|
في ذكرى زميلنا وصديقنا الأعجوبة البروفسور قريب محمد راجع محمد وقيع الله
|
في ذكرى زميلنا وصديقنا الأعجوبة البروفسور قريب محمد راجع محمد وقيع الله
يُعدُّ الأخ الكريم وزميل دفعتنا الدراسية في الزمان الخالي بجامعة أم درمان الإسلامة المنيفة فضيلة البروفسور قُريِّب محمد راجع بحق وحقيق رمزا من الرموز الساطعة في سماء جامعتنا السامية. كنا في أواخر العقد الثاني من العمر وكان هو في منتصف العقد السادس من عمره الشريف حين التحقنا بالسنة الأولى بالجامعة. وكان حديث الطلاب بالطبع إذ كان الشيخ قُريِّب في عمر آبائهم تقريبا. ولم يكن هذا معقد الدهشة الوحيد. فقد كان الطالب الغريب قُريِّب يؤدي عملا مزدوجا. كان يذكرنا به بما كنا نتلهى به إذ كنا صغارا من مقطع النشيد المعروف الذي كان يتفكه من صنعة امرئ يصفه بأنه يعمل في الصبح تلميذا وبعد العصر نجارا! وقد كان الطالب الشيخ، وليس الفتى، قُريِّب محمد راجع يعمل في وظيفة متواضعة بالجامعة، هي وظيفة خفير أو فراش تقريبا. ومع أني لم أره قط يمارس أعمال تلك الوظيفة إلا أن من المحقق أنه كان يمارسها على نحو ما في مكان ما وفي وقت ما. ولعله أعفي منها فيما بعد مع الحفاظ له بحقوقها على نحو تكريمي. أي الاحتفاظ به من ضمن قوة الجامعة العاملة ولكن على المستوى العقلي لا اليدوي العضلي. وهذه مبرَّة حضارية لا أدري من تكرم بها عليه، وإن كنت أرجح أنه سيدنا وشيخنا البروفسور كامل السيد الباقر مدير الجامعة إذاك لأنها تشبه شمائله الفاضلة. وكنتَ أكثر ما ترى الطالب الشيخ قُريِّب وهو مهموم بالدرس. ورغم أن أكثر الصور المخزونة من تلك الفترة الطيبة من أيام العمر تآكلت وتبددت وتلاشت وذوت إلا أني ما زلت أحتفظ ببقايا صورة ذهنية له وهو يحمل كراسته (المكرفسة) التي دون فيها بعض الدروس. وقد كان يكثر من تداول صحائفها ومطالعتها. وكان من مذاكرة رفاقه لمحتوياتها لأن بعض المعارف التي طفق يتلقاها في المحاضرات بالجامعة اختلفت في تجربته الجديدة عن صور المعارف التقليدية التي تلقاها في عهده السابق بحلَقِ العلم الشريف ومدارج معهد أم درمان العلمي. وأظن أن روح الأدب الكامنة في الشيخ قُريِّب أو ما يسميه الغربيون The Power of Literature هي أكثر ما كانت تدفع به لتحقيق طموحه العلمي الأسطوري وتخطي جميع الصعاب التي اكتنفت دربه. وذلك بما احتوته روح الأدب من الصور العجيبة المذهلة من صور الغِلاب الإنساني الخلاب. وهكذا لم يخذل قُريِّبٌ أحدا ممن كان يراقب مساعيه النضالية في سبيل العلم. فتخرَّج في الجامعة بدرجة شرف متفوق. وعين معيدا أي مساعدا للتدريس بكلية أصول الدين. فكانت النُّقلة أو الترقية الهائلة التي ما أتيحت لأحد قبله من بني السودان. وهي أن يترقى امرئ مرة واحدة من درجة عامل عادي إلى درجة مساعد أستاذ جامعي. وما أظن أن لمحرري سجلات (جينيس) للأرقام القياسية خبرا بهذه النُّقلة الهائلة في مجال التوظيف. ولو سمعوا بها لربما اعتمدوها أكبر نُقلة حققها موظف على وجه البسيطة الآن. وقد واصل مساعد التدريس قُريب ترقياته إلى أن نال درجة البروفسور. وخدم العلم الشريف بجدية ومصداقية وشفافية. وهذا أكثر ما كنت أرقبه فيه وأكثر ما كان يروقني فيه. فما أكثر ما التزم هذا الإنسان بقيمه العليا ولم يهادن فيها أو يداجي بها أو يداجن. وقد كان معنا وشريكنا في كل مواجهاتنا وتصدياتنا لممارسات الفساد من قبل بعض الإدارات المنحرفة التي تولت أمر الجامعة في أُخريات عهد نميري وبُعيده. وقد بقي نقاؤه الأخلاقي كما بقيت مجاهداته في تنفيذ أهداف حياته وغاياتها بالطرق الشريفة مفتاح شخصيته الأصيلة. وكان ذلك هو الخيط الذي انتظمها من مبدئها إلى ختامها. وقد حكى فيما حكى من قصص كفاحه أن أول عهده بطلب العلم كان بمدرسة بارا الأولية في سنة 1927م. ولكن حرمه انتقال أسرته من مدينة بارا إلى مسقط رأسه بقرية معافي من فرصة تلقي العلم نظاميا. وعندما عاد إلى المدينة يبدو أن مسؤولية تدبير العيش اعتلقَته وحالت بينه وبين التفرغ لطلب العلم النظامي. فالتحق بحِلَق العلم بالمسجد لمدة أربعة أعوام استوعب فيها متون الفقه وشروح الحديث الشريف وأساسيات من تفسير القرآن الحكيم. وعندما ارتحل إلى الخرطوم مرافقا لأحد المرضى من أقاربه وطال تلبثه هناك وافتقر، لم يمتهن الحل السهل باستجداء العون من البشر، فبذل نفسه من أجل العمل الشاق لكسب الرزق. واشتغل في ترميم منزل متهالك بأم درمان وعمل حارسا له. ولما آنس منه صاحب الدار - وكان ذا صلة بمصلحة الشؤون الدينية - فضلا وعلما، أشار إليه بأن يقدم طلبا لنيل وظيفة عمالية بالجامعة الإسلامية تتطلب الإلمام بالقراءة والكتابة. وقد ذكر قُريِّب أن: وظيفته بالجامعة كانت تتمثل في خدمة الطلاب الداخليين وتنظيف مقرهم وحراسته. وأفاد منهم في غضون ذلك علما مدنيا، وأفادهم بأن مدهم بخلاصات مما تلقاه من العلم الديني الشريف. وفي ذلك الوقت تعرف إليه الرجل الصالح المصلح الدكتور الدكتور محي الدين خليفة الريح وشجعه على مواصلة طلب العلم نظاميا. وشرح له أن بمُكنته أن يلتحق بحلق العلم الديني بمسجد أم درمان الكبير، ثم يجلس لامتحان الإجازة للالتحاق بمعهد أم درمان العلمي. ومن المعهد التحق بجامعة أم درمان الإسلامية العامرة. وهذا هو الطور الذي التقيناه فيه وزاملناه فيه أربعة أعوام حتى تخرجنا وتم تعييننا مساعدي تدريس في مستهل عام 1978م. وقد نال قريب بعد ذلك درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة أم درمان الإسلامية. ومارس فيها التدريس والبحث والإعانة عليه حتى أحيل إلى التقاعد في عام 1994م. بعد ضرب أٌقوى الأمثلة وأروعها وأغلاها على العصامية المثابرة والجهاد السامي في سبيل الله تعالى. تحية له وهو في دنيا الخلود حيث لم أسمع برحيله عن دنايانا الفانية إلا اليوم!
|
|
|
|
|
|