لقد سعدت كثيرا بقراءة الطبعة الثالثة لكتاب د. محمود شعراني رئيس المركز السوداني لدراسات حقوق الإنسان المقارنة، وعنوان الكتاب هو "الحالة السايكوباتية بين الطب النفسي والقانون"، وقد كتبه المؤلف باللغة الإنجليزية تحت عنوان: " Psychopathy, psychiatry and the law"
وقد صدرت طبعة الكتاب الأولى عام 1990م، وقامت بنشره وقتها دار جامعة الخرطوم للنشر، وقد قام المؤلف بتدريسه لطلاب كلية الطب بجامعة الخرطوم بمشاركة البروفيسور طه بعشر، كما تم تدريسه بالمعهد العالي لتدريب ضباط الشرطة السودانية.. ثم قامت دار جامعة الخرطوم للنشر بطباعته للمرة الثانية عام 1994م، واشتركت به ورشحته لجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وكذلك تم استعراض ملخص للكتاب في برنامج "دنيا العلوم" الذي كانت تقدمه الإعلامية المعروفة "سهام الكرمي" عير إذاعة البي بي سي العربية..
الجدير بالذكر أن هذا الكتاب قد تم التقديم له من ثلاثة علماء، اثنان منهما من بريطانيا هما البروف "آرثر هارلاند" أستاذ كرسي الطب الشرعي بجامعة جلاسقو والبروف و.ه باليكيان رئيس قسم القانون الأوروبي بنفس الجامعة باسكوتلاندا بالمملكة المتحدة.. أما العالم الثالث الذي قدم الطبعة الثالثة فهو العالم السوداني البروف مالك بابكر بدري أستاذ كرسي ابن خلدون، وهو من أبرز علماء الطب النفسي الحديث ـــــــ جامعة ماليزيا الإسلامية العالمية.. وقد درس علم النفس بعدة جامعات أوربية وغربية وهو من قيادات الحركة الإسلامية السلفية (الأخوان المسلمون)..
بعد هذا التمهيد، أعود لعرض وشرح موضوع الكتاب وهو "الحالة السايكوباتية" كما طرحها المؤلف، فهو قرر أن "السايكوباتية" لدى التحليل النهائي هي نوع من انحراف السلوك موجود في المجتمع البشري المعاصر حيث وجد البشر، بل هو معضلة وأزمة الإنسان على هذا الكوكب.. إن الحياة المعاصرة رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي، هي أيضا مصابة بالتخلف الأخلاقي والسلوك الإنساني غير السوي، فليس من اختراعنا أن نقول إن الفلسفات الوضعية المعاصرة والأيدلوجيات العلمانية، وكذلك كل التفسيرات التقليدية للأديان القديمة، كلها قد أثبتت فشلها في تقديم الحلول الناجعة للمشكلات النفسية المزمنة التي يعاني منها الإنسان المعاصر، بمن فيهم أولئك الذين هم بالضرورة ليسوا من الذين يتم تشخيصهم ووصفهم سريريا كحالات العصاب أو الجنون أو حتى حالات سايكوباتية ضمن التشخيص الطبي..
وقد أشار المؤلف في هذا المضمار، إلى رأي العالم الغربي الشهير "روبرت كاتز" الذي يرى أن الصحة النفسية أو العقلية لا تتمثل فقط في غياب العصاب السريري، فالإنسان غالبا ما يقع صريع المرض بسبب الخواء النفسي والفراغ الحياتي من الأهداف النبيلة، وهذا يتطلب نمط من الحياة يعمق الاحساس بالفردية بمعنى أن كل فرد إنساني إنما هو غاية في نفسه.. وهذا بالضرورة يشير إلى أننا لا يمكن أن نتجاهل القيم الاجتماعية عند مناقشة الصحة النفسية والعقلية.. إن أزمة الإنسان المعاصر يمكن تفسيرها على أساس أنها أزمة قيم وأخلاق.. والحديث عن الأخلاق والسلوك الاجتماعي والقيم سيقودنا، بطبيعة الحال، إلى الحديث عن الدين وقيمه والتفكير فيه كوسيلة روحية لحل مشكلات الصحة النفسية.. وفي هذا الإطار يرى العالم الغربي "روبرت كارتز" الذي ورد ذكره: "إن الدين يصبح عنصرا من عناصر الصحة النفسية للأفراد إذا فكرنا في الصحة كهدف أساسي للفرد والمجتمع ويتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وكذلك بعلاقته بالله وبالكون".. ويخبرنا المؤلف د. شعراني أن "كارل يونج" تلميذ "فرويد"، وعالم النفس والذي صاغ لاحقا نظامه الخاص به في التحليل النفسي، وقد وضع في اعتباره أهمية الدين وضرورته في مجال صحة الأفراد النفسية.. انظر كتابه: "Psychology and Religion, Yale University Press 1938"
وعلى العموم، فإن الكثيرين من علماء الطب النفسي وممارسيه يحملون هذا الفهم، وعليه يمكننا أن نخلص إلى أن الحالة السايكوباتية ما دامت هي خلل في السلوك المجتمعي، فإنه يصبح من غير المتماسك علميا القول بأنها، حالة طبية بحتة حيث إن مثل هذه النظرة الضيقة قد تكون مسكنة فقط وغير فعالة في تشخيص أصل الداء.. على أنه ينبغي أن ندرك أن المؤلف هنا، لا يسعى لإثبات أن الدين يمكن أن يكون مهنة بديلة للطب النفسي والقانون إذ أنه لا يخفى على عاقل أهمية القانون والطب النفسي في حياتنا.. لكن الدين عند المؤلف يعتبر منهاج حياة متكامل يحتاجه كل البشر بمن فيهم أطباء علم النفس ورجال القانون، وذلك لأنه يعمل على تعبيد الطريق نحو نظام أخلاقي سلوكي يرتفع بالفرد البشري نحو إنسانيته ويخلصه من صفات الحيوان الموروثة، ومن ثم يحرره من الخوف العنصري الذي هو الأب الشرعي لجميع آفات السلوك البشري في جميع العصور..
إذن الدين ضروري من أجل وضع الأساس للصحة النفسية للفرد البشري، فهو أيدلوجيا تربوية بديلة، ترتكز على العلم التجريبي الروحي وليس المادي.. ولكي يكون المؤلف أكثر تحديدا، فإنه قرر وبصورة حاسمة، أنه عندما يشير إلى الدين لا يعني الفهم التقليدي السلفي الذي يفرق بين الناس على أساس العقيدة كما يعبر الأستاذ محمود محمد طه، وإنما يعني الدين في مستواه العلمي الذي يبني منهجيته على الفطرة التي يشترك فيها كل الناس بصرف النظر عن ملتهم وعقيدتهم وجنسيتهم، والقاعدة في ذلك الحديث النبوي: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"، أي أن المعتقدات في الأديان ليست أصلا وإنما هي عرضية ومن ثم مرحلية.. والأصل هو الفطرة كما قرر النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في حديث آخر: "الإسلام دين الفطرة".. فالتوجه الجديد للفكر الديني يبغي أن يركز على الانتقال من المرحلة العقائدية من الدين إلى المرحلة العلمية منه، والأخيرة هي السنة بمعنى عمل النبي الكريم في خاصة نفسه.. ومنهج السنة علم نفس يتابع الخطيئة في أغوار النفس البشرية برصد مصدرها وتحليله بعلم التوحيد، قال تعالى: "وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، في حين أن المرحلة العقائدية لم تطالب الناس بهذا المستوى لقصورهم وعجزهم عن تطبيقه، فحصرتهم في مجرد إظهار العقيدة واعتبرتهم مسلمين حتى لو كانوا منافقين في حقيقة أنفسهم!! ومما يوضح ذلك الحديث النبوي: "إن الله قد تجاوز لأمتي ما حدثوا به نفوسهم ما لم يقولو أو يعملوا".. إذن ينتظر للدين أن يبعث من جديد في النفوس على السنة، ليكون الأساس الرئيسي للوحدة والسلام والمحبة كعناصر تمدنا بالصحة النفسية للفرد.. ولمزيد من الفهم أدعوكم إلى مراجعة مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه فهي المصدر الأساسي لفكرة أن الدين مستويان: علمي وعقائدي، وهو قد كتب منذ منتصف القرن الماضي يقول بتحديد: "إن ما جئت به من الجدة بحيث أصبحت به بين أهلي كالغريب، وبحسبك أن تعلم أن ما أدعو إليه هو نقطة التقاء الأديان جميعها حيث تنتهي العقيدة ويبدأ العلم، وتلك نقطة يدخل منها الإنسان عهد إنسانيته ولأول مرة في تاريخه الطويل"..(رسائل ومقالات ـــــــ الكتاب الأول)
من الناحية الأخرى، يرى المؤلف أن الفلسفات والأيدلوجيات المعاصرة تقتصر قدرتها فقط على التحكم في البيئة المادية الخارجية واستخدامها في اخصاب حياة البشر من ناحية المادة، ولكنها لا تملك المنهجية التي تغير الفرد من الداخل بحيث يصبح صحيحا نفسيا وأخلاقيا حتى لا يأتي تغييره للبيئة الخارجية مطبوعا بخرابه النفسي الداخلي، كما نشاهد في الاستخفاف بأرواح الناس الذي يحدث في الارهاب، الناتج من الصراع بين الهوس الديني والهوس العلماني، فالإنسان لا بد له من منهجية علمية بها يتمكن من أن يحقق السلام مع نفسه أولاً؛ ومن ثم يكون في سلام مع الآخرين!! ويمضي المؤلف في تحديد أبعاد التغيير في بيئة المجتمع الخارجية ويربطه بتحقيق تغيير في النفوس، فيعرض رؤية الأستاذ محمود في فكرة الرسالة الثانية من الإسلام في الجمع بين الديمقراطية والاشتراكية في جهاز حكومي واحد.. وهذا النظام السياسي يعمل في اتساق مع منهجة التربية الفردية ولن يثمر إذا طبق بمعزل عنها، فبالديمقراطية يتحرر الفرد من خوف الحاكم وبالاشتراكية يتحرر من الخوف من الموت جوعاَ..
ختاماَ، ما لفت نظري في هذه الطبعة الثالثة من كتاب د. شعراني هذا، هو أن الذي قدم له هو البروف مالك بدري أحد قادة الأخوان المسلمين كما أسلفت، وهم الأعداء التقليديون لفكرة الرسالة الثانية من الإسلام، وقد ثمّن فكرة ضرورة التربية الروحية لصحة الإنسان استنادا على المرحلة العلمية من الدين، وبروف مالك اختصاصي في التربية وعلم النفس في منظمة اليونسكو، وقد رشح لقيادة الجماعة أكثر من مرة في تاريخه، وفي منتصف السبعينات اختلف مع د. حسن الترابي وجماعته بسبب انصراف الأخير عن نهج التربية وتعمده التقليل من شأنها بإزاء أهمية القفز إلى السلطة والمال بأي سبيل.. وبقبول بروف مالك لضرورة التربية الروحية للصحة النفسة يمكن أن نقول أن أفكار الأستاذ محمود مع الزمن وعلى خلفية التطبيق العقائدي السلفي في السودان الذي يلفظ في أنفاسه الأخيرة حاليا، قد اقتربت من الواقع مما يبشر بقبول أوسع فيما يقبل من أيام.. فهلا اعتبر بعض الجمهوريين من هذه التطورات، وتقدموا بطرح فكرتهم بعلمية بدل التصورات العقائدية الخاطئة المتمحورة في شخصية المرشد!؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة