الموت هو قَدَر الإنسان وشرطه الأرضي، تلك هي سنة الله في خلقه، لكن تبقى ذكرى الإنسان بعد موته بقدر ما قدَّم وأسهم به في مسيرة الحياة والأحياء .. بعض الناس يتحدون فكرة الغياب ويمتزج موتهم بالبقاء أو فيه كثيرٌ من البقاء .. يستسلمون للمشيئة الحتمية ويلبُّون نداءَ الرحيل الأخير، لكنهم يتركون أثراً لا يزول وسيرةً عصيةً على النسيان يزداد بها سطوع حضورهم في أقصى الغياب.
رحلت الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم عن هذه الدنيا، لكنها قالت كلمتها بوضوحٍ شديدٍ قبل أن تُحمَل على أعواد المنايا وتستبدل بظهر الأرض بطناً .. قالت كلمتها عبر مسيرٍ طويلٍ حافلٍ بالجسارة ومترعٍ بالنضارة ومحتشدٍ بالكدح النبيل والعطاء الجزيل في ساحات العمل السياسي والنضال الوطني .. مضت إلى جوار ربها ومضت إلى ذاكرة الوطن حكاية امرأةٍ شامخة كتبت بسيرتها بعضاً من صفحات تاريخه وفصولاً من قصة حلمٍ بحياةٍ كريمة.
صَعْبٌ على المرء أن يفي بحقِّ قامةٍ سامقة كما الراحلة العزيزة التي سارت خلف نعشها جموعٌ غفيرة، بقلوبٍ حزينة، حتى مثواها الأخير في مقابر البكري بأمدرمان .. ومع ذلك فإنَّ أوجز ما يمكن أن يُقال أنها خلَّفتْ وراءها سيرةً تنضح عطاءً غير مجذوذ، وتختزل من أبهى ما قدَّم فردٌ لخدمة وطنه وشعبه .. كانت صادقةً مع نفسها ومع شعبها ومع الحياة، جسَّدت بسيرتها ما آمنت به، وسخَّرت كلَّ ما تملك من طاقة لتحقيق ما ترجوه لوطنها وشعبها حتى غدت أيقونةً في تاريخنا الحديث.
لقد اختارت فاطمة، بطوع إرادتها، طريقاً من يمشي عليه كمن يمشي على الجمر .. انخرطت في صفوف النضال الوطني منذ بواكير الصبا، وظلت تطوي عقود السنين واهبةً حياتها بلا مساومةٍ ولا منٍّ ولا أَذى في سبيل ما تؤمن به وما تحلم به لوطنها شعبها .. أدركت ما لها وما عليها، لكنها تحمَّلت ما عليها أولاً، ترمُّلاً وحرماناً وسجناً وتشريداً، وظلت راكزةً وصامدةً في أحلك الظروف وأصعبها، يوم اهتزت الأرض تحت أقدام رفاقها قادة الحزب الشيوعي بعد إجهاض حركة يوليو 71 في تلك الايام المُعَفَّرة برائحة البارود والمصبوغة بلون الدَّم .. لكنَّ أولئك القادة، ومن بينهم زوجها الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، أجبروا أرجلهم على الثبات في مستنقع الموت وأظهروا شجاعةً تصل حدَّ الأسطورة وهم يُساقون إلى المشانق وساحات الإعدام، مردِّدين هتافهم الأثير "عاش نضال الشعب السوداني".
صحيح أنَّ الثمن الباهظ الذي دفعته الفقيدة خلال مسيرة عطائها في ميادين العمل العام كان مرتبطاً بانتسابها للحزب الشيوعي السوداني، لكنَّ عطاءها لم يكن صادراً عن عصبيةٍ حزبية أو تحجّرٍ عقائدي، بل كان موصولاً بالجذور العميقة لشعبها وبالمياه الجوفية المشتركة بين مكوناته .. كانت سودانيةً في مخبرها ومظهرها، خرجت من رَحِم هذا الواقع ومن صميم هذا الطين .. ولذلك لم يكن غريباً هذا الإجماع الوطني على ريادتها وجسارتها وتقدير عطائها .. ولم يكن غريباً، حين نعاها الناعي، أن ينتشر الحزن في أرض الوطن ويغطي بجناحيه السماء.
لقد قُدِّر لفاطمة أن تعاصر كلَّ عهود الحكم الوطني في بلادنا .. شهدت لحظة ميلاد الاستقلال وحملت الهمَّ والهاجس، وعايشت الأحلام الموؤودة .. عايشت فاطمة وجيلها كل النظم التي تعاقبت على الحكم، منذ الاستقلال، سواء كانت نظماً ديموقراطية لم يسمح لها أن تبلغ سن الرشد أو نظماً شمولية جثمت على الصدور لسنواتٍ طوال .. لقد حلم ذلك الجيل والأجيال اللاحقة بتأسيس دولة مستنيرة تشكل بوتقةً ذكية لانصهار التنوع ورشد إدارته استناداً على قواعد المواطنة والعدالة والمساواة والحريّة وكرامة الانسان .. دولة تحمي أهلها من الحروب والانتهاكات والفقر والمرض وكلِّ غوائل الدهر، وتوفِّر لهم حياة حرةً كريمة وتوجه البوصلة صوب المستقبل والتنمية والبناء وانجاز النهضة .. لكن للأسف جاءت رياح الواقع بما لا تشتهي سفن الأحلام، فقد تعاقبت أجيال السودانيين وحكاية وطنهم تراوح بين مأساةٍ مضحكة وملهاةٍ مبكية، وظلَّ مسيرهم دائرياً والخطى لا تُفضي إلى أبواب، وكأنَّما قدَّموه من تضحياتٍ في سبيل الحرية والحياة الكريمة يماثل ما فعله القدِّيس مونت كريستو حين بذل جهداً كبيراً لإحداث ثُقْبٍ في جدار زنزانته كي يتسلَّل منه ويهرب، لكنه وجد نفسه في زنزانةٍ مجاورةٍ أضيق مساحةً وأشدُّ رطوبة .. بقيت كل الأسئلة الكبرى دون مخاطبة جادة وواعية إلى يومنا هذا، وكأنَّ نظاماً معرفياً يشبه نظام الموجات المتعاقبة التي تتكسر على الشاطئ ولا تمكثْ هو ما ظلَّ سائداً طوال عهود الحكم الوطني، حتى انتهينا إلى أكثر العهود فشلاً وبؤساً، هو نظام الانقاذ الذي ساس بلادنا على مدى ثمانٍ وعشرين عاماً كل عامٍ منها يجرُّ معه ذيلاً مبلولاً بالدمع وبالدم.
لقد انسربت خواتيم سنوات عمر الفقيدة بعيداً عن الوطن الذي أحبَّتْ، وها هي تعود إليه جسداً مسجىً في تابوت لتُدفن تحت ثراه، قريباً من ضلوع السابقين من أسلافها .. عادت لتجد وطناً مثلوماً بسيف الاستبداد، أنهكته سياسات خرقاء أبْهَظَتْ كواهل أهله بحمولات الشقاء والعناء وأوصلته إلى شفا جرفٍ هار .. أُلْحِدَتْ فاطمة في مقابر البكري قبل أن يتحقق حلمها بإيواء الأطفال المُشرَّدين الذين طالما سال دمعها سخيناً وهي تستذكر افتراشهم الأرض ومبيتهم على الطَّوَى .. وقبل أن ترى هذه الأقدام التي تسعى في الشوارع والساحات وهي تضرب الأرض غضباً حتى يتفصَّد عرق الأرض وتقاوم هذا اليباب.
يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في رثاء صديقه الكاتب وحيد النَّقَّاش: "لماذا شربتَ الشَّرابَ نقياً، وماذا رأيتْ؟ .. ولماذا رجعنا جميعاً، وأوْغَلْتَ أنتْ؟"، ولعلَّ حجازي بتساؤله هذا يشير إلى أنَّ هناك من يعتريهم التعب أو يدْهَمهم الخوف أو يصيبهم اليأس فيعودون من أول الطريق أو منتصفه، وهناك من يواصلون المسير حتى يصلوا للهدف النبيل أو يَرِدوا حياض الموت .. يستطيع المُنصِف أن يشهد لفاطمة أنَّ مسيرها كان على طريقٍ صَعْبٍ جميل، لم تزحزحها عنه المفاوز الوعرة والمنحنيات الخطرة، حتى وافتها المنية.
لكِ الرحمة والمغفرة، وسلامٌ عليكِ يا فاطمة ..
"لا يحتويكِ الغيابُ ولا يحتويكِ الرحيلْ تحتويكِ البلادُ التي أوغلتْ في العويلْ"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة