|
في ذكرى رحيل العقاد .. ردوده على المستشرقين محمد وقيع الله
|
برزت من بين اهتمامات العقاد الفكرية الكثيرة ملاحقته لإنتاج المستشرقين الذين نشطوا لتناول الشؤون الإسلامية وتحليلها في سياقات فكرية متنوعة. وقد أصاب العقاد، كما أصاب إدوارد سعيد من بعده، في اتهامهما لغالبية المستشرقين في صميم نياتهم وطبيعة البواعث التي حدت بهم لدراسة الإسلام. ولكن كان العقاد أدق من إدوارد سعيد في تشخيصه للحالات الاستشراقية وتصنيفها تبعا لنتائج ذلك التشخيص. فمن رأيه أن كتابات الغربيين التي تكاثرت عن الإسلام في العصر الحديث إنما جاءت بهذه الوفرة لرؤية القوم للإسلام منافسا للنظم الاجتماعية والسياسية السائدة. بسبب أنه دين ونظام اجتماعي في آن واحد. وقد اشتد الأستاذ العقاد في ردوده على المستشرقين لأنه رأى التواء في منطقهم فزجرهم زجرا شديدا. وفي كتابه الموسوم (ما يقال عن الإسلام) تطرق إلى تصنيف المستشرقين فقال إنهم: حين يكتبون عن الإسلام يتفاوتون في قيمة كتاباتهم، ولكن تفاوتهم على حسب البواعث والنيات أضعاف تفاوتهم على حسب الدراية والمعرفة، لأنهم طوائف مختلفة لا تتفق في الوجهة ولا في الخلق ولا في الاستعداد. فمنهم أناس يخدمون السياسة الغالبة على دولهم، ويصطنعون لغة الدعاية تارة ولغة الدهان أو [الدبلوماسية] تارة أخرى. ومن هؤلاء المتعصبون وطنيا وجنسيا: كما يتعصب الريفي الساذَج لكل شيئ في قريته على كل شيئ في قرية سواه . وهؤلاء هم الذي ما فتئوا يكررون في اتهامهم للعرب المسلمين بأنهم كانوا عالة على من سواهم من الأمم، حيث أخذوا التصوف من الفرس، والحكمة عن الهند، وفلسفة الكلام من اليونان. وبرز من المستشرقين بعض أتباع الفكر المادي ودعاة المنطقية الوضعية الذين يحاربون الأديان و(الروحانيات) لأنهم يرونها عقبة في سبيل التطور. وقد كان نصيب الإسلام عند هؤلاء الماديين الملحدين أوفر الأنصبة وأولاها بالتقديم في خطة الهدم والتشويه. لأن المسيحية لا تزاحم مذهبهم الاجتماعي بمذهب شامل لمسائل التشريع والنظم الاجتماعية والحكومية. ولكن الإسلام يقيم المجتمع على نظامه ويقرر الحقوق والواجبات بقسطاسه. ويحيط الدين والدنيا في حياة الآحاد وحياة الجماعات، ويتقبل البناء الجديد على قواعد أساسه الخالد. وقد ذكر العقاد أن من نقاد المستشرثين طائفة من المبشرين الذين ينحرفون عن الصواب ببواعث الضِّغن والتعصب. وقد كاد العقاد أن يلحق هؤلاء المبشرين الدينيين بطائفة الماديين الملحدين، حيث قال: ولا يقل عن هؤلاء الكفرة في عداوتهم للإسلام جماعة المؤمنين المحترفين، سماسرة التبشير، الذي يتخذون تشويه الإسلام صناعة يستدرون بها الرزق، ويتوسلون بها إلى جاه الرئاسة، وسمعة الرياء والتقوى بين المتعصبين والجهلاء في البلاد الأوروبية والأمريكية. فهؤلاء أصحاب مصلحة في تشويه الدين الإسلامي وتمثيل المسلمين على الصورة التي تذكي عند القوم جذوة التعصب، وتملي لهم في الجهالة والغفلة. فلا يسرهم أن تظهر الحقيقة لهم ولمن يستأجرونهم ويرسلونهم للتبشير. ولا يندر أن يكون المبشر ملحدا بالدين كله. ولكنه يعلم أنه يقطع موارد رزقه إذا كشف عن إلحاده. أو قال عن الإسلام قولة حق وإنصاف تمحو عداوة الأعداء، وتضعف غيرتهم وحماستهم للحملات التبشيرية في بلاد المسلمين. فهو كاذب متعمد منتفع بالكذب، لا يزحزحه عنه علمه بالحقيقة، ولا هو يسعى إلى علمها برضاه. وهذه هي أكثر طوائف المستشرقين التي خصها العقاد بالنكير في كتاباته الرَّدية عما يقال عن الإسلام. وقد اجتمعت ردود العقاد على المستشرقين في عدد من كتبه من أهمها (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، و (ما يقال عن الإسلام)، و (الإسلام دعوة عالمية)، و (الإسلام في القرن العشرين). ويلاحظ أنها كتب لم تتخذ الطابع الأكاديمي البحثي مثل كتاب البرروفسور إدوارد سعيد الأشهر الذي حمل عنوان (الاستشراق) فقد كان هذا كان أكثر انضباطا من الناحية الأكاديمية من كتب العقاد وكان أيضا أهدأ منه نفسا وأوسع استعراضا لتراث الاستشراق خاصة التراث الأدبي. ولكن مما يمكن أن ينتقد كتاب البروفسور سعيد عليه أنه ظل ملتزما طوال بإطاره التحليلي - منظور اليسار الجديد - الذي تعامل مع الاستشراق بعامته باعتبارها ظاهرة استعمارية رأسمالية امبريالية، ولم يعتن كثيرا بفحص الدوافع الدينية التي وجهتها. وهذا هو الجانب الذي اعتنى بتحليله وكشفه الأستاذ العقاد. وقد اعتنى إدوارد سعيد عناية وافية بتحليل مظهر استشراقي ركز عليه العقاد النقد كثيرا. وهو المظهر الذي يصطنع الغرابة عند النظر إلى التراث الإسلامي. وبحكم تخصصه في الأدب الإنجليزى والفرنسي جوَّد إدوارد سعيد البحث في هذا الجانب الغرائبي المصطنع عند المستشرقين، وجلَّاه بأمثلة شتى، وكوَّن فيه نظرية شاملة، تقول بأن بنية الادب الاستشراقي في جملتها تتكلف النظر إلى ما يتعلق بالإسلام من خلال منظار كتاب العجائب القديمة (ألف ليلة وليلة)! فقد ترجم كتاب الأسمار والمُلح التراثي العربي هذا في وقت مبكر إلى اللغات الأوروبية وقرئ على نحو شعبي واسع هناك. ورسخت صور حكايته الخيالية المثيرة عميقا في الذاكرة الغربية، واتخذت مع مر الزمن وكأنها حكايات واقعية تحكي عن الإسلام والمسلمين. وظلت صوره وأخيلته تحكم نظر المستشرقين، بما الرحالة الذين جابوا أرجاء العالم الإسلامي وعرفوه عن قرب. ولكنهم رغم ذلك لم يصوروا واقع المجتمعات الإسلامية كم رأوه. وإنما زوروه وزوقوه بما يتلاءم مع الصور العجائبية التي يحب قراؤهم الغربيون أن يعرفوا بها الإسلام والمسسلمين. ومن المؤكد أن العقاد كان هو الرائد الذي سبق سعيدا في التمهيد لهذه النظرية النقدية. وهذا ما نقوله من دون أن يكون لدينا علم أو دليل دليل على استمداد سعيد لها من لدن كتب العقاد. ولا ندري أصلا إن كان سعيد من القادرين على قراءة العقاد بلغة الضاد. لأن أكثر كتب العقاد لم ينقل إلى اللغات الأعجمية. ومما يتضح من إحالات سعيد المرجعية ومن وقوائم الكتب التي استشارها واستند إليها أنه لم يكن يستمد نماذجه وشهاداته من غير الأدبيات المكتوبة بلغات الأوروبين والأمريكيين. وفي الختام نمِدُّ القارئ الموقر بنموذج واحد يشهد على ما قلنا من سبق العقاد في تأسيس هذه النظرية النقدية في مجال الدراسات الاستشراقية. وهو الفصل الذي كتبه بعنوان (إفريقية التي لا تقبل التصديق) من كتابه (ما يقال عن الإسلام).
|
|
|
|
|
|