دعوة الهلالي للاستقلاليين سبق أن ذكرنا أنه في النصف الأول من مايو 1952 طلب أحمد نجيب الهلالي رئيس وزراء مصر من يحيى نور الخبير الاقتصادي لمصر في السودان توجيه الدعوة للسيد عبدالرحمن المهدي أو من ينوب عنه لزيارة القاهرة للتباحث حول مستقبل السودان السياسي وعلاقته بمصر. وقد حرص السيد عبدالرحمن المهدي على استطلاع رأي حكومة السودان بشأن دعوة الهلالي. ويعود ذلك إلى ما كانت تحس به الحركة الاستقلالية من قلق شديد إزاء الأنباء التي ترامت إليها والتي مؤداها أن الحكومة البريطانية كانت تضغط على حكومة السودان لقبول التاج المصري الرمزي حتى يسهل إقناع مصر بالموافقة على المقترحات الغربية بشأن الدفاع عن الشرق الأوسط. كما كانت الحركة الاستقلالية تخشى أن تستغل الحكومة البريطانية وحكومة السودان استجابة الحركة الاستقلالية لدعوة الهلالي كذريعة للتنصل عن التعهدات التي قُطعت للاستقلاليين بشأن التطور نحو الحكم الذاتي وتقرير المصير وعدم البت في مستقبل السودان دون استشارة أهله. ففي 16 مايو 1952 سأل السيد عبدالرحمن المهدي حكومة السودان عما إذا كان قبول دعوة الهلالي سيثير شكوك الحكومتين السودانية والبريطانية. وقد ورد في برقية من الحاكم العام إلى وزارة الخارجية البريطانية أن السيد عبدالرحمن قد أُجيب بالنفي. كما أُبلغ بأنه إذا استطاع أن يثبت للحكومة المصرية أنه والأغلبية العظمى من السودانيين لا يقبلون بالسيادة المصرية على السودان وأنهم يريدون بكل إخلاص استقلال السودان التام، فإن ذلك سيساعد الحكومة البريطانية على جعل الحكومة المصرية أكثر تعقلاً بشأن مسألة السودان. وعندما استقر رأي السيد عبدالرحمن المهدي على إرسال وفد إلى مصر بدلاً عنه، أخطر حكومة السودان بأن التعليمات التي سيصدرها إلى الوفد ستكون إطلاع الحكومة المصرية على وجهة النظر الاستقلالية وإبلاغها بأن الاستقلاليين لن يتمكنوا من الدخول معها في مباحثات بشأن مستقبل العلاقات المصرية-السودانية مالم يتم التالي: 1- إلغاء المرسومين اللذين أصدرتهما حكومة الوفد في أكتوبر 1951 بشأن إسناد لقب «ملك مصر والسودان» لفاروق ووضع دستور ونظام حكم خاص بالسودان. 2- قبول الحكومة المصرية بالتعاون من أجل إقرار مشروع قانون الحكم الذاتي. 3- اعتراف الحكومة المصرية بحق السودانيين في تقرير مصيرهم. أُبلغ يحيى نور الخبير الاقتصادي لمصر في السودان بهذه الشروط وضُمنت في رسالة حملها إلى مصر في 20 مايو 1952. كما أبلغ يحيى نور بأنه مالم توافق الحكومة المصرية على هذه الشروط فلن تكون هناك ثمة جدوى لسفر وفد استقلالي لمصر. رأي الحركة الاستقلالية وفي مقابلة تمت في 26 مايو 1952 بمناسبة سفر الحاكم العام إلى لندن لقضاء إجازته السنوية وقبيل سفر الوفد الاستقلالي إلى مصر، أبلغ السيد عبدالرحمن المهدي الحاكم العام بأن وجهة النظر التي سيحملها الوفد الاستقلالي إلى الحكومة المصرية تتلخص في النقاط التالية: 1- إن السودان يرغب في العيش في صداقة وعلاقات طيبة مع مصر. 2- إن للسودانيين أيضاً مصلحة في مياه النيل. 3- يرفض السودانيون السيادة المصرية على السودان في أي صورة أو شكل. 4- على الحكومة المصرية أن تقبل مشروع قانون الحكم الذاتي وألا تؤخر إعطاء رأيها فيه. 5- يرغب السودانيون في تقرير مصيرهم في أو قبل سنة 1953. 6- إذا طالبت الحكومة المصرية بإجراء استفتاء فستبلغ بأن الاستفتاء يجب أن يتم عن طريق البرلمان السوداني. وفي نفس المقابلة عبّر السيد عبدالرحمن المهدي للحاكم العام عن قلقه وانزعاجه من الاجتماع الذي عقده في 20 مايو 1952 مع هوسكنز مستشار شؤون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية والذي كان قد زار السودان خلال شهر مايو 1952. فقد قال السيد عبدالرحمن إنه بدا له من ذلك الاجتماع أن الحكومة الأمريكية لا تزال تحاول تثبيت فكرة التاج المصري على السودان. وأعرب عن أمله في ألا تكون الحكومة البريطانية مشتركة في هذه المحاولات. وكان هوسكنز قد حث السيد عبدالرحمن على قبول التاج المصري الرمزي. ولكن السيد عبدالرحمن رفض ذلك وطلب من هوسكنز محاولة إقناع الحكومة المصرية بالموافقة على الإجراءات الدستورية في السودان وبأن يترك للبرلمان السوداني البت في مطالب مصر.
الوفد الاستقلالي يتوجه إلى مصر مع إن السيد عبدالرحمن المهدي لم يتلق رأي الحكومة المصرية في الشروط التي حملها يحيى نور إلى مصر في 20 مايو 1952، إلا أن السيد عبدالرحمن رأى بالرغم من ذلك أن يتوجه الوفد الاستقلالي إلى مصر في 27 مايو 1952. وكان السيد عبدالرحمن قد تلقى مكالمة هاتفية في 23 مايو 1952 من وزير المالية المصرية محمد زكي عبدالمتعال الذي أبلغه أن الهلاي ينتظر بشغف زيارة الوفد الاستقلالي وبأنه متفائل لما ستسفر عنه الزيارة من نتائج. تكوّن الوفد الاستقلالي من عبدالله الفاضل المهدي، وعبدالرحمن علي طه، ومحمد صالح الشنقيطي، وإبراهيم أحمد، وبابو نمر، وكمال عبدالله الفاضل. وقد كُلف الوفد بإطلاع الحكومة المصرية على وجهة نظر الحركة الاستقلالية بشأن مسألة السودان ومستقبل العلاقات المصرية-السودانية والاطلاع على وجهة نظر الحكومة المصرية. ولم يكن للوفد تفويض غير ذلك. بدء المفاوضات وفي المفاوضات التي دارت مع الوفد الاستقلالي مثل الحكومة المصرية رئيس الوزراء أحمد نجيب الهلالي ووزير الخارجية عبدالخالق حسونة. وقد عقد الجانبان أربع جلسات في 31 مايو و4 و7 و9 يونيو 1952. وقد خُصصت الجلستان الأولى والثانية لعرض وجهة نظر الطرفين. أما الجلسة الثالثة فتضمنت الأسئلة التي طرحها الجانب الاستقلالي للحصول على توضيحات للمقترحات المصرية، وأما الجلسة الرابعة فقد كانت ختامية. ولم يتبادل الجانبان أي مذكرات مكتوبة بالمواضيع التي تطرق إليها البحث بل اكتفيا بالحديث الشفوي. شكر الوفد الاستقلالي الهلالي على الفرصة التي أتاحها للاستقلاليين مشيراً إلى أن الأيام كانت قد ضنت بمثلها في الماضي. نذكر هنا أن حكومات مصر الملكية كانت ترفض التعامل مع دعاة استقلال السودان باعتبار أنهم دعاة انفصال. ثم استعرض الوفد مواقف الحكومات المصرية المتعاقبة من مسألة السودان ومواقفها تجاه الحركة الاستقلالية وكيف باعدت تلك المواقف بين مصر وبين فريق كبير من السودانيين وأفسدت ما بين السودانيين أنفسهم. وقد أشار الوفد الاستقلالي بوجه خاص إلى رفض مصر في عام 1946 للوثيقة التي ائتلفت عليها الأحزاب السودانية في 3 أكتوبر 1945 وما ترتب على ذلك من شطر السودانيين إلى فريقين. وقال الوفد إنه لا يذكر ذلك على سبيل العتاب وإقرار اللوم وإنما من قبيل التاريخ. وتطرق الوفد الاستقلالي إلى المراسيم التي أصدرتها حكومة الوفد في أكتوبر 1951 والتي كما سبقت الإشارة قد أنهت العمل بمعاهدة سنة 1936 وباتفاقيتي سنة 1899 ونصت على أن مصر والسودان وطن واحد، وعلى أن يكون لقب الملك فاروق «ملك مصر والسودان»، وعلى أن يقرر نظام الحكم في السودان بقانون خاص. تساءل الإستقلاليون عن السر في إعلان هذه المراسيم والتمسك بها إذا كانت كما قيل مؤقتة ولم تأت بجديد من الناحية القانونية ثم مطالبة الدول بالاعتراف بها وإشعار بريطانيا بحل مشكلة السودان كلها إذا هي وافقت على لقب الملك. وعبّر وفد الحركة الاستقلالية عن إخلاص السودانيين لمصر وإيمانهم بأن القطرين لابد لهما أن يعيشا في حسن جوار وتفاهم. وأكد الوفد حرص السودانيين على احترام حقوق مصر القائمة في مياه النيل وحرصهم على القسمة العادلة في أي مشاريع جديدة. وأعرب الوفد عن أمله في أن تساعد مصر السودان على تحقيق الحكم الذاتي بالموافقة على مشروع قانون الحكم الذاتي الذي رفع لها بأسرع ما يمكن مع اقتراح أي تعديلات تراها، وأن تساعده كذلك على تقرير المصير عن طريق البرلمان السوداني. الهلالي يرد قال الهلالي لوفد الاستقلاليين إن مصر ليست لها مطامع استعمارية ولا تبغي سلطاناً أو سيطرة على السودان، وإن هدفها الأول هو أن تساعد السودانيين على المضي في الطريق الذي يريدونه. وقال أيضاً إن التاج الذي تتمسك به مصر لا يغير الأوضاع الحاضرة في السودان ولكنه يحمي حقوق مصر لأن مصر إذا تخلت عن التاج بعد إلغاء اتفاقيتي سنة 1899 ومعاهدة سنة 1936 فكأنما محت اسمها بنفسها من السودان وسلمته للإنجليز لينفردوا به لأنها لا تملك حتى الحق في تعيين الحاكم العام. وتساءل الهلالي لماذا وضع الاستقلاليون ثقتهم في الوعود البريطانية في الوقت الذي اكتشفت فيه مصر ومنذ زمن بعيد بأن مثل هذه الوعود ليست ذات قيمة. وانتقد الهلالي مشروع قانون الحكم الذاتي وقال إنه يجعل من الحاكم العام ملكاً غير متوج على السودان. وفيما يبدو أنه إشارة إلى الصيغة البريطانية بشأن السودان والتي قدمت إلى مصر في 3 مايو 1952، قال الهلالي إن تقرير المصير يجب أن يكون على أساس الاستقلال أو الاتحاد مع مصر وليس هناك «أي وضع آخر». وفسر الوضع الآخر بأنه يعني الانضمام إلى رابطة الشعوب البريطانية «الكومنولث». وعبّر الهلالي عن تخوفه من أن يؤدي اطمئنان الحركة الاستقلالية إلى الإدارة البريطانية إلى أن يختار الاستقلاليون عند الاستفتاء انضمام السودان إلى رابطة الشعوب البريطانية. وسبقت الإشارة إلى أن الحكومة المصرية ولنفس السبب كانت قد تحفظت في ردها في 20 مايو 1952 على الصيغة البريطانية الجديدة على عبارة «أي وضع آخر».
الوفد الاستقلالي يعقب وفي تعقيبهم على الهلالي، قال الاستقلاليون إنهم حصلوا في الوقت الحاضر من الإدارة البريطانية على خطوات معلومة محددة تتلخص في قيام الحكم الذاتي وحق تقرير المصير حالما يشاءونه. ولذلك فمن الصعوبة بمكان أن يقبلوا أي وضع جديد قد يغير أو يرجئ التطورات الدستورية، أو أن يقبلوا أي تغيير في الوضع الحاضر إلى أن يتم الحكم الذاتي وبينهم وبينه أربعة شهور. وعبّر الوفد الاستقلالي عن اعتقاده بأن إنجلترا لا يمكن أن تتراجع عن وعودها بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير لسبب واحد هو أنها فعلت ذلك فسينقلب الهدوء الحاضر إلى اضطرابات قد تؤدي إلى ما هو أخطر من الثورة. وأشار الوفد من أن ترك الأمور على حالتها الراهنة يقوي الثقة بإنجلترا ويضعفها في مصر وهذا ما لا يريده أي سوداني. وأوضح الاستقلاليون أن مشروع قانون الحكم الذاتي ليس من صنع الإنجليز وإنما من صنع السودانيين. وأما العيوب التي اعترت بعض أجزائه فتعود إلى الظروف المحلية في السودان. وأوضح الاستقلاليون كذلك أن سلطات الحاكم العام قد تم تحديدها بناء على رغبات ممثلي الجنوب وزعماء القبائل. ثم أكد الاستقلاليون للهلالي أنه طالما أن اطمئنان الحركة الاستقلالية للإدارة البريطانية قد اتجه اتجاهاً استقلالياً فلا خوف إذن من ربط السودان بالتاج البريطاني.
مقترحات الهلالي لإيجاد علاقة قانونية بين مصر والسودان تحل محل الاتفاقيتين والمعاهدة التي ألغيت. اقترح الهلالي أن يوافق الاستقلاليون على التاج الرمزي المؤقت خلال فترة الانتقال. وأكد الهلالي أن التاج الرمزي المؤقت لن يحدث أي تغيير في الأوضاع الإدارية الراهنة في السودان. ورداً على سؤال للوفد الاستقلالي عن الفائدة التي ستجنيها مصر من ذلك، قال الهلالي إن الغرض من التاج الرمزي المؤقت هو حماية حقوق مصر في السودان، لأن مصر بعد إلغاء اتفاقيتي 1899 فقدت مركزها القانوني في السودان خاصة فيما يتعلق بتعيين الحاكم العام ومخاطبة حكومة السودان في مختلف الأمور. وهنا سأله الوفد الاستقلالي: إذا كان الأمر كذلك فلم لم تكتف الحكومة المصرية بإلغاء معاهدة سنة 1936 وتبقي على اتفاقيتي 1899 لحفظ مركزها في السودان؟ فأجاب الهلالي بأنه لم يكن شخصياً موافقاً على إلغاء اتفاقيتي 1899 ولكن مصر تورطت في المسألة ولا يمكن الآن العدول عن ذلك الإلغاء. ثم أعلن الهلالي أنه إذا قبل الاستقلاليون التاج الرمزي المؤقت فإن مصر مستعدة لقبول الآتي وتنفيذه: 1- أي دستور يضعه السودانيون بأنفسهم. 2- تعليق سيادة السودان لأهله إلى أن يتم الاستفتاء على الاستقلال أو الاتحاد، وأن يكون الاستفتاء عن طريق الحكومة السودانية بعد كفالة الحريات. 3- تتنازل مصر عن التحفظات الخاصة بالجيش والتمثيل الخارجي والعملة بشرط ألا تعتبر مصر دولة أجنبية من ناحية السياسة الخارجية. فقد أبدى الهلالي موافقته على أن تبقى السياسة الخارجية في يد الحاكم العام باستثناء ما يتعلق بمصر والسودان لأنه كما قال لا مصر ولا الحركة الاستقلالية تريد أن تُعتبر مصر دولة أجنبية وذلك عندما تثار مثلاً مسائل الري. وكانت التحفظات المتعلقة بالشؤون الخارجية والدفاع والجيش والنقد قد وردت أصلاً في أحد المراسيم التي أصدرتها حكومة الوفد في أكتوبر 1951 بعد إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي 1899. 4- تحدد مصر تاريخاً للحكم الذاتي وتقرير المصير حسب مشيئة السودانيين. 5- توافق مصر على ألا يحدث أي تغيير في الأوضاع الحاضرة في السودان. وبالنسبة لهذه النقطة استوضح الاستقلاليون الهلالي قوله بأن الاعتراف بالتاج الرمزي لن يؤثر على إدارة السودان الحالية واستغربوا كيف يترك الاعتراف بالتاج الرمزي أي صفة قانونية لبقاء تلك الإدارة أو لحق بريطانيا في ترشيح الحاكم العام. ولكن الهلالي قال للاستقلاليين إنه عندما «نتفق على الدستور ونعدله حسب مشيئتكم ونحد من سلطات الحاكم العام الحاضرة ويكون الوزراء سودانيين مسؤولين فإنهم يشرفون على من تحتهم من الموظفين البريطانيين ولا حاجة إلى التغيير». 6- تصدر مصر بكل ما تقدم مرسوماً قوياً يعلن في الأمم المتحدة. وقد اشترطت مصر أن يتم صدور المرسوم وإعلان قبول التاج المصري على السودان في وقت واحد. وقد نقل الهلالي إلى الوفد الاستقلالي أن السفيرين البريطاني والأمريكي في القاهرة استيفنسن وكافري أبلغاه بأن حكومتيهما ستضمنان تأييد مثل هذا الاتفاق. 7- تتعهد مصر بأن تحول بالطرق الدستورية دون تدخل العرش لتعديل أو تغيير ما يتفق عليه الطرفان. وكان الوفد الاستقلالي قد تخوف من أن ما قد يتم الاتفاق عليه مع حكومة الهلالي ربما يكون عرضة للإلغاء من جانب الملك أو أي حكومة أخرى لأي ظرف طارئ كالحرب مثلاً أو أي ظرف آخر لا يكون في الحسبان الآن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة