نستدرك من عوالم صاحب الربابة، أنه كان صوفياً طليقاً، يتمثل دين الحرية، الذي لم يتنزل إلى أرض الناس لشقائهم، وإنما هو تذكرة وطريق رُجعى.. كان الشيخ إسماعيل على زمان الفونج، يتمثل الحرية في قمتها.. يتبدى ذلك من مشهده العاطفي، إذ لم يكتفي بعشق امرأة واحدة، بل أشعَرَ بالعامية السودانية في كثير من النساء، خارج محيطه الأُسري والقبلي، فقال ما قال في «تهجة»، وقال ما قال في «هبية»، وفي أخريات.. فالشيخ لم يمنعه انغماسه العقدي عن حداقة اللذّة، فهو ابن عصره والشاهد عليه.. والنص الفقهي الذي بين أيدينا الآن لم يكن سائداً في حياة الناس آنذاك، إنّما كان مُقدساً في العقول.. بل كان النص الديني إجمالاً، قائماً في عقول النخبة دون الغالبية العظمى من أطراف المجتمع الهجين.. كان المجتمع بما فيه الأشياخ، يعيشون ظرف الانتقال الوئيد، من مناخات القبلنة والمحلية إلى فضاء السلطنة / الدولة.. الشاهد أن نصوص الشيخ إسماعيل في التطريب عبر الربابة والنساء والخمر، تُلغِي تماماً اعتقاد البعض بأن سلطنة الفونج قد احتكمت لنصوص الشريعة..هذا وهم عريض يفضح غرور النخبة المُعاصِرة التي تروِّج لمثل هذا الادعاء من أجل السيطرة على الحاضر. إن عدم تطبيق الفونج للشريعة، لا يُعد منقصة، بقدر ما يعتبر رصيداً لحيوية الدولة الناشئة التي عبّرت في حيّزها الجغرافي والتاريخي ذاك، عن حاجة مجتمعها، فراودته في طريق الحياة وفق معطيات العصر والواقع المُعاش.. ولقد كان الشيخ إسماعيل في خمرياته بوقاً لعصره ، فنجده واقفاً عند بوابة الوجد، شاهراً سيفه، مزاوجاً بين الدُّواس والعشق.. يقول صاحب الربابة :ـ «نَسِل السيف نلوح فوق أم قبالة... نكرب الزوم مكان أسمع مقاله... وجهاً مقطّع فوق السندالة... تخلات عروسك ديك بطالة».... في هذا النص نلاحظ غرابة لغة الأسلاف، ونستنشق لفحةً من أنفاس زمانهم ورواسب بيئتهم الهجين، ونرى بوضوح تلك العلاقة القائمة دوماً عند البدايات، بين الحرب والحب..! بهذه اللغة ــ لغة الإصرار والرغبات العارمة ــ يدق صاحب الربابة بوابة العشق بحد السيف، فيبدو الطرق إعلاناً للمنازلة.. المنازلة مع من؟!.. إنّها منازلة مع الآخر ــ الرجل ــ هذا صحيح.. لكنّها في جوهر المعنى بمثابة حشد ضد كوابح وُضِعت أمام انطلاقة الشجن.. بمعنى آخر إننا حين نقرأ الصراع التاريخي بين طرفي النخبة في عهد الفونج، الصراع بين أهل الظاهر وأهل الباطن، نجد أن صاحب الربابة، قد كان ممثلاً لأهل الوجد، ولساناً لحال الغلبة الصوفية..و حتى حين نفكك النص، اعتماداً على ظاهر القول، نجد أن الشيخ يؤكد إصراره على الحرابة، من أجل أنثى ذهبية البريق، أو كما قال: «وجهاً مقطّع فوق السندالة»، كناية عن الجمال.. نجد أن الشيخ لا يُساوم في ميدان العشق.. بل «يكرُب الزّوم»، ويلوِّح بالسيف كمن يَهُز في حفل عرس في مزج بديع بين الفروسية والهيام، وهو حال يليق بأميرٍ بَطرَ بالجاه، وبالولاية.. هذا البوح، وهذا الاندياح لم يكن مستهجناً في مجتمع السلطنة على عهد الشاعر، إذ ظلّت الكوابح الشرعية / الفقهية، مخبوءة بين دفوف الكتب الشحيحة، تلك الكتب التي تتداولها صفوة تعاني التهميش.. أكثر من ذلك، أن هذه الصفوة ــ على التحقيق ــ لم تكن تتداول تلك المصنفات برحابة، إنّما كانت تتلقى محتوياتها عبر مشايخ الخلاوى.. كان صاحب الربابة طليقاً، لأنه كان ابن عصره، وهو عصر حاد السِّنان، لهذا فهو يُعلن استعداده لمطاردة تلك المرأة حيث ذهبت..! ونتوقف هنا بالضرورة عند «السُّندالة» الواردة في النص الشعري، فهي إشارة تاريخية، تؤسس للاطلاع على أنماط التصنيع في ذلك العهد.. السُّندالة هي آلة صياغة الذهب، وتصنيع الحديد الذي كان راكزاً في فقه المرحلة التاريخية.. نتوقف عن الاستطراد في معاني الإشارة لنستقدم السؤال: أين هي نصوص الشريعة آنذاك.. لماذا لم يوقف الفقهاء صاحب الربابة عند حدّه، «إن كان له حد»؟!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة