|
في تذكر 18 يناير محكمة طه في 1985 : أخذت القانون بيدها للثأر بقلم عبد الله علي إبراهيم
|
ظل العلمانيون والقانونيون يصرفون محاكمة طه في 1985 كالتجسيد الحي للتحايل القانوني المدفوع بالغرض السياسي. وأدى هذا التركيز على الكفاءة القانونية للمحاكمة إلى عدم دراستها كما ينبغي كمحكمة ثأر سياسي صريح. وكانت أطراف القضية،الأستاذ محمود محمد طه والقضاة، نفسها واعية بالطبيعة السياسية لدراما المحاكمة. فسعى كل طرف منهم لحشد الموارد التي تليه لتعزيز مواقعه في أعقاب محكمة 1968. وكان الدكتور محمد زين سبق بالقول إنه ينبغي النظر إلى سياسات المحاكمة في إطار ثقافة العنف السياسي في السودان. وستُلقي الدراسة عن سياسات الشوكة من وراء المحاكمة الضوء على التنظيم الثقافي المانوي الاستعماري الذي أنتج القضائية المزدوجة بقسمها الشرعي المستضعف للقسم المدني. فالحكم التراجيدي على طه ثمرة من عنف هذه الجغرافيا الاستعمارية كما نراها تستعاد في النزاع الطويل بينه وبين القضاة وتستثمر. فدأب علماء القانون على بيان التفكير القانوني غير السوي للمحكمة بقولهم إنه ما كان ينبغي لمحكمة 1985 الأخذ بقرار محكمة الردة في 1968 بحق طه كبينة. فقالوا إنه لم تكن للمحكمة الشرعية العليا في 1968 الصلاحية للنظر في قضايا الردة حسب القانون الوضعي القائم في السودان. وعليه طعن هؤلاء الخبراء القانونيون في جواز القبول بحكم صدر من غير اختصاص كبينة بواسطة محكمة انعقدت بعد 17 عام من صدور ذلك الحكم. فبينما يركز فقهاء القانون هؤلاء، محقين، على انقطاع ما بين المحكمتين للدفع بحجتهم وجدنا القضاة وطه يصلون بين المحكمتين كل بطريقته. فالقضاة يرون محكمة 1985 كطبعة ثانية منقحة ومشروعة لمحكمة 1968 التي لم يطالوا بها طه. وكان طه من جانبه يرى أن المشيخية تتربص به ولن ينقذه منها إلا حلف سياسي ومهني يزيل حكم 1968 عليه بالردة من سجل العدالة. فإدراك المتخاصمين للصلة بين المحكمتين هو سبيلنا لفهم أفضل لسياسات الشوكة، أي تداخل القانون والقوة والثقافة، التي أدت إلى مصرع طه. تربص القضاة بطه منذ الحكم عليه بالردة في 1968. فمحكمة 1985 في نظر القضاة هي الحلقة الثانية من المسلسل. وما احتاجوا لهذه الحلقة إلا لأن القانون الوضعي الاستعماري حرم المحكمة الشرعية من سلطة تنفيذ أحكامها حتى تلك الواقعة في اختصاصها (الأحوال الشخصية) ناهيك من حكم الردة الذي لا تطاله. وفي واقع الأمر فإن طه هو الذي دأب على تذكيرهم منذ الحكم الأول بردته أن مثل ذلك الحكم كان استشباباً منهم لغير ما ما هيأتهم الدولة له. فسأل متهم جمهوري أحد المدعين خلال محاكمة في بورتسودان في 1975 قائلاً: -ما هو حكم الردة في الإسلام؟ -الإعدام إن لم يتب. -ولماذا لم تعدم المحكمة طه في 1968؟ -لم يكن للمحكمة اختصاص لإعدامه. -ومن حرمها هذا الاختصاص؟ -الاستعمار. -ما رايك في مسلم يعمل في نظام قضائي يأخذ ببعض الإسلام ويترك بعضه؟ -ربما كان مغلوباً. -لماذا لم يبحث عن وظيفة أخرى؟ -لن يكون هناك قضاء شرعي. ظل فقهاء القانون يركزون بحق، ولكن بشيء من الإسراف، على عوار منطق المحاكمة غير مكترثين بالطول غير الخافي للمواجهة بين طه والقضاة. ويردون عوار منطق القضاة إلى مخالفتهم طائفة من المواد الدستورية والإجرائية. وكلها تطعن في قبولهم حكم الردة في 1968 كبينة في 1985. فيجادل هؤلاء الفقهاء بأن المواد 70 و71 من دستور 1973 استمسكت بالقاعدة القانونية الأساسية ببطلان المحاكمة طالما لم تقع جريمة وبالأخرى التي لا يعرض فيها إنسان للمحاكمة مرتين لنفس الجريمة. ويضيفون بأن المادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية منعت من محاكمة أحد بنفس الجريمة وجد مداناً بالتهمة أم لم يوجد . ولكن كان للقضاة نظر مختلف للمسألة. فمحاكمة طه الثانية هي حصادهم المقدس لملاحقة لم تهدأ لعقدين للإتيان بمرتد وهارب من محكمتهم ليلقي جزاءه. فعدوا غياب طه عن محكمة 1968 (التي يبرهن بها فقهاء القانون أن النظر في الردة ليس من اختصاصها) إهانة للمحكمة لا تصرفاً مكفولاً بالقانون الوضعي. وأضغن القضاة احتقار طه الممعن لمحكمتهم. فطه لم يكترث ليمثل أمام المحكمة الشرعية العليا 1968 أو لأت يوقرها وهي تنظر في الحكم عليه بالردة. ولم يغفر له القضاة تحديه لهم. وذكروا له ذلك حين مكروا في 1985 وجاؤوا به إلى ساحتهم. وكان طه كثير التركيز على عجز المحكمة الشرعية لتنفيذ ما يصدر عنها من أحكام ليبرهن على استضعافها. وبدلاً عن ذلك، في قوله، مكنت القوانين الاستعمارية وقوانين السودان المستقل للقضاة المدنيين. وساء ذلك القضاة منه لأنهم ما تركوا حيلة لتغيير ذلك الوضع الاستعماري المهين بصور شرعية وغير شرعية. وللغمز من قناة القضاة لاستضعافهم بحرمانهم من تنفيذ أحكامهم سأل محامي المتهمين مدع من القضاة قائلاً: -ما الذي تفعله المحكمة الشرعية إذا رفض متهم التوقيع على طلب الحضور؟ -(وقد إنتبه للشرك الذي نصبه له الدفاع). ستعتبره قد أُخطر وتواصل القضية. -هل تسنطيع أن تفرض عليه الحضور؟ -نعم. تستطيع. -لماذا لم تفرض محكمة 1968 على طه المثول أمامها؟ -اعتبرته المحكمة تنازل عن حقه في الدفاع عن نفسه ومضت في شغلها. وقاطع طه والجمهوريون أيضاً المثول أمام محكمة 1985 بعد ظهور لوقت قصير أدانوا فيه القاضي لجبنه المهني والأخلاقي لأنه قبل بالعمل بقوانين 1983 الإسلامية الزائفة. ولم يخف المهلاوي قاضي محكمة الموضوع في 1985 حرجه من مقاطعة المتهمين لمحكمته أو "التعاون" معها في قولهم. وما سمع عبارة التعاون منهم حتى سارع بالقول: -لم نسألكم التعاون. ليس هذا شغل هذه المحكمة. لقد جيئ بكم أمامها للدفاع عن أنفسكم لوجه تهم محددة. وحول المتهمون تحديهم للمحاكمة إلى عمل من أعمال التقوى. فقال متهم للقاضي في شرح أسباب توقفه عن التعاون مع المحكمة بقوله: -إنني لست بريئاً من التهم المنسوبة لي فحسب بل أعتقد أنني أكون المسلم الحق الذي أرادني الله حين أعارض قوانين سبتمبر الإسلامية. فأزعج هذا التحدي القاضي جداً. فرد الصاع هازئاً سائلاً المتهم الذي قال بأن قوانين سبتمبر الإسلامية مخالفة للشريعة إن كانت مخالفة للشريعة أو السنة غامزاً من قناة الجمهوريين الذين يميزون بدقة في فكرتهم بين الاثنين بما ينكد على خصومهم. لم يُرض طه أياً من خصومه بمقاطعته الراتبة المثول أمام محاكم تنظر في تهم موجهة إليه. وذكر سيرته في إهانة المحاكم بإمتعاض كل من الكباشي قاضي محكمة الإستئناف ونميري. فأفرد نميري فقرة في بيانه الذي أيد فيه الحكم على طه في 1985 حمل فيها على طه لتكرر استخفافه بالحكام والقضاء. وجعل لطه "شياطين" تملي عليه إملاءً حتى أنه استغني عن المحامين الذين تطوعوا للدفاع عنه في 1985. ورأى نميري في هذه الاستهانة تعارضاً مع مزاعم طه بالدماثة. وساء القضاة كذلك استخفاف طه الطويل بمحكمتهم. ووصفه الكباشي بأنه معتاد مقاطعة محاكم. فقد سبق له في 1978 أن انسحب من قضية كان فيها المدعي. ولم يعترف في 1985 بالمحكمة ولم يتعامل معها بعد إلقائه لكلمة قصيرة قدم فيها أسبابه لعدم المثول أمامها. وتجلى غيظ القضاة من استهانة طه بمحكمتهم بوضوح في المؤتمر الصحفي الذي عقده الكباشي بعد أن أيد الإستئناف حكم محكمة الموضوع بردة طه وقتله بغير الاستتابة التي قضت بها المحكمة الأولى. فأجاب على صحفي سأله إن كانوا غيروا رأيهم بشأن استتابة طه التي جاءت في قرار محكمة الموضوع قائلاً:" لقد جرى استدعاء طه مراراً للمثول أمام محاكم انعقدت لتنظر في زندقته. فقاطع حتى المحكمة التي نظرت في ردته في 1968." أما حاج نور، قاضي محكمة الإستناف الآخر، فقال إنهم انتظروا استتابته لسبعة عشر عاما (منذ محكمة 1968) ولم يزده هذا الانتظار إلا إصراراً على نشر كفره وزندقته. أما السبب الذي لأجله حَرم الكباشي المتهم طه حق الاستتابة لو عازها فلأن طه لم يتب عن زندفته لسبعة عشر عام حسوما منذ حكم 1968. وغير خاف أنه لم يطرف للقضاة جفن ما أثاره خصومهم من خروق وصوفوها في إجراءات محاكمتهم لطه أو ما أعتورها من تناقض. فكانوا خرجوا للقبض على طه لأنه نفد من عدالتهم في المرة الأولى. مما كرهه فقهاء القانون في الحكم بردة طه أن الردة نفسها لم تكن جريمة يومها حتى في قوانين 1983 الإسلامية التي تكونت بموجبها المحاكم التي وقفت على قضية طه. وزادوا بأن محكمة الموضوع التي قام عليها المهلاوي لم تتهم طه بالردة. وحدها محكمة الإستئناف الجنائية، في قول هؤلاء الفقهاء، هي التي اتهمته بالردة وفي وقت متأخر من إجراءات الإستئناف. لن تجد تقييماً للثأرية من وراء محكمة طه في 1985 في مثل قوة ما صدر عن المحكمة العليا التي نظرت في 1986 في حيثيات القضية وحكم قضاة العدالة الناجزة فيها بطلب من أسرة طه بعد سقوط نظام نميري في أبريل 1985، أي بعد نحو شهرين من المحاكمة. فبعد قرارها أن محاكمة طه داخلها الغل والانتقام حكمت لصالح الأسرة وأعلنت بطلان قرارات محكمة الإستئناف الجنائية. وقيّمت المحكمة الشغل القانوني لقضاة محكمة الإستئناف المحلولة بواقعية لم تتفق لمحاميّ الأسرة. فقالت بأنه سيكون من الجهد الضائع الحجاج مع تلك المحكمة أو الاحتجاج على صنعتها القانونية البائسة لأنها لما تخرج سوى للإنتقام من طه. فتلك المحكمة الثأرية، في قول المحكمة العليا في 1986 ، فالتة لم يلجمها دستور أو قانون دون قرارها بشنق طه. وبدلاً عن ذلك انشغلت بمحاكمة آراء المتهم غير عابئة بالدلائل المادية التي بين أيديها. وزادت قائلة أن من سرح مع أقاصي الخيال لم يكن ليتوقع أن التهم السياسية الصريحة التي عرضت أمامها كحجة على طه مما سينتهي بالمحكمة إلى إدانته بالردة. وأنتقدت المحكمة الرئيس نميري الذي أيد الحكم على طه بما زعم أنه بحث مستقل في التهم الموجهة إلى طه. وأخذت عليه أنه تنطع في ما لم يكُلف به أو ما يحسنه بالتورط في همة قضائية وحقوقية ضارة. وظهرت الطبيعة الثأرية للقضاة في 1985 حين كشفت المحكمة العليا في 1986 الملابسات التي غير القضاة فيها تهمة طه من إثارة الكراهية ضد الحكومة إلى الردة. وكان محامو الأسرة قد أشاروا إلى أن محكمة الموضوع برئاسة المهلاوى لم تدن طه بالردة. وجاؤوا بدليل من ملف القضية فيه أمر للقاضي أن يدمغ طه بتهمة الردة. وكان المهلاوي قد أدان طه بالردة من غير تصريح بذلك بأمره بالتوبة أو مواجهة حكم بالإعدام لأن الاستتابة لم تكن عقوبة شرعية في السودان وقتها. وبدا أنه اتفق لقضاة الإستئناف إدانة طه بالردة حتى قبل أن تبدأ محكمة الموضوع النظر في القضية. وكانت شديدة النقد لمحكمة المهلاوي لأنها لم تدن طه وبقية المتهمين بالردة بصورة صريحة. ولذا تولت محكمة الإستئناف العليا إتهام طه بالردة قبل تأئيدها لقرار محكمة الموضوع. وكان من بيناتها في حكم الإدانة أرشيف 17 عاماً من محنة طه: حكم 1968 بردته، وفتاو الأزهر ورابطة العالم الإسلامي بطرده من حظيرة الدين. عيوب محكمة الإستئناف مما يفوق الحصر. ولكن لفهم هذه العيوب ربما انتفعنا من دراسة الجدل بين الشوكة والأرثوذكسية الذي قام لنحو عقدين على محنة طه. وهو جدل جعل من حكم الردة بحقه في 1968 قابلاً للتنفيذ في 1985. فلا تجد فقهاء القانون يأخذون في احتجاجهم النبيل والمهني على خطايا حكم 1985 بعين الاعتبار تنامي الإسلامية الجامعة المؤسسية التي تقوت بها الإرثوذكسية-المشيخية السودانية. فعبد الله النعيم يرى أن فتاو الأزهر ورابطة العالم الإسلامي اللتين أدانتا طه شهادتا زور تطعن في الحكم الذي استند عليهما. فمن رأيه ألا وزن للفتوى في محكمة للعدالة طالما لم يجر التحصل عليهما بالدليل بإشراف مدع يكفل للمتهمين أو دفاعهم استجواب الخبراء المزعومين من وراء الفتاوي، ويستوثق من أهليتهم للخروج بمثلها، والأسس التي انبنت عليها مزاعمهم بالخبرة. ورأينا في ما سبق كيف سعت مشيخية السودان للحصول على هذه الفتاوى في صراعهم المستميت لإدانه طه وإصماته. وبصدورهما من جهتين متأصلتين في العلم الديني ومشهورتين فالفتاوى المستحصلة منهما لم تكن في نظر القضاة أدلة قانونية فحسب بل عناوين على سلامة العقيدة. فطلبت كلتا الفتوتين من حكومة السودان تنفيذ الحكم المعلق بردة طه في 1968. وبلغ من طرب المشيخية بهذه الفتاو أنه لم تخل منهما مذكرة من مذكراتهم. فأرفقوهما مع عريضتهم في عام 1976 للحكومة التي طالبت بزج طه في السجن. علاوة على نشر الخطابين المؤيدين لإعدام طه لنميري من الجهتين في الصفحة الأولى من صحف النظام. متى ما اعتبرنا بجدل الأرثوذكسية (صحة العقيدة) والشوكة أخذت محكمة ردة طه في 1985 صورتها الحقيقية كحملة دفتردارية إنتقامية كما وصفتها المحكمة العليا في 1986. وسنهدر وقتاً ثميناً في الطعن في حكمها من زاوية فقه القانون لأنها لم تخرج لتطبق القانون بل أخذته بيدها للثأر من خصم قديم. مكتبة د.عبد الله علي ابراهيم
|
|
|
|
|
|