|
قراءة هادئة لما جرى بين التجمع وحزب الأمة حول نداء الوطن فى ضوء اتفاق نيفاش
|
رد الفعل لدى الحركة الشعبية لنداء الوطن تحدثنا فى الحلقة السابقة عن رد الفعل لدى الاتحادى الديموقراطى والحزب الشيوعى والحكومة وفى هذه الحلقة نواصل رد الفعل الحركة الشعبية. رد فعل الحركة الشعبية كان موضوعيا حين أكدت أن حزب الأمة له الحق في الحوار مع الحكومة فهى تفاوض الحكومة منذ الانقلاب في 1989 دون اعتراض من التجمع ومع ذلك رفضت نتائج اللقاء. المراسلات بين الصادق وقرنق في نوفمبر 2000 بعد اجتماع كمبالا الذي هاجم فيه الأخير مواقف حزب الأمة تاريخيا، تشهد علي الخلاف بين الطرفين حول محاولات حزب الأمة البحث في حل سلمي للمشكلة السودانية. في هذه الرسائل اشار قرنق الي أن ما يقوم به حزب الأمة ما هو الا امتداد لمواقف كل أهل الشمال فيما يتعلق بالهوية وسيادة العنصر العربي والثقافة العربية الاسلامية. لم يكن قرنق محقا في هذا الاتهام في ضوء المستجدات التي أفرزتها سياسات نظام الانقاذ حيث كان لحزب الأمة كما أوضحنا في مواقف عديدة من هذه الدراسة، دور كبير في تثبيت مفهوم التعدد الثقافي والديني والاثني في علاقته بالحكم واتفاقية نداء الوطن وهي سبب الخلاف تشهد علي ذلك.
لكن منصور خالد مستشار زعيم الحركة الشعبية فله رأي آخر يشوبه الغرض الشخصي والانطباع الذاتي ولا يتعلق بالمفاهيم فهو يقول عن محاولات الصادق للحل السياسي ومنها لقاؤه مع الترابي " أنها تأتى من أن محنته ( الصادق ) يقينه بأنه وحده هو الذي يملك البلسم الشافي لكل الجراح دون تدبرلما فات او تلبث في النظر إلى ما هو كائن". ويشير منصور خالد إلى موقف التجمع من المحاولات بقوله " كان رأي التجمع في المبادرات العملية أنها مرفوضة إذا جاءت من مجموعات غير محايدة في الداخل أما إذا كانت من الخارج فان التجمع يؤكد ثقته في دول الإيقاد ويشيد بالدور الهام الذي تلعبه كما يثمن جهود شركاء الإيقاد .. ويري أن هناك دول جوار جغرافي وثقافي ودول أخرى يمكن أن تدعم جهود الإيقاد لقفل الباب أمام مناورات حكومة الجبهة. هذه النقاط التي ذكرها منصور خالد لا تمثل قرارات التجمع في مسالة الحل السياسي بل تتعلق بالذي يقوم بالمبادرة كان من داخل السودان أو خارجه. فإذا كان من الداخل لابد أن تأتى من جهة محايدة أما إذا كانت مبادرة من أطراف خارجية فالتجمع أو بالأحرى الحركة الشعبية تكتفي بالإيقاد. بهذا التصور والذي رفض به منصور اللقاء هل يعتبر التجمع أو الحركة أن حزب الأمة غير محايد لذلك تم رفض مبادرته السلمية؟ ولماذا ارتضي التجمع انفراد الحركة الشعبية بالتفاوض مع الحكومة حين وقعت بروتوكول ماشاكوس الذي تخلت فيه عن كل مقررات أسمرا وقادته الى الوضع الحالى؟ الحركة الشعبية تسير وفق رؤى تعتقد أنها فى النهاية تخدم مصالحها وهذا أمر غير مستبعد فهى قد وافقت علي المبادرة الليبية المصرية في 1999م والتعديل الذي اجري عليها في عام 2001م إلا أنها ترفض أي حوار خارج مبادئ الإيقاد. وكما هو معلوم فان الإيقاد مهتمة فقط بجنوب السودان وان بقية أطراف التجمع ليسوا طرفاً فيها بالتالي لا يحق لأي حزب أو تنظيم في التجمع أن يدلي برائ في المحادثات بين الحركة والحكومة إلا ما تجود به الحركة. مصلحة الحركة اذن أن تتمسك بالإيقاد ولكن ما بال أطراف التجمع؟ لماذا ارتضوا أن تقوم الحركة نيابة عنهم بمفاوضة الحكومة؟ ولماذا هذا السكوت عن تجاوزاتها فيما يتعلق بالكنفودرالية؟ ولماذا سكت التجمع عن بدئها في اصدار عملة خاصة بها وانشاء مصارف تمهيدا لحكم كونفدرالي تتوقعه؟ ألا يعني هذا أن الحركة بالفعل بدأت في تنفيذ بدايات مرحلة الانفصال؟ ولماذا لقي حزب الأمة كل هذا النقد وهو يحاور الانقاذ رغم أنه يستند علي كل قرارات التجمع؟ أسئلة لن يجيب عليها التجمع الآن لأنه يقع تحت تخدير الحركة بأنها القوة العسكرية التي يمني بها الشيوعيون أنفسهم في تدمير الأحزاب التقليدية وعدوهم اللدود الحركة الاسلامية ويمني بها الاتحاديون المزيد من احراج حزب الأمة.
لقد عبرت كل فصائل التجمع عن دهشتها للقاء بين الصادق والترابي وذهب بعضها يكيل اللوم والاتهام للصادق بانه يسعي لكراسي الحكم ولا يهمه وطن ولا مواطن. هذا الاتهام لايسنده منطق ولا برهان وانما يأتي لهوي في النفوس وكرد فعل خائب تمرس فيه الكثير من ساسة السودان. مفاجأة التجمع وقيادته لموقف حزب الأمة ناتجة من طبيعة التجمع البطيئة في قراءة الأحداث والبطيئة في الحركة واتخاذ القرار ونستدل علي هذا البطء ما حدث من قبل الحزب الشيوعي وهو الحزب الذي يفترض فيه القراءة الصحيحة للواقع بحكم عضويته المنتمية إلى الطبقة الوسطي " المتعلمة". في عام 1997 طرحت الحركة الشعبية الكونفدرالية لإقامة دولتين في الشمال والجنوب في حالة تعذر الوصول بينها وبين الحكومة علي الفصل بين الدين والدولة. اعتبر الحزب الشيوعي أن هذا الطرح تكتيك من قبل الحركة تمنع به فصل الجنوب باعتبار أن الحكومة تسعي لفصل جنوب السودان كما جاء علي لسان فاروق أبو عيسى. ولكن قرنق زعيم الحركة الشعبية نفي أن يكون طرحهم تكتيكيا فهم كما يقول "يسعون (الحركة) لوحدة تقوم علي أسس جديدة فإذا أرادوا (الحكومة) الالتزام بالاجندة الإسلامية وعدم فصل الدين عن الدولة فإننا نطرح وجود دولة كونفدرالية".
واضح التناقض بين أبو عيسي وهو المتحدث الرسمي للتجمع والعضو البارز في الحزب الشيوعي وبين زعيم الحركة الشعبية. كما أن رأيهما معاً يتناقض مع مقررات اسمرا 1995 ومبادئ مبادرة الإيقاد 1994. ففي اسمرا اتفقت كل الأطراف علي الفصل بين الدين و الدولة بما فيها حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي لذلك لا يوجد سبب للحركة لطرح الكونفدرالية إذا كانت بالفعل تنادي بوحدة السودان خاصة أن هدف التجمع منذ 1989 الاطاحة بحكومة الحركة الإسلامية باعتبارها لن تتغير ويجب إزالتها كلياً. أما رد فعل الحزب الشيوعي لتوجه الحركة واقتراحها للكونفدرالية فقد تآخر حتى عام 2001 عندما انتقد الحركة الشعبية متهما آياها بأنها تحمل اجندة خفية ترمي من ورائها إلى فصل الجنوب. كان ذلك عندما أعلنت الحركة للمرة الثانية عن الكونفدرالية والبدء في تطبيق مبادئ الإيقاد علي ضوء تعنت الحكومة في فصل الدين عن الدولة.
تضمن نقد الحزب الشيوعي للحركة في بيانه الصادر في 21 مايو 2001 الأتي :-
أولا- طرحها الكونفدرالية باعتبار أنها إحدى خيارات الوصول إلى سلام في السودان. ثانياً - أن للحركة اجندة سرية وان الحزب الشيوعي ليس طرف فيها. ثالثاً - ان مبادرة الإيقاد هدفها إيجاد حل للمسالة الجنوبية وإذا ما تم الاتفاق علي الكونفدراليه من قبل الجبهة الإسلامية باعتبار أنها الطرف الثاني المعترف به من الإيقاد فان البند التالي الخاص بالاستفتاء سوف تلجا إليه الإيقاد.
لم يحدد بيان الحزب الشيوعي هذه الاجندة الخفية للحركة الشعبية كما انه لم يوضح موقفه من طرح الحركة للكونفدرالية في المرة الأولى أو لماذا سكت عنها في ذلك الوقت. ولكنه بدا واضحاً أن الحزب بدأ يشعر بخطورة موقفه الانهزامي أمام الحركة و سكوته علي مايصدر منها. يقول بيان الحزب الشيوعي " للمرة الثانية تبرر قيادة الحركة ضم منطقة جبال النوبة ومنطقة الانقسنا لتصورها للكونفدرالية في الجنوب بحجة اختبار جدية الحكومة ! اختبارها أمام من ؟ " ويواصل في نقده للحركة " التصريح الذي أدلى به الناطق الرسمي باسم الحركة السيد ياسر عرمان حول علاقة الشروط بتوازن القوي، يدفع بقضية الحرب والسلام نحو الزاوية الحادة والنفق المظلم وكأنها مسالة خاصة بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ وليس قضية الشعب السوداني بأسره " ثم بعد ذلك يبرر الحزب الشيوعي نفسه مما سيحدث في المستقبل القريب من تجاوزات الحركة الشعبية التي سكت عنها منذ دخولها التجمع في يناير 1990 بقوله " لسنا طرفاً في مزايدات الاجندة الخفية والسرية للحركة الشعبية ، أو خياراتها الخفية ". هذا البيان يؤكد علي أن الحزب الشيوعي يسير خلف الأحداث وان التجمع برمته ينتظر وقوع الحدث ثم يتعامل معه برد الفعل. لم اشر هنا إلى الأطراف الأخرى داخل التجمع لأنها لم تنتقد الحركة في تسيير عمل التجمع.
في تبريره لموقف الحركة لطرحها الكونفدرالية يقول منصور خالد مستشار الحركة الشعبية بأنه مرتبط بالحل النهائي وتم طرحه بعد أن رفض النظام القبول بالفصل بين الدين والسياسة وهو مخاطبة موضوعية للخيار الثاني في مبادئ الإيقاد وان طرحه في هذا الوقت ( لاحظ أن الحركة تقدمت بهذا الاقتراع أولا في عام 1997) لتحقيق هدفين الأول وقف ضخ البترول لأنه جزء من العمل العسكري والثاني الانتقال مباشرة إلى قيام دولتين دون الحديث عن فترة انتقالية. أما عن نقد الحزب الشيوعي للحركة فان منصور خالد لا يخفي دهشته من بيان الحزب الشيوعي. ففي رأيه أن المحتوي ( محتوي البيان) ناتج من سوء فهم (ف) الحركة لم توضح بما فيه الكفاية للتجمع هذا الموقف. أما عن منهج التعامل فان منصور خالد يري أن إدارة الخلاف يكون داخل هيئة التجمع وليس عبر وسائل الأعلام كما فعل الحزب الشيوعي. لكن منصور خالد لم يوضح لماذا لم تناقش الحركة هذا الآمر قبل طرحه في مباحثات الإيقاد وماذا كان موقف هذه الهيئة إذا ما توصلت المباحثات إلى اتفاق الكونفودرالية؟ ولماذا تصر الحركة علي الايقاد فقط رغم أنها وافقت علي المبادرة المشتركة ولماذا التأكيد علي الكونفدرالية كما جاء علي لسان قرنق وهو يحتفل بمرور 19 عاما علي حركته؟ ان الحركة لم تلتزم بمقررات أسمرا والتجمع لن يرفع رأسه عن الرمال حتي لا يري الحقيقة التي تؤكدها كل اجتماعاته بأنه يسير وفق ما تراه الحركة.
لم تمر أيام علي بيان الحزب الشيوعي إلا تناسته كل أطراف التجمع باعتبار انه ستتم مناقشة وطرح الكونفدرالية داخل هيئة التجمع. في هذا يقول التجاني الطيب ممثل الحزب الشيوعي في هيئة قيادة التجمع " كل القوي السياسية بمن فيها الحركة والحزب الشيوعي، لها اجندتها الخاصة. التجمع الوطني الديمقراطي قام علي اتفاق بالحد الأدنى بين الاجندة المختلفة. إذن لماذا هاجم الحزب الشيوعي حزب الأمة حينما اتبع نفس المنهج الذي تفاوض به الحركة باسم التجمع ؟ ولماذا سكت الحزب الشيوعي لأكثر من ثلاث سنوات لينتقد الحركة في طرحها الكونفدرالية ؟ هل ذلك متعلق باخراج الحزب الشيوعي من مؤامرة فصل الجنوب في حال تمكن الحركة من الاتفاق علي الكونفدرالية ؟ أم أن فصل الجنوب في ضوء التوجه الإسلامي للنظام وإمكانية تحالف كل القوي الإسلامية اعتبره الحزب الشيوعي بداية النهاية لإزالة الحزب من الخارطة السياسية السودانية خاصة أن الفكر الشيوعي سقط في بلده الأم . حقيقة الأمر ان الكثير من الشيوعيين بدأ يتساءل عن مغزى وجود حزب شيوعي في السودان وطالبوا بتغيير اسمه. بل اكثر من ذلك وهو أن عددا كبيرا من قياديي الحزب قد انفصلوا عنه وانشأوا حزبا جديداً هو حركة "حق ".
علاقة النظام بالتجمع
تقوم استراتيجية الحكومة في علاقتها بالتجمع علي ثلاثة محاور هي:
أولا فصل المعارضة الشمالية عن المعارضة الجنوبية وتفكيك كل منها بغرض تفكيك التجمع. ثانيا تعزيز قوي الدفاع الشعبي لتوازن بها القوات النظامية لمنع أي انقلاب عسكري أو قيام انتفاضة شعبية. ثالثا ابعاد التجمع عن التقارب مع القوي الاقليمية والابتعاد عن أي مواجهة مباشرة مع امريكا ومصر. عزل التجمع اقليميا ودوليا
نجحت الانقاذ بداية في ابعاد التجمع عن ليبيا ومصر وامريكا ولكن عملية تحرير الكويت عام 1990 كشفت عن البعد الاسلامي للانقاذ الأمر الذي فرض علي مصر وأمريكا اتباع سياسة جديدة قائمة علي حرب خفية أولا ثم علنية ثانيا حين عمل نظام الانقاذ علي اغتيال حسني مبارك عام 1995 ليتصاعد الخلاف ويؤدي الي فرض عقوبات علي السودان ووضعه في قائمة الدول الارهابية لأول مرة. كما نجحت الانقاذ في تحييد أثيوبيا وارتريا وابعادهما عن التجمع في الفترة التي سبقت تحرير ارتريا وذلك من خلال دعم المعارضة الارترية والاثيوبية لتطيح بنظام منقستو في اثيوبيا عام 1994 علي حساب المعارضة الاسلامية في البلدين. ولكن محاولة الانقاذ اغتيال حسني مبارك ثم توجه النظام الارتري المعادي تماما لتوجه الانقاذ في تصدير نموذجه الاسلامي بعد نجاحه الأول في دعم المعارضة غير الاسلامية التي يقودها اسياسي افورقي. خلق هذا جوا أدي لتقارب التجمع لاثيوبيا وارتريا ومصر ولكن التجمع لم يستثمره بفعالية للاطاحة بنظام الانقاذ رغم أنه وجد أرضية ينطلق بها في عمله المعارض عسكريا وسياسيا. استطاعت الانقاذ كذلك الافلات من المواجه مع مصر ومع الولايات الأمريكية من خلال التنازل المستمر في سياساتها حتي تحقق لها تحسين علاقاتها كلية مع مصر بحلول عام 2000 وتحييد التأثير السلبي الأمريكي بعد بدأ انتاج البترول وتصديره عام 1999 وابعاد الترابي ومجموعته من السلطة. كذلك نجح نظام الانقاذ في شق المعارضة الجنوبية حين انفصلت ستة فصائل عن الحركة الشعبية بقيادة مشار ولام اكول فيما عرف بمجموعة الناصر ووقعت معها اتفاق فرانكفورت عام 1992 الذي أشار لأول مرة لفكرة انفصال جنوب السودان ثم عقدت معها اتفاقية الخرطوم عام 1997.
واصلت الانقاذ حوارها مع الحركة الشعبية بقيادة قرنق منذ 1989 برعاية الرئيس الأمريكي كارتر ثم في ابوجا الأولي والثانية والثالثة بين عامي 1991 و1993 ثم عبر الايقاد منذ 1994 حتي وقعت معها بروتوكول ماشاكوس في يوليو 2002. خلال هذه الفترة لم يستطع التجمع القيام بدور فعال للاطاحة بالانقاذ رغم أن الكثير من الفرص كانت متوفرة لديه منذ حرب الخليج الثانية وهذا لاينفي دوره في الضغط علي النظام واجباره علي تقديم تنازلات ولكنها لم تكن في مصلحته بل في مصلحة دول الجوار في المقام الأول خاصة مصر وأثيوبيا ومصلحة أمريكا خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 والتي أوضحت عدم التوام نظام الانقاذ بأي مبادئ اسلامية تشدق بها طيلة العشرة أعوام الأولي من قيامه. في ضوء الفشل المستمر للتجمع وارتمائه في أحضان الحركة الشعبية بدأ حزب الأمة البحث جديا في تفعيل المعارضة السياسية ضد الانقاذ التي بدأها بلقاء زعيم الحركة الاسلامية حسن الترابي وأعقبه بلقاء البشير ليضع التجمع أمام خيارين اما الالتزام بالعمل من أجل السودان والاسراع في الوصول لحل سياسي تعقبه ديموقراطية يشارك فيها كل الأطراف أو الانتظار لحل تفرضه القوي الأجنبية تحت ستار حقوق الانسان والتي لا محاولة تقود الي تمزيق السودان.
هنا لابد للمراقب ان يسأل هل كان الصادق بلقائه الترابي ثم البشير ينوي زيادة الخلاف بين الطرفين مما يؤدي إلى إضعاف النظام وبالتالي يسهل الانقضاض عليه من خلال الانتفاضة الشعبية؟ أم انه كان يفكر بعقلية الستينات حينما كان يري التقارب بين الأنصار وجبهة الميثاق في دعم الدستور الإسلامي؟ أو بعقلية الثمانينات عندما تحالف مع الجبهة القومية الإسلامية ؟ لم يكن هذا واردا حسب المعطيات التي ساقها الصادق كأسباب لحوار الطرفين. فالصادق كما توضح سيرته السياسية يفتقد الخبث في العمل السياسي اذا صح التعبير وهي صفة أثبت العمل السياسي المعاصر أهميتها وبالتالي وللأسف فان عدم تميزه بها يعتبر منقصة له من الناحية السياسية. ومع ذلك لابد من التأكيد علي أن لقاء الصادق بالترابي ثم لقاءه بالبشير قد ساهما في زيادة الخلاف بينهما بنفس القدر الذي أضعف فيه التجمع عند خروجه ولكنه بالمقابل كان رجوع الصادق الي السودان همزة وصل مدت في عمر نظام الانقاذ بعد أن بدأ يتهاوي بفعل ابعاد الترابي عنه وهو الأمر الذي يؤكد فعالية وأهمية الترابي في العمل السياسي داخل الحكومة.
بعد اللقاء مباشرة أشار البعض الي ان الصادق لم يوفق في هذا اللقاء ولم يحسب أبعاده السياسية إلا من خلال الضعف وعدم الفاعلية التي تلازم التجمع والسيطرة اللسانية التي يقوده بها الحزب الشيوعي من جهة وارتهان التجمع كلية للحركة الشعبية الذي أدى إلى تخطيها وخرقها ما التزمت به في اسمرا من جهة أخري. ولكن تتابع الأحداث محليا واقليميا ودوليا نتيجة لظهور مصالح اقتصادية واستراتيجية بعد البدأ في تصدير البترول أثبتت جميعها أن قراءة الصادق للأحداث واستقرائه لما سيحدث عنها كان صحيحا. ومع ذلك يبقي رجوع الصادق نفسه الي الخرطوم في ضوء سياسات الانقاذ وثوابته التي لم يبقي منها الا الوجه الدعائي، خطا أمد في عمر النظام خاصة أن الرجوع جاء في وقت افتقد نظام الانقاذ الكثير من الدعم الشعبي الذي وفرته له الحركة الاسلامية بقيادة الترابي.
ذكرنا أن من الأسباب التى جعلت الصادق يتفاوض مع الحكومة أن قرارات اسمرا 1995م للقضايا المصيرية أكدت علي حق كل فصيل داخل التجمع البحث عن حل للمشكلة السودانية في إطار تلك القرارت وهو الحق الذي بموجبه واصلت الحركة الشعبية مفاوضاتها مع الحكومة وأن كل وثائق التجمع تقر مبدأ الحل السياسي الشامل بما فيها مؤتمر اسمرا ومبادرة الإيقاد والمبادرة المصرية الليبية وأخيرا عدم التزام الحركة بمقررات التجمع وطرحها للكونفدرالية لتكوين دولة كونفدرالية يقسم السودان فيها بين الجبهة الإسلامية في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب. يقول الصادق " في ضوء التزام الحكومة بالإيقاد وحق تقرير المصير للجنوب والمجاعة في بحر الغزال نتيجة للحرب فان تيارا وسط المنظمات الدولية بجانب بعض الجهات الكنسية بدأ يضغط علي مجلس الأمن لفرض حل سياسي يوقف الحرب في السودان. ويواصل حديثه " هذه المواقف المستجده وحقيقة تعرض البلاد لمخاطر التمزيق والتدويل هي المبرر القاطع لابطال حمل السلاح وابطال العمل السياسي المعارض من الخارج". كان الرفض للحل السلمي من قبل الحركة الشعبية يتمثل في اصرارها علي مبادرة الايقاد التي تحصر مشكلة السودان في وضع الجنوب أما الحزب الشيوعي فهو يري أن أي حل سلمي تتحقق من خلاله الديموقراطية سيؤدي الي سيطرة حزبي الأمة والاتحادي. لهذا رفض هذان الفصيلان المبادرة المشتركة التي أقرت بالحل الشامل عبر التفاوض. ان رفض الحزب الشيوعي للحل السلمي له ما يبرره اذا علمنا أن مثل هذا الحل لا يقوده الي الحكم ولكن ما بال الحزب الاتحادي الذي يمثل الرقم الثاني بعد الأمة في أي انتخابات؟ الاجابة علي ذلك تكمن في الضغط الذي تمارسه الحركة الشعبية والحزب الشيوعي علي الميرغني من جهة والموقع السياسي الذي تحقق للميرغني بقيادة التجمع دون أن تكون له الكفاءة السياسية من جانب آخر. ان التنافس بين الميرغني كزعيم لطائفة الختمية وقيادة حزب الأمة تنافس يتضمن البعد الشخصي ويرجع هذا الي مواقف قديمة بين المهدي والميرغني في نهاية القرن التاسع عشر حين وقف الأخير ضد الثورة المهدية وتواصلت بين الامام عبد الرحمن وعلي الميرغني في النصف الأول من القرن العشرين وامتد لأحفادهما مع بزوغ القرن الواحد وعشرين وبذلك هو تنافس غير حزبي وان حمل صفة الحزبية. هذا التنافس لعب دورا كبيرا في ابتعاد هذين الحزبين في تنسيق مواقفهما من أجل ايجاد حل سلمي والاطاحة بنظام الانقاذ. اصرار الحركة الشعبية علي مبادرة الايقاد وتخوف الحزب الشيوعي من الديموقراطية التي لن تأتي به للسلطة وضعف الميرغني في قيادة التجمع بالصورة التي تحقق مصلحة السودان تمثل أسباب خروج حزب الأمة من التجمع من جهة كما توضح رفض التجمع للمبادرة المشتركة رغم اصرار الميرغني عليها من جهة أخري.
اصرار الميرغني وتأكيده علي التزام التجمع بالمبادرة المشتركة نابع من علاقة الميرغني بمصر تاريخيا وهي علاقة محورية بالنسبة للميرغني وعلاقة يمكن تنشيطها كلما دعا الحال بالنسبة لمصر. كذلك بالنسبة للحركة الشعبية فان رفض المبادرة بصورة مباشرة يدخلها في مأزق سياسي لن تكون هي الكاسبة فيه في النهاية. فمصر دولة تستند عليها أمريكا في سياستها في الشرق الأوسط وبالتالي لن توافق الأخيرة علي حل سياسي لا يرضي الأولي. كذلك فمعاداة ليبيا برفض مبادرتها سيكون له مردود سلبي علي الحركة التي اعتمدت عليها لفترات طويلة ابان فترة نميري في التمويل العسكري. وحتي لا تتأثر سلبيا علاقة التجمع بدولتي المبادرة طالب التجمع تحت ضغط الحركة تهيئة المناخ من أجل الحوار مع الحكومة. هذا الطلب يدخل التجمع في تناقض كبير لأن الحركة التي أوكل لها مهمة التنسيق بين مبادرتي الايقاد والمشتركة والاتصال بدولتي المبادرة ليبيا ومصر لم تصر علي هذا المطلب اذ أنها تواصل تفاوضها مع الحكومة وفق مبادرة الايقاد التي تبعد كل فصائل التجمع عن محادثاتها. هذا التناقض يفرض الأسئلة التالية هل يعني هذا أن الحركة الشعبية وهي تمثل القوة العسكرية الأساسية في التجمع أكثر مرونة وأقل تشددا في التفاوض مع الحكومة ممن ليس له أي قوة عسكرية أو سياسية؟ ولماذا لم يؤثر اصرار الميرغني علي المشتركة أن يغير في موقف الحركة للتنسيق مع الايقاد؟
المنطق يقول عكس ذلك فمن لديه القوة يكون الاكثر تشددا. وبالتالي هناك أمر غير طبيعي يجري داخل التجمع لا يستطيع المرء ادراكه من التحليل المنطقي. فالحركة الشعبية لا تتشدد في شروطها وهي تفاوض الحكومة وتتشدد في رفض وجود أطراف التجمع وهم حلفاؤها كجزء في المفاوضات من خلال الايقاد. ثم ان الحركة الشعبية ترفض المبادرة المشتركة التي تنادي بوجود كل الأطراف في الحوار مع الحكومة وهي الاتفاقية التي يؤيدها الآخرون وعلي رأسهم رئيس التجمع التي تكشف الأيام وتسارع الأحداث علي عدم معرفته بما يجري داخل التجمع كما أثبتت أحداث هموشكوريب الأولي والثانية والتي أعلن بعدها في كل مرة بجهله بما تخطط له الحركة الشعبية من عمليات عسكرية حتي وان كان هدفها وهي منطقة الشرق التي يسكنها من يعتبر سندا تاريخيا له. كذلك فان ارضاء التجمع المتواصل لكل ما تقوم به وتنفذه الحركة الشعبية حتي وان تناقض مع ما اتفقت عليه معه في مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا عام 1995 يزيد من الحيرة والغموض لما يحدث داخل التجمع. لقد طرحت الحركة في مفاوضاتها النظام الكونفدرالي عام 1997 واعترض عليها فقط حزب الامة ثم طرحته مرة ثانية بعد خروج حزب الامة في 2001 واعترض عليها الحزب الشيوعي ثم وقعت الحركة مذكرة تفاهم مع المؤتمر الشعبي عام 2001 وأكدته بعد عام دون استشارة التجمع الذي علم اعضاؤه بما جري من الصحف وأخيرا قامت بتوقيع بروتوكول ماشاكوس في يوليو 2002 الذي ابعد كل قوي الشمال ووضع لبنات امكانية انفصال الجنوب بعد انتهاء المدة الانتقالية المحددة بستة سنوات. فعلت الحركة الشعبية كل هذا دون أن تخطر التجمع ومع ذلك يستسلم التجمع لها وكأن كجور يكمم أفواههم ويعميهم عن تخطيط الحركة وما تفعله. ولكن عندما يتعلق الأمر بمبادرة حزب الأمة رغم مناداتها بحل يشمل كل الأطراف فان صياح التجمع بخيانة القضية السودانية وفركشة التجمع تسمع القاصي والداني ليتجاوب معها لوقف أي حل سياسي يضمن وحدة البلاد.
لقد تأكد بعد توقيع ماشاكوس ثم فيما تلاها أن الحركة لم يكن يهمها التجمع وما اتفقت معه علي قضايا مثل فصل الدين والدولة وحق تقرير المصير وعودة الديموقراطية والحرية وانما ما يهمها هو الدعم السياسي والدبلوماسي الذي يوفره لارضاء الدول العربية والاسلامية وتركها تفعل ما تريد دون شوشرة تعرقل مسيرتها نحو هدفها الخفي وهو تحقيق الانفصال رغم اعلانها المستمر لوحدة السودان. حقا كثيرا ما تقول الحركة بأنها تريد وحدة البلاد ولكن كل أفعالها تقول غير ذلك خاصة بعد أن اتفق الجميع حكومة ومعارضة علي تقرير المصير. وما يؤكد ما نقوله هو أن الحركة لم تهتم بالحرية وحقوق الانسان ولا عودة الديموقراطية في توقيعها علي بروتوكول ماشاكوس أو ما بعدها وانما اهتمت بتقسيم الثروة والحكم بينها والحكومة ووافقت علي ان يكون الجزء الذي يحكمه نظام الانقاذ كما في السابق نظام شمولي لا تمانع ان تكون الشريعة الاسلامية قانونه علي الرغم من أن الحركة كانت تصر علي فصل الدين عن الدولة في نظام ديموقراطي واحد. كذلك اهتمت الحركة بحدود الاقليم الجنوبي الذي طالبت بأن يشمل جبال النوبة ومنطقة الانقسنا وهذه مناطق لم تكن يوما تابعة للجنوب ولكن انضمامهم للحركة بعد تظلمهم المتكرر من ظلم الشمال وانخفاض صوت المعارضة داخل التجمع لما تقوله وتعزيزا لموقفها التفاوضي طالبت بأن تكون تلك المناطق تابعة للجنوب. وهنا لابد للمرء من أن يسأل سؤالا بريئا ماذا سيكون موقف الجماعات الشمالية التي أصبحت جزء من الحركة هل ستعود الي الشمال اذا قدر الله أن ينفصل الجنوب؟ وما هو موقف الميرغني وجماعته والذين ما انفكوا يسيرون خلف قرارات الحركة وعيونهم مغمضة الا من طشاش يتواري لهم كل ما غرست الحركة خنجرا في جسم السودان المنهوك بمن يدعي زعامته. د.عبدالله محمدقسم السيد/السويد
|
|
|
|
|
|