|
فى ذكرى أول مايو: التناقض بين رأس المال و العمل فى أمريكا د. محمود محمد ياسين
|
يستقبل العمال فى أرجاء العالم أول مايو 2014 بإحياء الاحتفالات التى تمجد نضالهم للتحرر من عبودية العمل المأجور. وإحتفال العمال الذى يؤرخ لنضالهم الذى أدى لتحديد يوم العمل بثمان ساعات يمثل وقفة سنوية يؤكد فيها العمال استمرار النضال من أجل بلوغ هدفهم للتحرر الكامل من سلطة راس المال؛ فالازمات الإقتصادية والإجتماعية المتعاظمة التى تخيم على عالم اليوم تكمن جذورها فى التناقض بين راس المال والعمل المأجور الذى أصبح هو السائد بشكل كامل فى كثير من المجتمعات البشرية وشبه كامل (بنسب متفاوتة) فى البلدان متوسطة الدخل والمتخلفة. وهذه الازمات تجد تعبيرها السياسى حالياً فى تفاقم الصراع بين المكونات الإجتماعية لكثير من الدول ويتم هذا فى إطار إعادة صياغة جذرية للخريطة الجيوساسية للعالم تقوم بها الدول العظمى.
وبهذه المناسبة العظيمة، نلقى الضوء هنا على حالة الصراع الاجتماعى ومآله فى أمريكا التى إرتبطت بها ذكرى أول مايو نتيجة لأحداث انتفاضة العمال الشهيرة فى مدينة شيكاغو (مايو 1886) التى ظلت مطالبتها تحديد ساعات يوم العمل تمثل معلماً بارزاً فى مسيرة نضال العمال ضد سطوة راس المال. كما يجئ المقال فى إطار الإهتمام بالتطورات التى تحدث فى أمريكا على اساس تداعياتها كأمر حتمى على كل دول العالم.
الإقتصاد الامريكى كإقتصاد راسمالى يقوم عمله على تعميم عملية إضافة قيمة زائدة الى قيمة السلعة الإستعمالية ومن ثم تحويلها إلى قيمة تبادلية. فهذا هو أصل الراسمالية. وتاريخياً لم يتيسر حدوث هذا الا بعد تحويل قوة العمل لدى الناس لسلعة يشتريها الراسمالى للاستفادة من تفردها على باقى السلع بمقدرتها عند إستهلاكها على خلق قيمة إستعمالية فى شكل منتج نهائى تفوق قيمته الأجر الذى يدفع لها؛ والقيمة الزائدة هى فائض القيمة.
وكنظام رأسمالي يسوده الانتاج السلعي، فان الحديث عن العمل فى أمريكا هو العمل الإجتماعى المجرد؛ والمقصود بالعمل المجرد هو العمل عندما يقاس بالوقت الذى يبذل لانتاج البضائع، والذى يحدد قيمتها التبادليه بغض النظر عن طبيعته الملموسة ومْن يقوم به. فنسبة للتوسع الضخم الذى أحدثته الرأسمالية على صعيد تبادل السلع أصبحت المقارنة بين السلع غير ممكنة بإلاعتماد على خصائصها الطبيعية كالوزن والحجم،الخ. فالقيم الاستعمالية لا تقدم قاسما مشتركا بين كل المنتجات سواء كانت فى شكل بضائع أم خدمات وبالتالى لا تصلح أساساً للمقارنة. لهذا فإن الشيئ المشترك بين مختلف السلع الذى يجعلها قابلة للمقارنة فيما بينها في التداول هو العمل المبذول فى إنتاجها؛ فكل السلع منتوجات العمل الإنسانى. وكما ذكرنا، خلافاً للعمل المحدد لانتاج قيمة استعمالية، فإن العمل المخصص لإنتاج البضاعة بغرض تبادلها (تحويلها لسلعة) هو العمل الإجتماعى المجرد؛ فالعامل المشترك الذى يجعل القياس والمقارنة فيما بين المكونات المختلفة للعمل الإجتماعى هو طبيعة هذا العمل المتمثلة فى إنتاج البضائع بغرض التبادل لتحقيق الربح وليس من أجل القيمة الإستعمالية.
وهكذا فان علاقة راس المال بالعمل المأجور فى أمريكا لا تفهم الا بالنظر الى أن التناقض بين راس المال والعمل المأجور (عملية إستغلال العمل المأجور) يتجسد فى فائض إلانتاج الإجتماعى الذى يخصص مْن يمتلكون وسائل الإنتاج قيمته (فائض القيمة الإجتماعية) لصالحهم بعد خصم إجمالى الاجور والمدفوعات الأخرى كالضرائب وخدمات القروض، الخ. وفائض الانتاج الإجتماعى يشمل كافة السلع المنتجة، المعدة للتسويق، سواء البضائع الملموسة (tangible) او السلع غير المادية (الخدمات).
(سيقدم كاتب المقال فى مقال منفصل تلخيصاً لمحاولة رائدة جرت لتقدير قائض القيمة فى أمريكا تضمنها كتابان هما :
-Shaikh, Anwar, Measuring the Wealth of Nations: The Political Economy of National Accounts, Cambridge, England; New York : Cambridge University Press, 1994. -Victor Kasper, Jr., Estimating gross domestic product with surplus Value, Emerald Group Publishing Limited, 2002 and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644; شهد القرن التاسع عشر تنظيم العمال الامريكيين فى نقابات، لرعاية مصالحهم، شملت قطاعات كثيرة من الأعمال. والنقابات المكونة فى هذه الفترة اتسمت بالضعف وإفتقرت للقانون الذى يوفر لها الضمانات التشريعية الخاصة بحرية العمل النقابى. لهذا (فى غياب التنظيمات النقابية القوية) تعرض العمال آنذاك لأبشع أنواع الإستغلال والإضطهاد وكانت تحركاتهم المطلبية تقابل بالقوة المفرطة. وفى هذا المناخ حدثت أحداث مايو عام 1886 المتعلقة بمطلب تخفيض ساعات العمل.
تم الإعتراف بتنظيمات العمال ككيانات مستقلة تدخل فى علاقاتها مع المخدمين بصدور قانون علاقات العمل الوطني فى 1935 (National Labor Relations Act). فبعد معاداة طويلة للعمال ومنعهم من تنظيم أنفسهم، رضخت الحكومة الأمريكية وسمحت بقيام النقابات. وما تحقق للعمال يعتبر إنجاز تراكمي لنضالهم الدؤوب، ولكن أيضاً لا يمكن إغفال أن الحكومة كانت لها حسابات تتعلق بإنعاش الإقتصاد خلال أزمة الإقتصاد الكبير (great depression) فى ثلاثينيات القرن الماضى. كان الغرض من ترخيص الحكومة بقيام النقابات العمالية وحقها فى المساومة الجماعية (collective bargaining) لرفع أجورها هو خدمة السياسات الإقتصادية الكينزية التى تعتبر أن الإنعاش الإقتصادى يتحقق بتعظيم الإستهلاك (زيادة الطلب)؛ فكلما زادت الأجور توسع الإستهلاك. وهكذا رأت الحكومة أن اى تنازل يقدمه أصحاب العمل للعمال فيما يخص أجورهم يعود بالفائدة على أعمالهم فى المدى البعيد. كما أن تنازل الحكومة للعمال لم يكن يخلو من رغبتها فى مواجهة رياح ثورة اكتوبر الروسية التى أخذت تهب في صفوف عمال الدول الغربية أنذاك.
and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;
توصل مايكل زويق (Michael Zweig)، أستاذ بجامعة ولاية نيويورك، فى دراسة إحصائية دقيقة له شملت تحليلاً لكل المهن بأمريكا الى أن الذين يعيشون على الأجر يمثلون أغلبية الشعب الأمريكى؛ فعلى حسب الدراسة فإن نسبة هولاء بلغت فى عام 2010 نسبة 62% من مجموع السكان ؛ فى حين شكلت الطبقة الوسطى 30%. ويعلق زويق على نتائج دراسته بقوله أن” غالبية الأمريكيين ينتمون للطبقة العاملة. فهم عمال مهرة وغير مهرة فى مجال التصنيع والخدمات؛ رجال ونساء من مختلف الأجناس والقوميات والديانات يمارسوم نشاطات مختلفة كقيادة الشاحنات وأعمال تتعلق بصيانة وخدمات الكمبيوتر وتشغيل الماكينات والعمل فى أنظمة التجميع والمطاعم ومجال الخدمات البريدية والوقوف اليوم كله كصرافين فى البنوك وآلاف الأعمال فى مختلف قطاعات الإقتصاد.“ دراسة زويق مضمنة فى كتابه:Michael Zweig, Working Class Majority,2012
ونضيف الى ما ذكره الاستاذ الجامعى أن هذه الأغلبية العمالية كقوى مجردة من وسائل الإنتاج ومنظمة فى علاقات محددة لإنتاج البضائع وتقديم الخدمات بغرض تبادلها فى السوق لتحقيق الربح يجرى طمس حقيقتها من قبل الطبقة الحاكمة بشتى وسائل تزييف احصائيات العمل وتوسيع مفهوم الطبقة الوسطى ليشمل العمال. and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;
خلال الفترة من الأربعينات وحتى الثمنينات من القرن العشرين، احرزت الطبقة العاملة الأمريكية مكتسبات كثيرة أدت لتحسين المستوى المعيشى لأفرادها، شملت تحسين الأجور والضمان الإجتماعى وضمان المساومة الجماعية وإقرار الحد الأدنى للأجور وإدخال تشريعات السلامة والصحة المهنية وتطبيق نظام الضريبة التصاعدية. ولكن بحلول الثمانينات بدا العمال يفقدون الكثير من مكتسباتهم ناهيك من إحراز مكتسبات جديدة. وحدث هذا نتيجة الكساد الاقتصادي الذى ضرب البلاد فى منتصف السبعينات.
تزامن التراجع فى الوضع الإقتصادى للعمال مع صعود " الليبرالية الجديدة" فى أمريكا كبديل للرفاهية الكينزية (Keynesian welfarism) بتقليص مكون الدخل القومى المخصص لإستحقاقات العاملين (entitlements) فى مجال الضمان الإجتماعى، وكذلك تم تجميد الأجور وإنتهاج سياسة الخصخصة وتقليل الضرائب على الشركات الكبرى.
وتزايدت الصعوبات التي تواجه العمال على اثر الازمة المالية التي عصفت بأمريكا في عام 2008 حيث انخفضت الأجور الحقيقية للعمال إضافة لفقدانهم للأمن الوظيفى فى ظل التسريح الجماعى، وصارت العائلات العاملة تعمل ساعات أكثر.
تحررت الليبرالية الجديدة من كل اشكال الحراك المطلبى للعمال بهدم وحدتهم معتمدة فى ذلك على قطاع كبير من القيادات النقابية المرتهنة لمشيئة الراسمالية. والانتهازية وسط تلك القيادات ظاهرة إجتماعية طبيعية تستمد توطدها ونفوذها من النظام الامبريالى الامريكى الذى مكنته الارباح الإحتكارية الفاحشة من إغداق جزء منها على النقابات التى إدخرتها لإفساد العمل النقابى وفصل قياداته عن جماهير العمال ومصالحهم الحيوية التى تتعرض للإنتقاص من قبل الراسمالية، وهى فى أحط مراحلها (الامبريالية)، بصورة لم يحدث مثلها من قبل. وفى العقود الثلاث الاخيرة ظلت النقابات الرئيسية تكبح الحركة المطلبية للعمال وتنصاع لشروط الشركات الكبرى فيما يخص تجميد الأجور وتخفيضات الميزات الإضافية والتواطؤ مع السلطات فى إغلاق المصانع وتشريد العمال كما حدث للمراكز الصناعية بمدينة ديترويت عند إفلاسها. وفقدان العمال للثقة فى القيادات النقابية ادى فى السنوات الأخيرة إلى تزايد عدد العمال الذين فضلوا عدم الانضمام للنقابات (وهو حق يكفله لهم القانون) حيث بلغ عدد عضوية العمال المنضمين الى النقابات (Unionized labour) 12% من إجمالى القوة العاملة بينما بلغت النسبة 6.9% فقط بالنسبة للقطاع الخاص. وخير مثال لإستيئاس العمال من قيادات النقابات هو تصويت عمال شركة السيارات فولكس فاجن فى فبراير 2014 ضد ان يكون لهم تمثيل نقابى فى مصنع تنوى الشركة الكبرى إقامته بولاية تينيسى الامريكية.
بجانب تدليلها وتحييدها للقيادات النقابية ظلت الطبقة الحاكمة تعمل على تفكيك وحدة العمال بشتى اساليب الحيل والمناورات. ومن هذه الحيل "قانون حق العمل" الذى صادقت عليه معظم الولايات الأمريكية. وهو بعكس ما يوحى اسمه قانون الهدف الرئيس منه إضعاف النقابات بإعطاء اصحاب الأعمال الحق فى إبرام عقود التخديم مع العمال بدون تدخل النقابات وبالتالى تمكنهم من فرض شروط تكون مجحفة بحق العمال المستميتين فى الحصول على عمل فيما يتعلق بالاجور والميزات الإضافية والحقوق الاخرى المتعلقة بالضمان الصحى والأمن الصحى والاجازات، الخ. وآخر محاولات تهديد وحدة العمال هو القانون الذى أصدرته حكومة ولاية ويسكنسون فى 2011 الذى يهدف على وضع قيود على مبدأ المساومة الجماعية بشأن حقوق العمال(بحجة مواجهة العجز فى موازنة الولاية). كما أن ترويج الطبقة الحاكمة (الحزب الديمقراطى) لسياسات الهوية (Identity Politics) وسط الامريكيين ادى لحرف أنظارهم عن العدو المشترك المتمثل فى الاوليغاركية المالية المسيطرة؛ فسياسات الهوية التى تستقطب الامرييكين وتقسمهم لفرق مختلفة على أساس العرق أو الإثنية أو الدين أو النوع او الجنس أضرت كثيراً بوحدة العاملين وأعاقت رفع وعيهم السياسى. and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644;and#9644; إن دراسة الواقع وعملية تغييره فى أى مكان تنطلق من حقائق الواقع الملموسة، ومن هنا تجيء أهمية الإعتراف بسيادة العمل المأجور فى الإقتصاد الأمريكى الراسمالى. فسيادة العمل المأجور فى أمريكا حقيقة ماثلة للعيان رغم محاولات طمسها. وجنوح البعض لعدم التمعن العميق فى معطيات الواقع والإدعاء بأن العمال أصبحوا جزءًا من الطبقة الوسطى بعد إختفاء صورة العامل التقليدى فيه كثير من السذاجة التى جعلتهم لا يستطيعون القيام بالتفسيرالعلمي لطبيعة الصراع الاجتماعى فى أمريكا؛ وهؤلاء يخطئون في إعتبار أن التغيير فى المجتمع الامريكى يحدد مآله صراع بين اثرياء وفقراء، متجاهلين حقيقة الواقع الذى اصبح فيه قسم من المواطنين لا يمتلكون غير قوة عملهم التى تمثل مبادلتها بالأجر عن طريق عقودات العمل هى مصدر رزقهم الوحيد، بينما ظلت ملكية وسائل الإنتاج والسلع المنتجة فى يد القسم الآخر من المجتمع. يقول مايكل زويق فى دراسته المار ذكرها ان العمال هم أصحاب عمل مأجور سيان " ان حمل جزء منهم صناديق الطعام lunchboxes أو حقائب اليد briefcases". إن مستقبل النظام الاجتماعى–الاقتصادى السائد فى أمريكا يتوقف على تطور الصراع بين راس المال والعمل الماجور. وتُستمد أهمية الطبقة العاملة فى هذا الصراع من أنها لا يمكن ان تحرر نفسها الا بالقضاء على نظام الإنتاج الراسمالى؛ ولهذا فأهميتها ليس فقط لأنها أغلبية بل فى كونها صاحبة عمل مأجور لاتملك شيئا من وسائل الإنتاج وهو ما يؤدى الى غلبة مبدأ بيع قوة العمل وبالتالى الإستغلال المبنى على إستخلاص فائض القيمة. ولاتوجد راسمالية بدون العمل المأجور.
وهكذا فإن سقف مناهضة أصحاب العمل المأجور لرأس المال هو إزالة النظام الرأسمالى. وهذا ما عبر عنه صمويل قومبر (Samuel Gompers 1924-1850)، احد رواد العمل النقابى فى أمريكا ومؤسس الاتحاد الفيدرالي الامريكي للعمل (AFL)، الذى سئل ذات مرة " ماذا يريد العمال؟" فأجاب "المزيد" "more". فعبارة قومبر، التى ظل العمال يتناقلونها جيلاً بعد جيل، وإن كانت صادرة بشكل عفوى، الا أنها تعبر عن أن المكاسب التى يجنيها العمال نتيجة نضالهم على صعيد تحقيق الاصلاحات فى وضعهم المعيشى وحقوقهم الديمقراطية لا تحد من توسيع نشاطهم لإنجاز مهمتهم التاريخية.
|
|
|
|
|
|