|
في تذكر 18 يناير: طه في وحشة طريق الآلام (1974-1982) بقلم عبد الله علي إبراهيم
|
(نستعيد في هذا المقال واقعة مذكرة تقدم بها "رجال الدين أو أئمته"، في وصف الجمهوريين لهم، إلى الرئيس نميري في 3 يناير 1974 يطلبون تنفيذ حكم الردة في الأستاذ محمود محمد طه الذي نفد بجلده من حكم عليه بالجريرة أمام المحكمة العليا الشرعية في 1968. وما أنفده أن القضاء الشرعي لم يكن يملك سلطة الإجبار للمثول أمام المحكمة ولا تنفيذ أحكامه إلا بواسطة القضاء المدني. وفوق ذلك كله لم يكن له أصلاً صلاحية النظر في قضايا الرأي مقتصراً على أحوال المسلمين الشخصية. وجاءت مذكرة رجال الدين بعد أن نفض نميري منه غبار اليسار الباكر وتصالح معهم ضمن آخرين. وفضّلت في مقالي وصف رجال الدين أو ائمته في قول الجمهوريين ب"المشيخية" لإبراز الجانب المؤسسي الحكومي لتكونهم أساساً من قضاة الشرع، أئمة المساجد، الوعاظ، شيوخ الشؤون الدينية، واساتذة المعاهد العلمية. أريد بذلك أن أميز البروقراطية الدينية من سائر المشتغلين بالدين. وسنرى حدة الصراع بين الجمهوريين والمشيخية واستنجادهما بالأطراف مما تأسس على حكم الردة في 1968. والمقال جزء من الفصل الخامس من كتابي "هذيان مانوي: تحرير القضائية الاستعمارية والصحوة الدينية، 1898-1985) الصادر عن دار بريل الهولندية في 2008) ما استعاد قضاة الشريعة أنفسهم من ركام الإساءة السياسة والأخلاقية التي ناشهم بها نميري في طوره اليساري الباكر (1969-1971) حتى استأنفوا حملاتهم بقوة للحجر على الأستاذ محمود محمد طه. فحرموا حوارييه من الخطابة من منابر مساجد الدولة حتى لا يبثوا زندقتهم. ومن ذلك أيضاً شراء مصلحة الشؤون الدينية والأوقاف ألف كتاب من تأليف الأمين داؤد، خصيم طه اللدود في محكمة الردة في 1968، لتوزيعها على المصلين في المساجد ليروا بأنفسهم فسوق الرجل مرأي العين. وكان أئمة المساجد يقرأون على المصلين نصوصاً مختارة من الكتاب. ودخل نميري على مسرح الصراع مع طه. فطلب في 1974 تقريراً عن حاضر حركة طه وحوارييه. فرد عليه مدير وزارة الشؤون الدينية والأوقاف بمذكرة تحسر فيها زماناً تعطل فيه حدود الله لتخرس لسان مرتد من الإسلام مثل طه واقترح المدير في مذكرته قيام حملة في المدن الكبيرة لتكذيب زندقة طه طمعاً في استرداد تلاميذه المضللين إلى الإسلام الحق. ولدعم مطلبه بهذه الحملة استقوت المذكرة بحكم الردة السابق بحقه، وفتاو من الأزهر (1972) ورابطة العالم الإسلامي (1975) قضت بردة طه. وكانت حملة المشيخية لا تني. وأعطتها فتاو الأزهر ورابطة العالم الإسلامي مظلة تضامن إسلامي جامع لمواصلة حرب طه. وبلغت شراسة الحملة حداً اقنعت طه أن حلف المشيخية، والصوفية التقليديين، والسلفيين (ويعني بهم جماعة الترابي)، ممن كانوا وراء حكم الردة الأول، تواثقوا على على بعث حكم الردة القديم من سباته. ولم يخب سوء ظنه. ففي 3 يناير 1976 وقع اثنان وأربعون مشيخياً على عريضة مرفوعة إلى نميري معبرين عن حرجهم أن طه المرتد بغير وازع ما زال طليقاً لم يمسه عقاب. ووصف الجمهوريون شيع الحلف من وراء العريضة بأنهم مشيخية وشيوخ صوفية. وبعث المشائخ بالعريضة إلى مختلف الدوائر الحكومية بما فيها أجهزة الأمن ونواب مجلس الشعب. وكانت بُغية أصحاب العريضة وجائزتهم هما طه. فبحسب الشريعة، في قول العريضة، فدم طه هدر ولا يشكل قتله جريمة بنظر القانون. وطالبت العريضة بحبس طه مدى الحياة لمنعه من نشر سموم زندقته إنتظاراً لليوم الذي يكون فيه الإسلام شريعة البلد. كما استعادت العريضة الطلب بتنفيذ جملة العقوبات التي طالبوا بها بحق حوارييه مثل مصادرة كتبهم، وإغلاق داخليات سكنهم الجماعي، والحجر عليهم من الوعظ بالدين أو تفسير القرآن للناس. وأرفق أصحاب العريضة مكتوبهم بمذكرة خاصة للائمة والوعاظ لتوظيف معاني العريضة في خطبهم للناس. وزادوا بتوجيههم بمنع الجمهوريين من طلوع منابر المساجد للدعوة إلى إسلامهم الزائف. وختاماً نجحت المشيخية في إقناع تسعة وتسعين من أعضاء مجلس الشعب لتقديم مسألة مستعجلة للمجلس عن الخطوات التي خطتها الحكومة لإستئصال النشاط المتزدنق للجمهوريين. أما طه من جهته فقد سعى لحشد موارده الفكرية والبشرية لمواجهة خصومه. فكثف من عمله في الدفاع عن معتقده وبيانه موظفاً حلقات أركان الشارع وبيع منشورات الجمهوريين ، ومعارض الكتب، والقوافل الثقافية لتغطية خارج الخرطوم، وترويج وقائع المحاكم الي خاض فيها مدعياً ومدعياً عليه، وهمة نشرية غير عادية. وسعى بقوة لتأليب دعم القوى الثقافية والحضرية لتضغط السلطات لرفع الحكم بردته من السجل القانوني ، وحل البروقراطية الدينية في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ومحاكم الشريعة، وإلغاء نصوصها السلطانية وقوانينها. وبالطبع سلط طه نيرانه على الوسائط المصرية والأزهر اللذين تأثيرهما غالب على السودانيين ماضياً وحاضراً. ولم يكف عن إغاظة المشيخية بالضرب على حرجها مع اختصاصها المبخوس بتذكيرهم ببطلان حكم الردة عليه عملياً. كان من أهداف الجمهوريين دائماً تفكيك إدارة محاكم الشرع والمؤسسة الحكومية الدينية. ولكنهم لم يبدأوا في الإجراءات القانونية لهذا التفكيك إلا في سياق حملات المشيخية لإضطهادهم التي توجت بالعريضة المرفوعة للرئيس نميري في يناير 1976 للحجر على الجمهوريين من الخوض في أمر الإسلام كما مر. وكان الجمهوريون حتى وقت متأخر قبيل العريضة رحبوا في 1972 بدمج القضاء الشرعي والمدني. وقبلوا بهذا الترتيب الجديد للقضائية تسمية قضاة الشرع ب"قضاة الأحوال الشخصية" لأنه يجردهم من مزاعم القوامة على الدين التي تغريهم بها صفة قضاة الشريعة. ولم يحل ذلك دون الجمهوريين ومواصلة الدعوة لإلغاء هذه المحاكم حتى باسمها الجديد. فصوروا نزاعاً لهم مع قاض في أغسطس 1975 كحرب بين المحافظة والتقدم مما لا حل له في المحاكم أو بالإجراءات الإدارية ولكن بقوة ومنطق رسالتهم الصادقة. وأضطر الجمهوريون بإزاء إضطهاد المشيخية لهم في 1975 للبحث عن خياراتهم بهدف حل محاكم الأحوال الشخصية مما عرف سابقاً بالمحاكم الشرعية. وقاموا بأجرأ خطواتهم لتلك الغاية في سبتمبر 1975. فرفعوا في ذلك التاريخ عريضة للمحكمة العليا لتزيل التناقض الصارخ بين دستور 1973 ومحاكم الشرع المختصة بأحوال المسلمين الشخصية. فمحاكم الشرع القائمة، في قول العريضة، تخرق السوية في المواطنة التي يظلها الدستور بظله. فهي تميز الرجل بحق الطلاق والزواج بأربعة كما أنها تجعل الرجل الذي يقف أمامها ضعفيّ المرأة في تقييم شهادته وفي تقسيم الميراث. وواصلوا قائلين إن مما يستوجب حل نظام محاكم الأحوال الشخصية هو مخالفتها للدستور بجعل نفسها جهة تشريعية تصدر بنفسها القوانين التي تحكم سيرها ومنطوقها مما عرف بالمنشورات الشرعية. وقالوا إنه، بجعل هذه المحاكم من نفسها جهة تشريعية، فقد خرقت مبدأ الدستور القاضي بفصل السلطات. ورفضت المحكمة العليا عريضة الجمهوريين على أساس أنهم، وهم المدعون، لا سبب لهم للشكوى لأن أياً منهم لم يتضرر شخصياً. ورتب الجمهوريون في سعيهم لكف أذى المشيخية العثور على حلفاء ضمن الصفوة العلمانية في الصحافة، والحركة النسائية، والمحامين. فقد نمى الجمهوريون خلال نضالهم الطويل ضد المشيخية هماً صادقاً بمسألة المرأة وحساسية فائقة لتحررها. وبلغوا غاية من ذلك لم تقع حتى للعلمانيين في أقاصي خيالهم السياسي آنذاك. فردوا الوصاية النازلة بالمرأة والأذى، كما جاء في عقيدتهم الأم، إلى إسلام العرب في القرن السابع الميلادي (الرسالة الأولى لا من حيث التنزيل لأن رسالة مكة سابقة، بله من حيث التطبيق في المدينة) الذي تأخر عن معاني الحرية الغراء في تنزيل مكة ورسالتها. وهي المعاني، التي متى استعيدت، رفعت الوصاية عن المرأة. وهذه الرسالة الثانية من الإسلام التي نذروا أنفسهم لها هشت لسائر حقوق المرأة مثل حق الطلاق الذي ظل عتاة العلمانيين يديرون له الوجه الآخر متى أزفت الدعوة الصارمة له. فبوسع النساء ليومهم، وحتى قبل استعادة تنزيل مكة كما رغبوا، أن يطلبن، وفي ظل الرسالة الأولى للاسلام ما يزال، تضمين عقد زواجهن حق العصمة، وهو حق الطلاق، بغير أن يفارقن الإسلام شبرا. ووقف الجمهوريون مع التعليم المختلط لأنه سانحة لتوسيع مدارك النساء والرجال معاً. ولذا وقفوا مع طلاب جامعة أم درمان الإسلامية، مصنع المشيخية، عندما أضربوا مطالبين بالتعليم المختلط. غير أن ما راع الجمهوريون أن الحركة النسائية ظلت مشغولة بالمساواة مع الرجل في حقل العمل لا في البيت. فمتى طرأ لهذه الحركة طارئ شريعة البيت عقدت الأمر لقاضي الشريعة ورهنت إصلاح قانون الأحوال الشخصية به. فمما كدر الجمهوريون ركون تلك الحركة للقضاة بدلاً من مساءلة سلطانهم في تنفيذ شريعتهم البالية. ونكّد على الجمهوريين انصراف العلمانيين عنهم وهم في محنتهم تنوشهم المشيخية بالسهام. ونعوا في تقييمهم للأذى الذي حاق بهم في مدينة كوستي عام 1974 على صفوة مدينة كوستي وسائر الصفوة خذلانهم لأنهم لم يرفعوا عقيرتهم احتجاجاً على جور عداتهم. وسبق للجمهوريين صك عبارة سائرة عن سيرة الصفوة في خذلان شعب عظيم يتقافز أماه قادة أقزام. وحمل الجمهوريون على الصحافيين لاعتزال معركتهم، التي خاضوها وحدهم بصورة كبيرة بغير ظهير، ضد المشيخية وأنصارها في مصر والسعودية. فلم يُخبِروا حتى عن القضية الدستورية التي رفعوها للمحكمة العليا لحل المؤسسة الدينية. وعابوا على المحامين كساد خيالهم جراء اعتزالهم معارك الجمهوريين القانونية في سبيل الحرية. وذكّر الجمهوريون الحركة النسائية بأن المسائل التي يناضل الجمهوريون لأجلها مما ينبغي أن يكون شاغلاً كل إمراة متعلمة، بله كل إمرأة في واقع الأمر,وبلغت خيبة أملهم في الصفوة التي تغاضت عن مطلوب الحرية من سهر وفداء أنهم لعنوها بعبارة ذائعة" إن الاعلام والأقلام عند غير أهلها اليوم." وفي عودتهم بتلك الخيبة والسقم من خير في الصفوة أشانوها لاعتزالها شعبها بقولة سائرة أيضاً : إن الشعب "لا تنقصه الاصالة وانما تنقصه المعلومات الوافية وقد تضافرت شتي الظروف لتحجبه عنها". وشف غضب الجمهوريين من الصفوة أحياناً ليسفروا عن استبطان فوق العادة لسياسات الصفوة وثقافتها. فالصفوة الحداثية عندهم تغربت عن الإسلام غربة أفقدتها العزيمة لتحدي المشيخية. وانقطاع هذه الصفوة عن الإسلام هو ما خول للمشيخية احتكار تفسير الدين حصرياً. فبينما يعترف الصفوي الحداثي منهم بجهله بالإسلام بغير وازع تجده شديد الحرج إذا تكشف جهله بمفردة من ثقافة الغرب أو رموزه الفكرية. وخلصوا إلى أن احتكار المشيخية تفسير الدين بغير شريك أو منافس هو اثر من ثنائية التعليم الاستعماري. ومتى اتفقنا مع الجمهوريين في نظراتهم الناقدة الثاقبة للصفوة وجب عليهم تعميقها ليسألوا أنفسهم إن لم يكن تحالفهم الطويل مع نميري، من كان ظلمه والإطاحة به الشاغل الأول للصفوة العلمانية، من محق بركة دعوتهم الحرى للحرية وتحرر المرأة. فقد فقدت هذه الصفوة الوسع للإصلاح المتدرج، والمزاج له، في سبيلهم ما يزال للديمقراطية من فرط ما تعودوا عليه من إسقاط نظم الديكاتوريين بنجاح. فبدت هذه الصفوة شديدة الاعتناق أن الخير كله في قدوم الواردين: الديمقراطية المستعادة. والمرء قبل هذه الاستعادة إما مع الطغمة العسكرية أو ضدها. وللاسف فإن جماعة غالبة من الصفوة العلمانية نظرت إلى طه ، لحلفه المؤكد مع نميري حتى قبيل شنقه في 1985،كواقف على الجانب الخطأ من التاريخ غير مكترثن لمشروعه الإصلاحي النادر.
مكتبة د.عبد الله علي ابراهيم
|
|
|
|
|
|