|
في الذكرى الستين لرحيل العقاد أعظم المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث نقض الشبهات حول العبقريات 3
|
(3)
إذا طلب المتنطعون المصرون على ترداد زعمهم الباطل أن العقاد همش دوافع العقيدة وغلَّب الدوافع الطبيعية في تقديره وتقويمه لسير العبقريات الإسلامية، إذا طلبوا نموذجا دلاليا إضافيا على ما أوردنا من أدلة في المقال السابق، فهذا نموذج آخر ربما كان أشمل من النموذجين السابقين وأعم في الدلالة منه. وقد ضمه الفصل الذي عقده العقاد بعنوان (على العهد) في كتابه (عثمان ذو النورين). وهو أحد آخر كتب العبقريات صدورا إذ ظهر في عام 1954م: وفيه قال: إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيما بمزية، وعلما من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟ وقد ناقش العقاد بعد ذلك دعاوى المحللين الذين يظنون بالعقيدة الدينية الظنون ويكيفونها على أنها وهم من الأوهام الكبرى التي تطوف بأذهان الجاهلين. فدحض ظنهم هذا أشد الدحض إلى أن استطرد فقال عن عبقرية سيدنا عثمان رضي الله تعاى عنه: إن العقل الرشيد لا يستطيع أن يرجع بها إلى باعث غير باعث العقيدة والإيمان. وفي فصل تال منحه الأستاذ العقاد عنوان (بين القيم والحوداث) ناقش دور العقيدة في تلطيف آثار الصراع السياسي الذي عرف بالفتنة الكبرى. وهو الصراع الذي استثمر فيه طه حسين دهاءه وخبثه الشيطاني ليقنع القارئ بفساد الصحابة وفساد العقيدة التي أنتجتهم. وليس موضوعنا الآن عن الدكتور طه حسين، ولا كان إمام الفكر العقاد يرد عليه في هذا الفصل، ولا رد عليه في أي من كتب العبقريات. وقد رأى الأستاذ العقاد في هذا المبحث أن سيرة عثمان ذي النورين هي أوفى السير بالشواهد على الخصائص التي تلازم تاريخ العقيدة في أطوارها الأولى، ولا سيما أطوار التحول فى طريق الاستقرار. وقال إن أبرز هذه الخصائص فى تاريخ العقيدة أنه تاريخ قيم ومبادىء، وليس بتاريخ وقائع وأحداث. فالصراع السياسي هو من قبيل الوقائع والأحداث في التاريخ العام. وذكر أنه لم يحدث أن قسمت عقيدة من العقائد التاريخ البشري إلى عهدين: عهد نزاع وعهد ليس فيه نزاع. ولكن ظهرت في النزاع الذي دار في عهد عثمان ما نتج عن أثر العقيدة في تكييف النزاع وتوجيه سيرورته. ولحظ أن مدار الخصومة في ذلك العهد أصبح على محاسبة الإمام. وهو كان ما بدا أمرا جديدا في تاريخ الإنسان العربي الجاهلي. ثم تساءل قائلا: أين كان أبناء الجاهلية من حق حساب الحاكم والمحكوم؟ وأجاب: ما كانوا منه على شئ! ثم أورد العقاد شواهد كثيرة أيدت جوابه استمدها من كتابه القيم عن (الديمقراطية في الإسلام.. فقال إن الحكم القبلي في الجاهلية كان قائما على الطغيان وتمام الاستبداد. ولم تكن فيه قيمة من قيم المساءلة والمحاسبة بين الرعية والحكام. ثم استنتج من تلك المقارنة أن المحاسبة بين الحاكم والمحكوم قيمة كبيرة نشأت مع العقيدة المحمدي. وأنها قيمة كبيرة على جميع حالاتها من الصدق فيها أو التذرع بها إلى غرض قد يخفيه أصحاب الذرائع والتعلات. وإنما عنَى العقاد بأصحاب التذرع والتعلَّات خصوم سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه. لأنهم استغلوا القيم الإسلامية وتذرعوا بها وما كانوا محقين. واستدرك العقاد فقال إنه ليس من شأن التذرع بالقيم السامية أن يشينها أو يدعو إلى التخلص منها بالطبع! ثم كرَّ وذكر في خواتيم كلامه أثر العقيدة في تكوين سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه. فقال:" أما الخليفة عثمان رضي الله عنه فأثر العقيدة فيه وهو فرد أوضح من أثرها فيمن قدموا إليه من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه. وهو واحد من آحاد معدودين لم يكن في وسع العقل أن يتخيلهم في جاهليتهم على حالتهم التي ارتفعوا إليها بعد الإسلام".
فهل يكفي هذا المقتبس الطويل الذي اضطررنا إلى اقتباسه على طوله لندل به دلالة قاطعة على فساد مزاعم هؤلاء الإسلاميين الضالين، الذين تكتلوا بهوى منافٍ لشيم العلم وقيمه ليشغبوا على كتب العبقريات الإسلامية؟! نعم إنه لكاف ولكن عندما تعشش الضلالات في الأذهان الطائفية فقلما يكفي دليل! ولكن حسبنا أن يكون ما أوردنا من قول داعيا للقارئ الجاد الفطن الذي نعول عليه لكي يجهد نفسه فيكشف في سياق اطلاعه على كتب العبقريات عن مزيد من أمثال هذه الدلائل. فمن يقرأ كتب العبقريات قراءة جدية لابد أنه واقف على كثير من أمثال هذه الإشارات والتنبيهات. أما من لم يقرأها أصلا وبقي يردد تلك الأقاويل، نقلا عن بعض الكتاب الإسلاميين، فهذا من لا نعول عليه. مثلما لا نعول على أي إمعة ذي فكر تبعي طائفي!
|
|
|
|
|
|