الجيل الذي أكمل تعليمه قبل التسعينات، يحق له أن يعتبر نفسه جيلاً محظوظا. إذ كان تعليمه مجاناً. لم يتعرض للجابات الحكومية التي غزت المدارس بأخرة؛ كما لم تكن المدارس الخاصة قد دخلت حلبة التنافس المحتدم على جباية الرسوم لتحيل التعليم إلى عمل تجاري صرف، تحكمه قوانين سوق بشعة الوجه وحادة الأدوات ولا تعرف الرحمة. ولطالما كان التعليم أداة متينة للحراك الاجتماعي، الذي يعمل على تخريج أبناء الطبقة الفقيرة إلى مدارج الطبقة المتوسطة الدخل، وبذلك يحدث الارتقاء للمجتمع برمته ويتطور... وينتقل من حال التخلف إلى مراقى التقدم التي تليق بحياة الإنسان. كان التعليم مجاناً. أو بالأحرى كان على حساب دافع الضريبة وكرمه وسخائه. ذلكم الأغبش الذي يتسربل الدبلان ويتعمم الدمور، ويلتحف العزة والإباء والشمم. فعلى حساب هذا الأغبش جهزت الفصول الدراسية وطبعت الكتب ووزعت الكراسات وصرفت الكثير من المعينات التعليمية. كما أعدت المرافق الرياضية والثقافية وانطلقت الجمعيات الأدبية، وأصبح العام الدراسي وليمة معرفية رفيعة المستوى. الذين درسوا في الداخليات، تناولوا الوجبات الثلاث غير منقوصة. في كل ذلك، لم يمتن هذا الأغبش على أحد. حاشاه! وعلى حسابه أيضاً، عكف على التعليم أساتذة أكفاء أبدعوا في تقديم العلم والتوجيه والإرشاد. شدوا من أزر طلابهم وطالباتهم. كان همهم أبناء وبنات السودان، لم يعبأوا بما إن كان الطالب أمامهم مسلماً من حلفا أم مسيحياً من نيمولي. فالعقول وحدها يخاطبون. أما القناعات السياسية، والإنتماءات الجهوية أو القبلية، فلم تكن داخلة في الحسبان. لم يكن ذلك تبذيراً لا طائل من ورائه، كما لم يكن عملاً أهوج، إنما استند إلى حصافة في الفكر وبعد في النظر. ذلك أن الإنسان يجب أن يكون الغاية النهائية من التغيير الاجتماعي، وليس مجرد أداة لذلك التغيير. هذه الحقيقة البسيطة يقوم عليها الآن مفهوم التنمية البشرية. فالتغيير يقتضي مشاركة الجميع وعلى قدم العدل والمساواة. لكن الإنقاذ جاءتنا بالتمكين، الذي تمخض عن محاربة الناس في سبل كسب عيشهم. أصبحت المفاضلة بين السودانيين تتم على أساس انتماءهم للإخوان المسلمين أو مدى قابلية تمريرهم لأجندة الإخوان. كل ما عدا ذلك، في نظر الإنقاذ، فهو مجرد دغمسة دينية وهرطقة ليس إلاّ. ولأن التمكين يمثل خروجاً عن مألوف حياة الناس، فقد اتجهت الإنقاذ إلى تقييد الحريات وتكميم أفواه كل مخالف لها، وألقت بمعارضيها في غيابات بيوت الأشباح. شردت السودانيين من وطنهم، وتركتهم نهباً للموانيء والمطارات ومحطات القطارات في كل بقعة من بقاع الأرض. في العديد من المرافق العامة، وعلى رأسها التعليم، استبعد الموظفون الأكفاء للصالح العام، واستبدلوا بذوي اللحى الطويلة والعقول القصيرة. ضربوا كفاءة الخدمة المدنية في مقتل. كان التعليم أكبر الضحايا. حدث كل ذلك العبث والصبيانية باسم الله! فباسمه جندوا الطلاب في حروب زعموا قدسيتها، واستمرت زهاء العقد ونصف العقد. اججت نيران الحرب بلا جدوى، إذ أفضت إلى توقيع معاهدة السلام الشامل في 2005م. وأنتهى المشهد المأساوي بانفصال جنوب السودان. فلماذا كل تلك الجلبة والضوضاء وإهدار الأرواح والموارد والوقت؟ واكب ذلك توسع الإنقاذ في التعليم الخاص، كمصدر رزق مكفول لعضويتها بتدابير احتكارية ماكرة. ثم صاحت أن حيّ على ثورة التعليم وتعدد «مواعينه»، حسب زعمها. انتشرت الجامعات طولا وعرضاً، وتضاءل قدرها وزناً وشأنا. وتشهد على ذلك مؤشرات أداء الجامعات السودانية مقارنة برصيفاتها في دول أخرى. اغفلوا حقيقة أن التعليم لا يزدهر إلاّ تحت شمس الحرية. ادخلوا البلد في كسوف عقلي استمر فوق ربع القرن. وفي موهن من الليل، خلصنا إلى كابوس مفزع لا يقاوم. فقد طالما أصبحنا في ذيل الأمم، ليس في التعليم فحسب، بل في كافة نواحي الحياة: اقتصاد وسياسة وثقافة واجتماع. لماذا؟ لأن التعليم هو قاطرة كل شيء. إذا صدق ذلك، فإن القاطرة تتحرك بوقود الحرية والعدل والمساواة.. لأن الغاية هي الإنسان عموما. ومتى انصب التركيز على فئة ذات لون سياسي أو إنتماء جهوي أو قبلي، اختلت المعايير وتحولت تلك الفئة المختارة إلى تحصيل الجبايات وريع احتكار مؤسسات الدولة، وامتنع عامة الناس عن الإنتاج. وتعطل كل شيء. ونحن نشهد اليوم هذه النتيجة ماثلة بين أيدينا، فيما يتحمل المواطن الأغبش تبعاتها دون أن يكون له فيها ناقة ولا جمل. تعطل كل شيء في حياتنا. توقفت قاطرة التنمية، وهي التعليم، وتهافتت الإنقاذ على بيع أشلاء القاطرة في سوق الخردة، وبثمن بخس.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة