تميَّز العام الحالي بتعاقب تواريخ عيدين دينيين لأول مرة منذ أكثر من 30 سنة. أحدهما عيد ميلاد "الإله" يسوع (ابن الرب في العقيدة المسيحية) والذي يحتفل به العالم الغربي في 25 ديسمبر من كل عام خلافاً للتاريخ المعتمد عند الكنائس الأورثودوكسية (7 يناير). وتزامن يوم 23 ديسمبر 2015 مع ذكرى المولد النبوي في 12 ربيع الأول من العام الهجري الجاري، وقد سبقه الاحتفال بالمولد في 3 يناير من نفس العام الميلادي 2015. وبعيداً عن تصادف التواريخ في هذا العام فهناك قواسم مشتركة بين العيدين:1- الدافع في فكرة الاحتفال بالعيدين التعبير عن محبة النبي عيسى عليه السلام (المعبود في المسيحية كإله) والتعبير عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم عند المسلمين.2- عدم وجود أصل للاحتفال بالميلاد (الكريسماس) أو المولد النبوي لا في الكتب السماوية أو حتى هدي حواريي المسيح وصحابة النبي والقرون الثلاثة الأولى للإسلام. وبالتالي ظهرت فكرة تلك الاحتفالات في عصور متأخرة عن ازمنة الأنبياء المعنيين وصحابتهم. 3- الجذور الوثنية: تشير المصادر التاريخية إلى أن مبدأ الاحتفال الديني بولادة الآلهة أو الشخصيات المقدسة، هو في الأصل فكرة قديمة تكررت في الديانات الوثنية قبل آلاف السنين من بعثة النبيين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقد ارتبطت تلك الاحتفالات بأوقات تغيرالفصول والزراعة والحصاد في الغالب. فالاحتفال الشتوي بالكريسماس وتاريخه مقتبس من ذكرى ميلاد الإله أتيس في الديانة الوثنية الرومانية، و مولد الإله اليوناني ديونيسس، ومولد الإله المصري أوزيريس، ومولد اله الإله الفارسي ميثرا. ومع اختلاف التواريخ تتكرر فكرة موالد الآلهة في الديانات الأخرى؛ فهناك مولد الإله الهندوسي راما، ومولد الأله كريشنا، ومولد الإله هانومان، ومولد الإله بوذا وغيرها. بل إن شجرة الكريسماس وشخصية بابا نويل كلها رموز مقتبسة من الوثنيات الأوروبية القديمة.4- عدم دقة التواريخ: وهذه المشكلة أكبر في عيد الكريسماس الذي يتزامن مع فصل الشتاء كل عام، علماً بأن نصوص الأناجيل تشير إلى مولد المسيح في فصل الصيف،كما يشير القرآن إلى أن مريم عليها السلام قد ولدت عيسى عليه السلام في موسم الرُطَب وهو الصيف.وأما تاريخ الاحتفال بالمولد عند المسلمين فهو 12 ربيع الأول وهذا التاريخ على الأرجح هو تاريخ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حسب قول الجمهور. وأما تاريخ مولد النبي ففيه خلاف وأقوال متفاوتة بين تواريخ 8 و 10 و12 من شهرربيع الأول، عدا الأقوال حول شهور أخرى. وبالتالي فربما يكون المحتفلون بتاريخ 12 ربيع الأول يبتهجون في التاريخ الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يشعرون.5- وقع في الديانتين الإنكار على هذه الاحتفالات باعتبارها طقوساً وعبادات مبتدعة. فوفقاً للموسوعة البريطانية فإنه حتى عام 245 للميلاد كان الاحتفال بميلاد المسيح يعتبر خطيئة ومنكراً، مع الإشارة لارتباطها بأصول وثنية. وأما عند المسلمين فقد وقع اعتراض من بعض العلماء على استحداث أعياد دينية والتقرب بها دون سند من الكتاب أو السنة أو هدي الصحابة والتابعين الذين لا مجال للمزايدة عليهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أبرز ما كتب حول إنكار الاحتفال بالمولد ما كتبه العالم المالكي تاج الدين الفاكهاني (1256-1334) في كتابه "المورد في الكلام عن عمل المولد". وأما من أجاز الاحتفال بالمولد من العلماء فقد أجازه من باب أنه مصلحة مرسلة للاستفادة من التاريخ لتذكير الناس بنبيهم وسيرته على غرار ذكرى غزوة بدر والذكرى المئوية لفتح مكة، ولم يجيزوه على أساس أنه عيد مشروع كعيد الفطر أو الأضحى وتُقام له العطلات الرسمية. كما إن أولئك المجيزين لم يجيزوا ما يقع في الموالد من منكرات عقائدية وأخلاقية.تاريخ المولدتاريخياً كان الشيعة العبيديون (الفاطميون) هم أول من أدخل الاحتفال بالمولد النبوي عام 363هـ (ديسمبر عام 973م) وذلك في مصر، إلى جانب أعياد مولد علي بن أبي طالب ومولد الحسن والحسين ومولد فاطمة الزهراء (رضي الله عنهم)، بل وحتى عيد الميلاد المسيحي، وهو امر له دلالته فيما يخص الاقتباس. وقد بالغ الشيعة "الفاطميون" في مظاهر الاحتفال بالمولد من خلال الصرف الكبير على الزينات والموائد والحلويات ومن بينها "عروسة المولد" التي كانت تصنع من السكر المذاب. ولكن الاحتفال بالمولد النبوي والموالد الأخرى قد تم إيقافه عندما عاد السُنة إلى الحكم من خلال الدولة الأيوبية التي حرصت على إزالة آثار التشيّع من مصر والعالم الإسلامي. وأما أول احتفال بالمولد النبوي بين أهل السُنة فيرجح أنه كان على يد الملك المظفّر أبي سعيد كوكبري صاحب إربيل ، وهو من حكام الأيوبيين وذلك عام 1228م (625 هـ). واستمر الاحتفال بالمولد في مصر خلال عهد المماليك الذي انتهي عام 923 هـ (يناير 1517م). وقد ذكر ابن إياس أن العثمانيين الذين حكموا مصر بعد المماليك لم يهتموا بالاحتفال بالمولد باعتباره إرثاً دخيلاً ولكنهم عادوا واهتموا به بعد ذلك. وعندما توقفت احتفالات المولد بمصر أثناء الحملة الفرنسية وضيق النفقة بادر"نابليون بونابرت" بدعم الاحتفال بالمال تقرباً للشعب، في حين يرى المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي في كتاب (عجائب الآثار) سبباً آخر للدعم الفرنسي للمولد، إذ يقول: " ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات". إن كل من عاش أجواء الاحتفال بالمولد لا يستطيع أن يقاوم مشاعر الحنين الجارف لتلك المناسبة لارتباطها بطفولته .. والملابس الجديدة والفرح والزينات واجتماع الأسر والعائلات والحلويات، ولذلك فليس من السهل أن يتعامل المرء مع الأمر بموضوعية. وقد يقول قائل غاضب "أنا لا يعنيني أن يكون المولد اختراقاً شيعياً أو حتى الجذور الوثنية لطقوس الميلاد، كل ما يعنيني أنها فكرة مبتكرة للتعبير عن محبة النبي. إنها الطريقة التي تريحني وكل إنسان حر فيما يريحه يا أخي!"وهنا يبرز سؤال .. هل يستطيع أحد من المسلمين اليوم أن يزايد على صحابة النبي وحبهم له؟ هل جرب المسلمون كافة الوسائل المشروعة للتعبير عن محبة النبي واستكملوها كلها ثم جاءوا ليقدموا الأزيد من خلال شعائر المولد؟ وإذا كانت الإجابة لا .. فإن المولد عند البعض (شأنه شأن عيد الأم) وسيلة مريحة لكي يقنع المرء نفسه بأنه قد قام بكل ما عليه تجاه محبة رسول الله خلال يوم واحد لينام بقية السنة دون أن يكلف نفسه أداء العبادات والصيام والصلوات على النبي .. أي أنه يريد حباً بارداً بلا تكاليف شرعية أو تضحيات، حتى ولو اقترنت تلك الموالد بالمنكرات. فليست العبرة أن تحب الله وتعبده كما تريد أنت، بل العبرة أن تعبده هو كما يريد هو منك، وإلا انتفى معنى الخضوع والانقياد.ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن صيام يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم وُلِدْتُ فيه ويوم بعثت – أو أُنْزِلَ عليّ - فيه". وفي هذا الحديث دلالة على صيام يوم الاثنين من كل أسبوع، فهو اليوم الذي ولد فيه النبي، وفيه تُرفَع الأعمال، ولكن الكثيرين للأسف أهملوا العمل بهذا الحديث فتركوا صيام يوم الاثنين أسبوعياً من أجل مولد سنوي بلا صيام. والأعجب أن هناك من استخدم هذا الحديث ليقفز به قفزة هائلة وبعيدة في الاستنتاج ليستنبط منه احتفالاً سنوياً بالمولد. إن المتتبع لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن الاحتفال بالنبي يكون باتباعه فيما أمر والإكثار من الصلاة عليه، بالإضافة إلى الاحتفال الأسبوعي بصيام يوم الاثنين. ولكن تلك الآليات الاحتفالية المشروعة بالنصوص لا تجد الاهتمام الكافي قياساً بالمولد الشيعي مع ما فيه من منكرات وأموال ومصاريف كان الأولى أن تُصرَف في وجوه الخير.ولذلك يقول الشيخ محمد متولى الشعراوى- رحمه الله- رغم كونه من المجيزين : "ما أكثر ما احتفل المسلمون بهذه الموالد، وما أقَلْ ما انتفع المسلمون بها ، ولو أن كُل ميلاد لرسول الله يُستقبل بإحياء شعيرة من شعائر دينه ، لَثَبَتَ دينُه فى الآفاق، ولكن يبدو أننا نكتفى من الحفاوة بالمناسبة بما يتفق أيضاً مع شهوات نفوسنا وخلاص شهية عام ، ولذيذ حلوى ، وجمال سهرة ، ودين الله بعيد عن كل هذه الحفاوات". أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة