"فتح العقل المسلم" كتاب جدير بأن يجد العرض في كل وسائل إعلام مختلِف الدول المسلمة، على وجه الخصوص. ولكن أنى لها وسط هذا الاستقطاب المذهبي، والأيديولوجي، والإثني، انتخاب مثل هذه الكتب لقراءة عقل مؤلفيها الذين يبذلون جهدا تنويرا مخلصا، وباهرا في عقلانيته المحاججة. والأجدر أكثر هو أن يقرأه كل مسلم، وغير المسلم، بعين بصيرة حتى يتعرف على أصل أزمة المسلمين المعاصرة، وكذا هي أزمة الذين يتساكنون معهم داخل القطر. والحقيقة أن كثيرا من الباحثين يربطون مشكلة البلدان الإسلامية بكونها أزمة المسلم فحسب، برغم أن لديها مكونا كبيرا من الأقليات حق عليها دفع ثمن الفشل أيضا. وربما تبدأ مشكلة البلدان المسلمة ابتداءً من التجاهل الإعلامي لمثل هذه الخلاصات التي يتوصل إليها هذا الكتاب الجديد. فحسب الموصلات الإعلامية أن تُلهي المتلقين بالمواد الانصرافية التي تنمي صيرورة الاستبداد، أو تأليه الملوك، على حساب ضرورة اتخاذ مسارات إصلاحية لتراث الدولة القطرية المجذر لفشل التساكن القومي. وكذلك هو التراث الفاسد الذي يقلص وتيرة التنمية، ويعمق الارتهان للقوى الإقليمية والدولية للاسترضاء على حساب الاعتراف بالمكون القطري وصيانته. وكذلك يوطن اللا تسامح، ويعزز الاعتماد على القهر وسيلة لفرض الخطابين الجيني والسياسي، عوضا عن الاعتماد الماكنيزمات الديموقراطية. وهناك جملة من تمظهرات الفشل تتبدى على كل المستويات المجتمعية أوردها المؤلف. والأنكى من ذلك هو أن نسيج الوحدة الوطنية الموروث في الدولة المسلمة بأغلبيتها يجابه كل يوم التآكل والاضمحلال ما قد يؤدي إلى بروز أصوات شعوبية ومناطقية تضرب في مستقبل وحدة هذه الأقطار. ولعلها تخثرت قوميا مع مستهل ثورة الاتصال المواكبة للعولمة، وتورطت في نفق من الاضطراب بات لا مثيل له في تاريخها. وربما من هذه الزاوية تفهم استماتة السلطات الإسلامية في معظم البلدان إلى الدفاع عن مراكزها المهددة الآن بحروب طرفية ومدعومة بخطابات جديدة تمارس القطيعة السياسية والمعرفية مع التراث الاستبدادي لدولة ما بعد الاستقلال. ولعل المؤلف السوداني أمين عمر سيد أحمد ساهم، عبر منهج استقرائي، في نقد أصول الفقه التقليدي، متناولا جذور الفشل التاريخي للأقطار المسلمة وأبعادها الذاتية، والموضوعية، المتعلقة بالإسلام، والمسلمين، وغير المسلمين. وقد عكف الأستاذ أمين على الاستفادة من مختلف مناهج التحليل، وطرائق البحث. مثلما ساعدته ثقافته العالية، وتمكنه من خطاب موضوعي يسهل السجال معه بكثير من التقدير لما بذل من جمالية في عرض المشكلة، ووضع الحلول العملية لها. وما يميز كتاب "فتح العقل المسلم" هو أنه صيغ بلغة هادئة، ولكنها غنية بالتثبت المنطقي، والمحاججة المدعمة بالمعلومات. ولم يكن الجهد الذي احتوته قرابة الثلاثمائة صفحة هو مجرد إنشاء نظري يغوص بغير هدى في جذور المشكلة الإسلامية وإنما هو قمة التنوير شكلا وموضوعا. فضلا عن ذلك فإن الكتاب الذي حوى ستة فصول، ويضم كل واحدٍ منها مواضيعَ تتأرجح بين التاريخي والراهني في محاولة لسبر غور الأزمة وتقديم بدائل تفيد المستقبل المسلم. قدم للكتاب الأستاذ الحاج وراق، بوصف أنه كاتب معروف بمساهماته النظرية المميزة في حقل العمل السياسي، والفكري، والإعلامي. وقد أضاف وراق للكتاب رأيا سديدا مهد للوصول إلى كنه الخلاصات التحليلية التي توصل إليها الكتاب، إذ يقول "..ولأن العقل الأصولي عقل شمولي اختزالي مغلق فانه عقل إقصائي بامتياز، فإسلامه هو الإسلام الوحيد الصحيح صحة مطلقة، وجبت إقامته وحمل الآخرين عليه حتى بإخراسهم وجز رؤوسهم، ولهذا فإن من أهم سمات الأ صولية عدم قبول التعددية الدينية والفكرية والثقافية، وإن قبلتها فإما أن تقبلها كتكتيك إلى أن تتمكن وتتفرعن، وفي حال سيادة الأصولية فان المجتمع المعني يجرد من أهم شروط ومحركات التقدم، أي تجريده من حق النقد والإبداع والتجريب وحقه في حرية التعبير عن لمشاريع العلمية والفكرية والثقافية والسيا سية المختلفة، وبالتالي إخصاء المجتمع من القدرة على الخصب والنماء وحبسه في أقفاص الاحتكار المولدة للركود والتعفن.." قدم المؤلف في أولى صفحات الكتاب تعريفا لعنوانه المثير بقوله "لا نقصد بالعقل المسلم في سياق كتابنا هذا، بداهة، الإشارة للخصائص الفيزيائية للمخ البشري للمسلم، أو مستوى ذكائه، أو قدرته الطبيعية على الوعي بما حوله؛ أي تلك الخصائص العامة التي يمتاز بها البشر كبشر. فتعريفنا للعقل المسلم، يشمل إضافة للقدرات العقلية المتفق عليها بين البشر على اختلافهم، يشمل تلك المفاهيم والرؤى ومناهج التفكير وطرق الحكم على الظواهر، وجميع الأنشطة الذهنية التي تحدد وتحكم رؤية الإنسان.." ويقول المؤلف إن"..إعادة تشكيل المجتمع العربي والإسلامي ليتحول إلى رافد إيجابي ومؤثر في الحضارة الإنسانية رهين بإعادة تشكيل العقل، والذي نقصد به تلك المفاهيم والأنشطة الذهنية التي تحدد وتحكم رؤية الإنسان المسلم للعامل المحيط، وطريقة تعامله معه". ويضيف المؤلف بقوله إنه "لن تنجح حملات التغيير السياسي نحو الديموقراطية وغرس بذور الحداثة بدون أن يصحب ذلك حركة تنوير ديني مؤثرة وواسعة النطاق ومتغلغلة في مفاصل المجتمع كافة. ويشير المؤلف كذلك إلى أنه "لن تنجح حركة التنوير المنشودة بدون وجود بديل فكري له مقدرة على الإقناع والتأثير، ليحل محل المنظومة الفكرية القائمة اليوم. بديل يستند على ذات المصادر المؤسسة للمنظومة الحالية ويستهدف تصحيح الفهم الخاص بعلاقة الدين بقضايا الحياة." وهكذا يضع المؤلف هذا العقل بكل تجلياته في معمل التفكيك والتفسير لمنتجاته التي أدت إلى تراجع حركة البلدان المسلمة نحو التقدم، وخروجها من ساحات التنافس على مستوى إنتاج القيم الجمالية المحسوسة على الأرض، بل وخروجها عن التاريخ الذي كانت لها عبره مساهمات قيمة في فترة باكرة من التاريخ. ذلك برغم الظروف الاستبدادية التي فيها ازدهرت مساهمة مفكرين مسلمين في الحضارة الحالية، أمثال ابن رشد، وابن خلدون، وابن النفيس، وجابر بن حيان، والخوارزمي، وابن ماجة، والمسعودي، وابن التلميذ، والكندي والقائمة تطول. وهنا ربما يثور الجدل حول الخلفية التي ساهم بها أولئك، أهي الخلفية الفردية العقلانية أم الدينية؟. وربما يتعدل السؤال حول الخلفيات التي مكنت الحائزين على جوائز نوبل، أهي خلفيات إثنية أم وطنية أم علمية محضة؟ ويصوب المؤلف نحو هدفه الأساسي منذ البدء وهو تحديد الأسباب المعينة التي أدت إلى كسل العقل المسلم، وإخفاقه في تحقيق الموائمة بين الالتزام بالموروث الإسلامي وبين الاستفادة من العلوم الإنسانية لحل القضايا التاريخية للأمم المسلمة، وغير المسلمة إن أمكن. ويقول إن العقل المسلم يعاني من "وجود ميل مفرط لتبسيط الأشياء، والبحث عن حلول سطحية للقضايا التي تواجه المجتمع المسلم رغم تعقيداتها؛ والإصرار على إضفاء طابع ديني على كل جانب من جوانب النشاط الإنساني، بما فيه ذلك العلم التجريبي، حتى لو أدى ذلك لابتذال الاستشهاد بالنصوص لإثبات ذلك." كذلك يستطرد بأن هذا العقل مقنع بـ"سيطرة نظرية المؤامرة كأداة لتحليل وتفسير ما يتم أمامنا من أحداث اجتماعية وسياسية، أو إسناد أدوار غير حقيقية أو مبالغ فيها للعامل الخارجي وذلك كانعكاس موضوعي لضحالة الفكر و ضمور الخيال وكسل الذهن.." فضلا عن ذلك يشير المؤلف إلى أن العقل المسلم يعاني من "غياب المعيارية والقياسية والعناصر المرجعية في الوصول للاستنتاجات والحكم على الظواهر والأحداث. يرجع هذا بدون شك لغياب التفكري العقلاني المنطقي ابتداءً، حيث يستحيل، بداهة، الو صول لنتائج أو قرارات صحيحة في غياب مثل تلك الموازين.." وكذلك يفتقد هذا العقل "النظرة القدرية للعامل ولأفعال الطبيعة والبشر، والاستسلام لحقيقة أن كل ما يحدث أمامنا مقرر سلفا وبالتالي لا جدوى من إجهاد الذهن.." وكذلك يكشف المؤلف عن مجسدات هذا الفشل العقلاني والواقع استنادا إلى لجوء المسلمين إلى "مسرح الخرافة والاستسلام للخزعبلات كنتيجة طبيعية للعجز عن التفاعل الخلاق والعطاء الإيجابي في ساحات الحضارة الإنسانية." ويضيف أن الأزمة التي أنتجها العقل المسلم أدت إلى "التواضع الشديد في مؤشرات الآداء الكمي والنوعي التي تعكس إنجازات المجتمع المسلم في مختلف المجالات، منها: الصحة، التعليم، دخل الفرد، الرياضة، العلم، الثقافة، الفن، الأدب قياساً بالمجتمعات الأخرى."، وكذلك أدت الأزمة إلى "سيطرة الإحساس بقلة الحيلة وانعدام القدرة على اتخاذ المبادرة. يعرب هذا العجز عن نفسه سياسيا بسهولة استسلام المسلمين لأنظمة القهر، والتعلق المفرط بالأبطال والقادة.." حوى الباب الأول مواضيع تتعلق بمظاهر وتجليات أزمة العقل وموقع المجتمع المسلم من المستوى الراهن للتطور الإنساني، وبدائية وجمود العقل المسلمة، ومن أهم المواضيع التي حواها الباب الثاني الذي كان بعنوان "صحة ومرجعية الحديث النبوي مصر للأحكام، علم الحديث والخلاف المذهبي وآثاره على التدوين ومنع الرسول (ص) تدوين أحاديثه. وحوى الباب الثالث بعنوان الإجماع منهج بشري الباب الثالث: الأدلة من القرآن والسنة وبطلان مرجعية الإجماع، وحوى الباب الرابع القياس منهج بشري الأدلة من القرآن والسنة والأدلة العقلية. وحوي الباب الخامس الشريعة: جدل الوقتية والخلود، ومن المواضيع عدم الاتساق المنطقي للأحكام، والناسخ والمنسوخ، وتقبل الممارسة الفقهية لوقتية الشريعة، وفقه عمر بن الخطاب. أما الباب السادس فكان بعنوان:"دعوة لتأسيس فقه جديد يقوم على القيم والمقاصد". والحقيقة أن هذه الابواب لا تكتفي بمناقشة هذه المواضيع وأنما تتفرع منها مواضيع أخرى لها علاقة.." إن هذه المساهمة الفكرية الرصينة للباحث السوداني أمين عمر سيد أحمد تمثل إضافة مميزة للمحاولات السودانية، خصوصا، للخروج من عباءة التلقي لمساهمات المركزية الفقهية العربية، وعموما تعبر أيضا عن نسق من التفكير العقلاني الإسلامي المعاصر والمناوئ للأنساق السلفية التي ظلت تسيطر على مشهد الاجتهاد لقرون طويلة. والأهم من كل هذا أن المؤلف بخلفيته الاستنارية ومن موقع إيمانه بضرورة تحقيق شروط التقدم الإنساني على خلفية النضال من أجل الديموقراطية قد بنى في التراث الشحيح للتقدميين السودانيين الذين حاولوا ربط تحقيق هذه الشروط بمعالجة الأزمات الفقهية التي دخل فيها العقل المسلم، وما يزال يتأرجح بين الانجذاب إلى السلفية ومعايشة قيم العصر في ذات الوقت. ذلك دون أن يحس بالسلام النفسي تجاه هذه الازدواجية التي تمور في داخلها اصطدامات القيم وتضادها. ويصل الباحث أمين إلى القول إن كل المساعي المبذولة من الحراكات السياسية ستذروها الرياح إن لم يصحبها تنوير ديني يؤسس لفترة جديدة يتخلى فيها العقل المسلم عن مثالبه الكثيرة التي ورطته في واقع متعولم. وهو واقع يهدم البناءات المعرفية كلها وليس فقط المعتقدات الدينية. بل هو واقع يخترق مسلمات الدولة القطرية المسلمة كل لحظة ليؤسس مجتمعا إنسانيا تتوحد فيه قيم التعارف وتتلاشى عنده العصبيات الدينية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة