قراءة في ملف الأزمة الوطنية بقلم / الأستاذ محمد علي طه الملك

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-19-2024, 11:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-20-2014, 01:46 AM

محمد علي طه الملك
<aمحمد علي طه الملك
تاريخ التسجيل: 07-20-2014
مجموع المشاركات: 35

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
قراءة في ملف الأزمة الوطنية بقلم / الأستاذ محمد علي طه الملك

    بسم الله الرحمن الرحيم


    لعل محاولة القراءة لسبر غور الأزمة الوطنية ، من الضخامة بحيث تستتبع شمول النظر في ماضي السودان وحاضره ، وإن رُمنا الحقيقة فهي أزمة على الرغم من كثافة تجليها على الحاضر، غير أنها من القدم بحيث تبدو مشاهدها إبان الحكم الاستعماري الأول حاضرة في شكل احتجاجات وعصيان وتمرد هنا وهناك انتهت بالثورة التي فجرها الإمام المهدي ، ثم تجلت معانيها في أواخر العهد الثنائي في نشاط جمعية الاتحاد السوداني وحركة اللواء الأبيض ، وأخير مؤتمر الخريجين والأحزاب والكيانات الدينية التي قادت البلاد إلى الاستقلال ، تجلت الأزمة أيضا بعد الاستقلال بصور سياسية محدود ، عبر عنها التنافس على السلطة بين القوى السياسية الشمالية ، على خلفية الصراع الذي دار بينهم حول تقرير المصير، وبينها وبين المجموعة السودانية الجنوبية من جهة أخرى ، وكانت مطالب المجموعة الجنوبية آنذاك ، سياسية ضيقة تخص وضعهم الاجتماعي والسياسي في الكيان الجامع ، بمعنى آخر كانت رؤيتهم محدودة ومختزلة في وضع كينونتهم فقط ، ولم تُطرح الأزمة بصورة قطرية شاملة ، إلا مؤخرا بعد بروز الحركة الشعبية بقيادة الدكتور قرنق .
    لقد أستعرض نفر من المثقفين الجنوبيين أعراض الأزمة منهم المحامي ونائب رئيس الدولة في حكومة مايو أبيل ألير ، والدكتور فرنسيس دينق ، ومن الشمال الدكاترة محمد عمر بشير ومنصور خالد ، وعبد الماجد بوب ، والسيد الصادق المهدي ،والأستاذ محمود محمد طه ، فضلا عن مقالات لعدد من الصحافيين والأكاديميين ، كما ظهرت كتابات أكثر شمولا في هذا الإطار ، من الدكتور محمد جلال هاشم ، والدكتور أبكر إسماعيل ، والدكتور العفيف وغيرهم من الباحثين بجانب برامج وأدبيات حركات الاحتجاج الطرفية ، أيضا أقيمت العديد الندوات قديما وحديثا تحدثت بطريقة ما عن الأزمة ، لقد استمعت مؤخرا إلى تسجيل لندوة أقامها مركز البحوث العربي بمدينة الدوحة ، كما تعرض البرنامج التلفزيوني المبثوث هذه الأيام ( قيد النظر ) لبعض أطراف الأزمة ، إجمالا يمكن القول بأن ما طرح حتى الآن ظل أسيرا لمظاهر الأزمة ، بسبب انعكاسها المباشر على الواقع المعاش ، سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافي ، أما جوهر الأزمة وجذرها ظل متواريا حتى عند من لمسوا حوافها .
    في تقديري أن جذر الأزمة وجوهرها بمظهرها القطري الشامل ، ليس من افرازات الحاضر المعاصر بعد الاستقلال، بل لها ترسبات من أزمان سحيقة، فهذه البقعة الجغرافية التي أخذت مسم السودان حديثا لها إرث تاريخي واجتماعي ضارب في القدم ، كثيرا ما نتجاهله عند توصيف ما عليه حاضره ، هذا الإرث لا يمكننا بأي حال شطبه أو تجاوزه لمجرد الادعاء بأن مجتمعاتنا تلاقحت ، وثقافاتنا تبدلت ، وأصبح ديننا الإسلام ولغتنا الغالبة عربية ، صحيح أن الحاضر ليس صورة مطابقة للماضي ، ولكنه منبثق عنه وقائم على أساسه ، ولكل فرد شيء من تراث أجداده مختزن في كيانه يؤثر في رؤيته وكيفية تقبله لما يدور حوله ، إذن على من يروم الإصلاح أن لا يقفز بالزانة ، ويسعى للإصلاح بروح ثورية مستوردة ، بل يجب أن يستلهم الثورة من واقعه وتراثه ، فالتراث هو مخزون شعور الفرد والجماعة بالولاء لبقعة ما غير أن غُربة النخبة عن مخزون ذلك التراث ، توه خطاها عن السكة الصحيحة
    إن من يريد الكسب والانتصار ، عليه أن يدرك من هو خصمه ، وعلى ضوء ذلك يمكن القول بأن البحث حول من هم وراء فرضية التميز الثقافي العروبي الإسلامي السائد والمهيمن الآن على الساحة السودانية ؟ لن يجد سوى النخبة السودانية بثقلها الثقافي الديني السلفي الظاهري والعلماني ، ولو نظرنا في العوامل التي قادت لظهور هذه النخبة ، تبرز السياسة التعليمية التي خطها الاستعمار، فهي التي تحكمت على الفضاء التعليمي والإعلامي والفني والسياسي بصورة كلية ، وظلت في اطراد حتى بعد استقلال البلاد ، تلك هي الحقيقة التي يجب الاعتراف بها، ولن يُجدِ دفن الرؤؤس في الرمال بعد أن بلغ الوطن حوافي الانهيار.
    لو أجلنا النظر في الوضع الطبوغرافي لهذه البقعة الجغرافية منذ القرون الوسطى وحتى الآن ، بغية استكشاف ما استجد فيها من حراك وتساكن بشري ، نجد في الشرق قومية البجا بجذورها الضاربة في تاريخ الشرق القديم ، وعلى الشريط النيلي بفرعية الأبيض والأزرق ، نجد النيليون والنوبيون يعمرون هذه المساحة مقيمين عليها بنيات سياسية وحضارية قديمة ، وبالانتقال غربا نجده أيضا معمور بقوميات نوبية وأفريقية أنشأت لنفسها سلطنات تجاوزت بها مرحلة التكوينات القبلية الأولية منذ أمد بعيد.
    في القرون التاريخية الوسطى ظهرت تحولات جوهرية ، حيث تعرضت قوميات الشرق والوسط النيلي والغرب لهجرات عربية كثيفة تتابعت من اتجاهات ثلاثة الجزيرة العربية ، ومصر والمغرب العربي بعد سقوط الأندلس .
    كان الطابع الغالب لهذه الهجرات سلميا بحثا عن الرزق ، وبمرور الزمن تلاقحت واندمجت وذابت في المكونات المحلية مؤثرة فيها ومتأثرة بها ، فكانت النتيجة ظهور أجيال هجينة عرقيا وثقافيا تمكنت من الصعود لسدة الزعامة والحكم مؤسسين ممالك وسلطنات مستعربة خلفت الممالك القديمة.
    لقد كان لزاما على النخبة السودانية ، وهي ترث نظاما استعماريا جمع بين هذه المكونات الاجتماعية ، ووضعها قسرا تحت نظام حكم مركزي شديد القبضة ، أن تستوعب افرازات تلك الحقب التاريخية التي مرت بها المكونات الاجتماعية في هذه البقعة ، وإحقاقا للحق فإن أول من وضع إصبعه على جوهر الأزمة الوطنية وسماها هو د. منصور خالد عندما نسبها لفشل النخبة السودانية ، لكونها المجموعة التي قادت العمل السياسي والثقافي في السودان الحديث ، وأرست لبنات ما هو سائد الآن ، غير أن النخبة التي أعنيها ليست قاصرة على مجموعة الخريجين الذين أهلهم التعليم النظامي الحديث ، وأوكلت إليهم مهام الحكم وإدارة البلاد عقب الاستقلال ، بل أيضا يندرج معهم خريجو الأزهر والمعاهد الدينية الذين وضعوا لبنات التعليم الديني الحديث وبرامج الدعوة والإرشاد ، على نسق المناهج السلفية في الأزهر والجزيرة العربية ، فتقاطعت بالضرورة مع مناهج التعليم الصوفي الرائجة من القرون الوسطى ، هذا القول يتعين معه الإشارة لأهم حقبتين أثرهما ظاهر في هذا المضمار ، وهما حقبة الاستعمار المصري المعروف بالتركية السابقة 1821م ، وحقبة الاستعمار الثنائي التي أعقبت سقوط الحكم الوطني وأكملت البنية التي بدأتها الأولى ، فالاستعمار المِصري يعد في الجانب السياسي المسؤول الأول عن النقلة القسرية العنيفة ، لكيانات المجتمع إلي نظم الدولة المركزية الحديثة ، بمؤسساتها الإدارية والمالية والقضائية والأمنية، في الوقت الذي لم يكن تطور واستنارة الكيانات الاجتماعية ، بلغ مفهوم الدولة كجسم افتراضي حاضن لمعنى السيادة ، حيث كانت الكيانات في هذه البقعة ، لازالت في طور إعادة الهيكلة والتشكل بعد امتصاص حركة الهجرة الواسعة إليها ، ومحكومة بنظم وراثية وسلطنات شعوبية ، تلتصق فيها مفاهيم السيادة والسلطة بالمميزات الذاتية لشخص الحاكم.
    أيضا في الجانب الثقافي كان الحكم المصري هو المسؤول عن إرساء بنية الثقافة الإسلامية العربية على المنهاج السني الظاهري ، فهو الذي أقام المساجد الجامعة على نمط هندسة المعمار العثماني ، واستجلب لها العلماء والفقهاء والخطباء واعتنى بإعاشتهم ، على خلاف ما كان سائدا من نمط التعليم الصوفي الطوعي بمظهره الشعبي ، الذي يحفظ مسافة مقدرة بينه وبين السلطان .
    لقد صنف البعض الأزمة استنادا على جدلية المركز والهامش ، بكل حمولاته المتعلقة بتوزيع وقسمة السلطة والثروة ، غير أن هذا التصنيف مع ما به من مصداقية ، يمثل مظهرالأزمة وتجلياتها على الواقع ولا يعبر عن جوهرها ،وأدلل على ذلك بالاتي:
    المركز والهامش متلازمتان وجوديتان ، وجودهما طبيعي ضمن المعادلات الحاكمة لحركة الكون ، وإن شئت تقريب الصورة فالشمس تمثل مركزا لتوابعها من الأفلاك ولا توجد دولة أو حتى نظام إداري لا يحتفظ بهرمية تشكل المركز والأطراف ،حتى تكوين الإنسان فيه مركز وأطراف ، إذن مظهر المركز والهامش أمر طبيعي غير أنه يصبح مظهرا معلولا إذا فقدا عوامل التناسق والتكامل فيما بينهما ، وهي الحالة التي يصدق عندها نعت المركز وهامشه بصفة المجادلة والصراع .
    على ضوء ذلك لو نظرنا للإخفاقات التنموية والتوزيع العادل للثروة وقسمة السلطة نجد أن هذا الخلل موجود بطريقة تعكس مبرر الصراع بين المركز والهامش ولكن بقليل من البحث التاريخي نجد أن هذه الإخفاقات ليست وليدة الحاضر أو ما بعد الاستقلال فقط ، حتى نُحمّل الجيل الوطني تبعات تأسيس للأزمة ، غير أنهم يتحملون تبعات إخفاقهم في استيعاب تلك العيوب والتشوهات وإزالتها .
    لقد عمل المستعمرون على تركيز مؤسسات الدولة ، ومركز سلطتها ومشاريعها الاقتصادية الكبرى في الوسط تحقيقا لمصالحهم ، هذا التركيز كان هو الدافع وراء هجرة الناس من المراكز الطرفية التي كانت رائدة إبان العهود السابقة في النيل الأزرق والشمالية وكردفان ودارفور ، والاتجاه نحو المركز الجديد ومناطق الإنتاج في الوسط ، ومضى الحال على هذا النحو إلى ما بعد الاستقلال سواء بوعي النخبة أو بغير وعيها.
    ولكن الملاحظ مع قدم هذه العلة ، لم تبرز كصراع بأبعاد اجتماعية أو اقتصادية أو مذهبية كما هو الحال الآن ، الأمر الذي يدفعني للقول بأن السبب في ذلك الكمون لكون تلك الإخفاقات في حقيقتها لم تكن تمثل جوهر الأزمة ، بل احد المظاهر المرئية الدالة على وجود الأزمة.
    أما الصراع الذي يسعى البعض لتصويره كجدلية طبقية أو عرقية بين المكونات الطرفية ومكونات المركز ، فهو في تقديري فرضية متوهمة ليس لها وجود، ينفيه أول ما ينفيه كون مكونات المركز الاجتماعية جلهم مهاجرون إليه من الأطراف بسبب تركيز التنمية في المركز كما تقدم، وأبلغ دليل عملي على ذلك ، الثورة المهدية التي جاءت في الأساس ضد المركز الجديد الذي خطه المستعمر، غير أنها قبلت الإقامة فيه والاستكانة لشروطه دون أي تغيير اقتصادي ملموس ، مما يعني أن تسمية الأزمة من هذه الزاوية لا يستبطن سوى مفاهيم قبلية وعرقية ممقوتة تقف إلى الضد من مفاهيم العصر الإنسانية .
    ولكن عندما يُربط ويُحاط مثل هذا التصور بالإخفاقات التنموية وقسمة السلطة يعكس معنى الصراع على السلطة والثروة ، وهو صراع فادح الكلفة عندما يأخذ أشكال المقاومة المسلحة ، لذا يهرع مركز الحكم لتسوية المظهر بعيدا عن الجوهر فتنهار الاتفاقات التي يسعى لها النظام الحاكم مع الفصائل والأجسام المتبنية للمقاومة ، وينتهي المسعى كما العادة إلى إغراء قادة الفصائل بالمناصب والاستجابة الوقتية لبعض المطالب ، ثم تجاهلها لاحقا بعد تدجين القادة أو إحراق جدواهم وجديتهم في تبني قضايا مناطقهم.
    يعمد البعض أيضا نحو توصيف الأزمة كصراع هوية ثقافية ، مناط الصحة في هذا التوصيف ظل شاخصا بغلبة قبل انفصال الجنوب ، ثم تراجع ليعكس مظهر الأزمة لا جوهرها من بعد ذلك ، لأن السمة العامة للمكون الثقافي في الشمال والوسط والشرق والغرب ، سمة ثقافية مشتركة تولدت عن تداخل وتمازج ثقافي آمن وسلس عبر العصور بين المهاجرين والكيانات المحلية ، غير أن ذلك لا ينفي بالمطلق مظهر الصراع الثقافي الذي تجلى بصورة واضحة كإفراز للسياسات التعليمية التي خطها المستعمرون ، تشبعتها النخبة السودانية ومضت على نسقها طوال الحكم الوطني ، أما ربطها بمردود الهجرات العربية التي تتابعت عبر الحقب ، فإن القول بذلك في تقديري لا يعكس سوى الإخفاق المعرفي أو التجاهل لطبيعة وأسباب تلك الهجرات ، إذ من الثابت تاريخيا أن تلك الهجرات كانت في مجملها هجرات لطلب الرزق ، ولم تكن ذات بعد معرفي أو بعد أيديولوجي إسلامي كالذي يندرج تحت شروط الفتح ،ولم يثبت أنها عملت على عزل نفسها عن بقية المكونات المحلية أو أبادتها وحلت محلها ، مثلما فعل أولئك الذين هاجروا للدنيا الجديدة ، بل ساكنتها وتلاقحت وتمازجت معها عرقا وثقافة فأعطت وأخذت وتولد عن ذلك الأخذ والعطاء جيل هجين عرقيا وثقافيا هم من نعتوا بالمستعربين لسانا.
    عند ظهور هذا الجيل كانت السلطة السياسية ـ سواء في الممالك النيلية أوفي الشرق أو الغرب ـ بيد زعماء المكونات المحلية ،انتقلت منهم بسلاسة ودون شد وجذب للجيل المستعرب ، إما بسبب المصاهرة وتقاليد الوراثة المحلية ، باستثناء مملكة سوبا التي ظلت بيد مكونها المحلي ، إلى أن تكاثر حولها المستعربون وثاروا في وجه سلطانها ، ومن ثم نشأ نظام سياسي فدرالي جديد عرف بالسلطنة الزرقاء ، كان أكثر ما يميزه الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية (الانتباه لهذه النقطة شديد الأهمية ) لكون ظاهرة الجمع بين السلطتين ، كان مبتدأ ظهورها في السودان الحديث مع الثورة المهدية ، ولعلها كانت إحدى الدوافع البارزة في سَمت المعارضة المحلية التي تشكلت ضدها.
    نشأت أيضا سلطنات مستعربة في السودان الغربي ، هي سلطنات الفور والمسبعات وتقلي ، انتقلت سلطة الحكم لسلاطينها من المكون المحلي عن طريق الوراثة ، أو وفق ما فرضته موازنات القوى الاجتماعية والاقتصادية الحية كحال السلطنة الزرقاء ، ويلاحظ أنه إلى أن وضعت النهاية لهذه السلطنات بالغزو المصري 1821م ، أو الحكم الثنائي لاحقا ، لم يكن هنالك صراع مرجعيته ثقافية أو دينية، ذلك لأن الأجيال الهجينة كانت قد خطّت لنفسها ثقافة ولغة خاصة مزجت بين ثقافة ولغة المهاجرين ، والثقافات واللغات المحلية ، كان من مظاهرها لغة الخطاب المعروف إلى اليوم بالعامية السودانية ، وكل من يطلع على قاموس الدكتور عون الشريف عن العامية السودانية ، يظهر له بجلاء ذلك التلاقح والامتزاج الذي حدث بين لغة المهاجرين واللغات المحلية ، ولأن اللغات المحلية نفسها كانت متنوعة جاءت العامية أيضا متنوعة ، فعامية الشرق تتميز عن الوسط وعن الغرب والعكس ، والملاحظ أن اللغة لم تكن وحدها التي تمازجت، بل أيضا التقاليد والأعراف والتراتيبية الاجتماعية ، بحيث تسيدت تراتيبية تمييز الذكورة وإعلائها كما الحال في التقاليد العربية.
    الشاهد يمكن القول أن العامية السودانية إنتاج سوداني أصيل ، ولغة متطورة رفدت وشكلت الذاتية والهوية الثقافية السودانوية ، وكانت ستلعب دورها في استمرار تقارب وربط الكيانات ببعضها ، لولا الغزو الاستعماري المصري ومن بعده الثنائي ، اللذان عملا على إنشاء نظم تعليمية وتثقيفية جديدة أنتجت أثرها.
    خلاصة الكلام في هذه الجزئية ، أن مجتمعات البقعة في أي من مواقعها الجغرافية لم تكن قد الفت الصراع الثقافي أو صراع الهوية ، طوال العهود التي سبقت الاستعمار المصري ، أيضا لم تألف صراعا عَقدّيا قبل ذلك التاريخ ، فمن المعلوم أن تعاليم الإسلام كانت لا تزال بنيتها ضعيفة ، حتى بعد استعراب الممالك والسلطنات ، ويخبرنا كاتب الطبقات (ود ضيف الله ) بأن البلاد كانت خالية من مدارس تعلم الناس أصول الدين ، إلى أن جاء الداعية الشيخ محمود العركي في عهد السلطنة الزرقاء وبدأ يعلم الناس ، نفس الدور نهض به الشيخ غلام الله من دنقلا ، كذا الحال في سلطنات الفور والمسبعات وتقلي ، ثم تتابع بعد ذلك قدوم الدعاة من الحجاز والعراق والمغرب العربي ، فأنشئوا خلاوى القرآن ونشروا الفقه على المذهب المالكي ، وأقاموا منهج التربية الدينية ومدارج العرفان على منهج التصوف وعلوم الباطن ، وكل الذي أبداه الصراع بين مكونات المجتمع وسلطناته قبل الاستعمار المصري ، كانت دوافعه صراع على السلطة الزمنية محفوف بأطماع توسعية، بغية فرض السيادة وإعادة التشكل ، في محيط جغرافي أوسع من المحيط القبلي والشعوبي.
    تلك كانت هي الأرضية والبيئة الحاضنة التي استوعبت تباينات ذلك العهد تجاوزتها وشرعت في تشكيل وهيكلة بنية ثقافية وسياسية سودانية خاصة ، لا هي عربية مطلقة ولا هي أفريقية مطلقة ، ولكن قبل أن يكتمل بنيان هذا الشكل الجديد تعرضوا لغزو خارجي ، عمل بعنف زائد نحو الانتقال القسري لنظم الدول الحديثة وتوطين نظام تعليمي ، وثقافة دعوية عربية إسلامية على المنهج السلفي الأزهري فأنتج ذلك الجيل الأول من النخبة السودانية التي مضت في اطراد .
    قلت أن النخبة ثقافية التي تشكلت من خريجي نظام التعليم الاستعماري ، وخريجو معاهد الدين الأزهرية ، أصبحت بحكم سياسة الدولة في القمة ، تقاطعت ثقافتها وتربيتها مع الثقافات الشعبية التي تبلورت من خلال التلاقح والتمازج السلس فاستعلت عليها حينا ، وسعت لنفيها أحيانا ، وقادت حملة ثقافية تنويرية هدفها التأسيس لمشروع تعريبي إسلامي ، يتقاطع مع أسس ومنهج المشروع التلاقحي الشعبي الهجين ، الذي تقبّل الدين على المنهج الصوفي ، وهضم اللغة وتجاوز تقعيداتها بشكل الخطاب الذي عرف بالعامية السودانية ، وكان في طريقه لتشكيل هوية سودانوية متكاملة.
    على ذلك يمكن نسبة ما نسميه بالصراع الثقافي الذي طرأ حديثا ، لثيمة التباين بين الثقافة المدرسية المكتسبة للنخب ، والثقافات الشعبية التي استعلت النخبة عليها وسعت لنفيها ، حدث ذلك بسبب التمييز المهني الذي أسبغه نظام الحكم على خريجي مدارسها بتوظيفهم في دواوين الحكم ، وحرمان أقرانهم من خريجي الخلاوى من تلك الميزة ، وكان لذلك التمييز الوظيفي أثره النفسي والسلوكي والذهني المباشر على وضعية أولئك الخريجين ، ذلك بإكسابهم نظرة مترفعة على أفراد مجتمعهم وتراثهم الشعبي، لم يتوقف عند الحد الثقافي ، بل تعداه ليشمل تبخيس قدرات رفقائهم المعرفية من خريجي الخلاوى ، الذين كانوا لا يقلّون عنهم في تجويد القراءة والكتابة ، بل كانوا يتميزون عنهم بسبب أساليب التربية السلوكية التي انتهجوها ، وجعلتهم يرتبطون بقيم وتراث مجتمعهم ، ولا يشعرون حرجا في التعايش مع الواقع الثقافي والاجتماعي والبيئة المحيطة .
    كان الخريجون بفضل ما تلقوه من تمييز، يتقاطعون مع واقعهم وتراثهم ، ويعملون على نفيه بحجج التخلف والرجعية ، يظهرون ذلك بدءا من مظهرهم الشخصي فارتدوا ( البدل والطرابيش والكوفيات وقفاطين الصوف) ، وتغير أسلوب خطابهم وطريقة تفكيرهم وتعاملهم مع محيطهم، فغدوا مهيئين لقبول وتبني وسائل التغريب باسم التحضر والتنوير ،ومن ثم السقوط في فخاخ أفكار وأيديولوجيات لا تتسق مع واقع مجتمعهم وثقافته الهجين، مثل الأفكار اليسارية والقومية العربية ، وأخير الإسلام السياسي الوليد الشرعي لاجتهادات مدرسة الظاهر الذي غرس لبنته الاستعمار التركي كما تقدم .
    هذه العلل للأسف أورثت هذه النخب السودانية ، خيبات مستمرة حتى زماننا الحاضر ، باستثناء ثلة قليلة انتبهت للخلل ـ على الأقل في شقه الأدبي ـ فظهر من بينهم نفر كريم أواخر الحكم الثنائي ، نادوا بأن تكون هنالك مقومات ذاتية للأدب يعكس وجه ثقافتنا و يميزها كأدب سوداني ، ولعل التنوير الذي تحقق على يد أولئك الرواد، جعل لمنتجهم وجود في الساحات الأدبية ، الأمر الذي كان له أثره التمهيدي في تبلور فكرة السودانوية ، كطرح يردم هُوة الصراع بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية ، وهي لا زالت في طور النضوج والإحاطة ، لتصبح فكرة ذات منهج متكامل وشامل ينقذنا من هذا التردي.
    أما في الشق السياسي والعَقّدي ، فقد تبنت النخبة أيديولوجيات مفارقة تماما لواقعها الاجتماعي ، سعت بها سعيا دءوبا لكي تهدم بنية المجتمع الشعبي وثقافته وملمح تدينه الباطني ، وذلك بإحلال أفكار وتنظيمات حداثوية تخدم وجهتهم الأيديولوجية سواء كانت يمينية أو يسارية.
    قلت فيما تقدم أن الاستعمار المصري مسؤول عن النقلة القسرية للكيانات السودانية بنظمها الوراثية الشعوبية إلى نظم الدولة بمؤسساتها الحديثة ، وكان لتلك النقلة مردودها الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي ، ففي الجانب الاجتماعي تمثلت السمة الأبرز في انقطاع حبل الولاء وعلاقة التبعية بين الحاكمين والمحكومين ، فغدت نظرة الناس لحكامهم كأجساد غريبة جثمت فوق رؤوسهم فابدوا خضوعهم بدافع التقية ، وظلت تلك الهياكل والتراتيبية الإدارية بهرميتها المركزية وسمتها البيروقراطية كما أنشأها المستعمر، تقليدا راسخا سارت عليه كافة الأنظمة الوطنية التي أعقبت المستعمر، لذا كانت علائق الولاء بتلك النظم المركزية منبتة ، لا يحس معها المواطن بروح الانتماء أو إنها تمثل إرادته، وكان من واجب النخبة الوطنية العمل على تلافيه بعد الاستقلال وتصويب المسار.
    وفي الجانب السياسي والاقتصادي ، ترتب على تبني النخبة الوطنية للنظام المركزي، تجميع السلطة بيد حكام المركز ، واستمرار تركيز الثروة والنشاط الاقتصادي ، في مركز الحكم والمراكز الفرعية له في المدن الكبرى ، واستمرت خطط التنمية وموارد الاقتصاد موجه لصالح دعم خزانة الدولة وليس المواطن تماما كما كان الحال في العهود الاستعمارية ، وقد أدت تلك السياسة إلى حرمان المناطق الطرفية من التنمية ، فاستمرت الهجرة إلى العاصمة ومدن المركز ومناطق الإنتاج .
    وفي الجانب الثقافي منحت الأفضلية والسيادة للثقافة العربية الإسلامية ، وتأسست المناهج التعليمية والتربوية ، ومناهج الدعوة والإرشاد الديني على النحو الذي يحقق تلك الغاية ، فكان حصادها هذه النخب التي شكلت جوهر الأزمة الوطنية
    ولعل الصراع الخفي الذي يطفو ناعما إلي السطح أحيانا ، بين مدرستي الظاهر والباطن ، لم ينتبه الناس بعد لأثره الخطير في الصراع السياسي والثقافي الذي أنتظم البلاد مؤخرا، إذ لم يعد سرا أن صعود إحدى تنظيمات مدرسة الظاهر السياسية إلى سدة الحكم ، جمع بين يديها السلطتين الزمنية والروحية ، ومكنها من تطبيق برنامجها المعروف بالمشروع الحضاري الإسلامي ، فأعلنت الشريعة الإسلامية ، وشوّنت حربا جهادية في وجه شق من مواطني البلاد، لم تفلح كل اتفاقات الصلح والتسوية اللاحقة عن جبر أضرارها ، إلي أن فقدت البلاد وحدتها بانفصال جنوبه .
    وفوق ذلك ـ عملت بصورة مباشرة وعنيفة نحو إقصاء منافسيها وخصومها ، بلغت في كثير من الأحيان حد التصفيات الجسدية (رئيس الحزب الجمهوري ، قادة محاولة رمضان العسكرية ، رئيس العدل والمساواة ) حتى تمظهرات أفعالها تجاه التظاهرات الشعبية والطلابية جاءت عابثة بالأرواح (ضحايا تظاهرة كجبار بورسودان ، مدني ، الخرطوم امدرمان ، الجامعات السودانية ، ضحايا دارفور كردفان النيل الأزرق ، ضحايا معتقلات بيوت الأشباح ، محاكم العدالة الناجزة محاكم الطوارئ ) وآخرون لا أعلمهم يعلمهم الله.
    هذه الممارسات التي فاقت تصور السودانيين، إلى الحد الذي تساءل معها احد أبرز قادة الأدب السوداني (رحمه الله ) والدهشة تلجمه (من أين جاء هؤلاء) سؤال بليغ لا يُفهم منه سوي نفي وإبعاد دور هذه (العصبة) كما يقول (الأستاذ فتحي الضو ) عن موروث السودانيين الثقافي ، ويقطع حبلها السُري عن أعرافهم وتقاليدهم الاجتماعية ، لقد هدم المشروع الحضاري المثل والقيم العليا التي غرستها المدرسة الصوفية في الشخصية السودانية ، وكان كافيا لإحداث الصدمة ، فلم يعد يدهش المرء سماع الألفاظ النابية ، ولا علانية الانحرافات الخُلقية ، ولا مآسي قتل وسحل النساء والأطفال والعجزة ، ولا كم الموبقات المنسوبة لمن ظن فيهم الخير، فأصاب الجمع (هاء السُكت ) كما يقول الدكتور بشرى الفاضل .
    لكل ما ذكر وبحثا عن الخلاص تعلقت الأطراف بقضايا الهامش ، وتكتلت النخب ذات التوجه العلماني والتنظيمات التقليدية الأخرى حول تلك المظاهر المرئية التي عددتها في مقدمة هذا المقال ، كمقومات تشرعن صراعهم ضد نظام الحكم ومشروعه الحضاري .
    على أي حال ـ إن إرث النخبة السودانية بشقيها المدني والعسكري ، ومختلف تبايناتهما الفكرية، فاعل وحاضر في كل ما أحاط الوطن من أزمات ، وما لم تنتبه وتدرك سيرتها ومسارها فلن تتوقف الترديات ، وكما يقال (لكل فعل رد فعل) فمثلما تبنت شرائح منهم ثقافة قومية عربية تراهن على عروبة السودان خصما على تنوعه ، وأيديولوجية يسارية في بلد يخلو من الطبقية ويأنفها ، وسائر موارده الاقتصادية الكبرى بيد الدولة، في المقابل تبنت شرائح أخرى فكر الدولة الإسلامية خصما على إرث مجتمع روحي صوفي ظل يحفظ مسافة بينه وبين السلطان ، في بلد معاهد لم يحظى بمنافع الفتح الإسلامي، فقفزوا مخادعين لسدة حكمة بليل وكأنهم لم يقرؤوا قضاء المسلمين حول فتح سمرقند ، والآن بظهور التنظيمات السلفية المتشددة ظهرت الجماعات الشيعية ، والحال كذلك ـ تصبح البلاد موعودة بحرب دينية أمثلتها حاضرة إقليميا ، ما لم تفق النخبة السودانية وتتجاوز علتها التاريخية.























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de