة المستديرة إلى لجنة الاثني عشر والتي قاطع أعمالها الحزب الشيوعي وحزب الشعب الديمقراطي بلا أسباب منطقية. وكان جنوبيو الخارج قد غادروا المؤتمرَ والسودانَ بذاك الوقت. سادساً: فشلت لجنة الاثني عشر في الوصول إلى اتفاقٍ حول قضايا رئيسية شملت إن كان الجنوبُ سيكون إقليماً واحداً كما طالب الجنوبيون، أم سيبقى ثلاث مديريات كما أصرَّ الشماليون. وشملت أيضاً طريقة تعيين رئيس الجهاز التنفيذي – بالانتخاب كما طالب الجنوبيون، أم بتعيين الخرطوم كما أصرَّ الشماليون. كما شملت رفض الشماليين لمطلب الجنوبين إنشاء وحدة حرس محلية للمساعدة في حفظ الأمن. سابعاً: لم يكن هناك اتفاقٌ بين الأحزاب الشمالية إن كانت توصيات لجنة الاثني عشر المحدودة للنقاش والتداول بواسطة مجلس الوزراء كما فهمها وتوقّع الكثيرون، أم أنها مجرد توصياتٍ لمؤتمر الأحزاب السياسية وللجنة الدستور كما أعلن السيدان الصادق المهدي وحسن الترابي. ثامناً: لم تفشل حكومات العهد المدني الثاني بقيادة السيد محمد أحمد محجوب والسيد الصادق المهدي في حلِّ مشكلة الجنوب فقط، بل صعّدتْ الحربَ وارتكبتْ مجازر جوبا وواو والسلاطين. كما تمَّ اغتيال السيد ويليام دينق ومرافقيه في شهر مايو عام 1968 في جنوب السودان. تاسعاً: قام حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي بتعديل الدستور لتصبح رئاسة مجلس السيادة الدورية دائمةً (وتؤول للسيد إسماعيل الأزهري)، بدلاً من الرئاسة الشهرية. أنهى ذلك التعديل حقَّ العضوِ الجنوبي بمجلس السيادة في رئاسة المجلس الدورية - شهرين كل عام. تمَّ ذلك التجريد في الوقت الذي كان الجنوبيون يطالبون بمزيدٍ من الصلاحيات الدستورية والسياسية. عاشراً: انسحب الجنوبيون بقيادة السيد أبيل ألير من لجنة الدستور عام 1967 بعد أن اتضح لهم أن اللجنة ستواصل طبخ الدستور الإسلامي العربي بحكمٍ مركزيٍ للسودان. حادي عاشر: كان فشل مؤتمر المائدة المستديرة وتصاعد الحرب في الجنوب من الأسباب الرئيسية لانقلاب 25 مايو. ثاني عشر: نجح نظام مايو الانقلابي في حلِّ الخلافات الثلاثة في تقرير لجنة الاثني عشر بصورةٍ متوازنة. جعلت اتفاقيةُ أديس أبابا الجنوبَ إقليماً واحداً كما طالب الجنوبيون، ولم يتم الإصرار على ثلاثة أقاليم كما فعل الشماليون في لجنة الاثني عشر. وحلّت الاتفاقيةُ مسألة طريقة اختيار رئيس المجلس التنفيذي حلّاً وسطاً أعطى سلطة التعيين إلى رئيس الجمهورية بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي، بدلاً من تعيينه بواسطة الحكومة المركزية كما أصرّ الشماليون في لجنة الاثني عشر. واتّبعت الاتفاقية نفس الحل الوسط في مسألة حفظ الأمن في الجنوب بتكوين وحدة عسكرية مشتركة يتساوى في عددها الشماليون والجنوبيون، وتستوعب العناصر المسلّحة من حركة تحرير جنوب السودان، وتُسمّى القيادة الجنوبية. 18 عليه فإن ادعاء السيد الصادق المهدي أن مؤتمر المائدة المستديرة أثمر مشروعاً لحلِّ مشكلةِ الجنوب في أطار التنوّع وإقامة الحكم الذاتي، وأن هذا البرنامج طبّقه نظام 25 مايو 1969 الانقلابي، هو قولٌ غيرُ صحيحٍ البتّة، ووجبَ تصحيحه بكل هذه التفاصيل الدقيقة. 19 بعد أشهر قليلة من المصالحة الوطنية بين العقيد جعفر نميري وأحزاب الجبهة الوطنية المعارضة (الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي) عام 1977 قرّر العقيد نميري ألّا يكون استثناءً لمن سبقه من السياسيين الشماليين – مدنيين كانوا أم عسكريين – فيما يختصُّ بقضية جنوب السودان. قام العقيد نميري بنقض عهوده للجنوب، وأهدر في غطرسةٍ واستعلاء إنجازه الذي كان سيميّزه إلى الأبد عن بقية السياسيين الشماليين. بدأ العقيد نميري في تمزيق اتفاقية أديس أبابا بنداً بعد الآخر، وأعن الشريعة الإسلامية قانوناً للبلاد. وقد عبّد ذلك الخرق الكبير للاتفاقية الطريقَ لقيام الحركة الشعبية واشتعال الحرب الأهلية الثانية التي قادت إلى مشاكوس، ثم نيفاشا، ثم الاستفتاء وانفصال الجنوب. وهكذا دخل العقيد نميري التاريخ من أوسعِ أبوابه بأن أصبح السياسي السوداني الذي أنهى الحرب الأهلية الأولى، ولكن بعد عشرة أعوامٍ أشعل الحرب الأهلية الثانية في السودان. 20 غير أن هذه سلسلةُ مقالاتٍ أخرى سنعود إليها بعد بعض الوقت.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة