|
عن الخطاب السياسي: أفهموها إنها "مؤسسة"!
|
عن الخطاب السياسي: أفهموها إنها "مؤسّسة"! بلّة البكري ( mailto:([email protected]([email protected] (1) تتكوّن الأمة السودانية من شعوب وقبائل شتى تختلف في العادات والتقاليد بل ولبعضها لغته الخاصة. ومعلوم أنه تمّ عبر الأزمان قبول اللغة العربية ومحمولاتها الثقافية كلغة تخاطب (lingua franca) للجميع بل ولغة رسمية للدولة السودانية بكل أعراقها. يهدف هذا المقال الى التنبيه لضرورة ضبط الخطاب السياسي خاصة عندما يستخدم هذا الخطاب مصطلحات لها محمول قبلي أو جهوي حقيقي أو مفترض. فالدقة مطلوبة حتى لا نسهم بخطابنا سهوا أو عمدا في اشعال نار النعرات القبلية المدمرة بدلا من إطفائها في وقت نحن أحوج فيه للتواصل البناء. وسأتناول في هذا المقال الاشارة لكلمة "جلّابة" كمفردة فرضت نفسها في الساحة السياسية بغرض المساهمة في فهمها في سياقها كمصطلح وتجريدها من أي محمولات سالبة. وأرجو أن يسهم قولي هنا في إلقاء الضوء على مواضع الخلل في الخطاب السياسي من أي معسكر جاء، بغرض تقويم هذا الخطاب وتسهيل عملية التواصل بين الكل. وما أحوجنا لناجع التواصل كأمّة في هذا الظرف الحرج . خاصة وهناك ما ارتبط بالكلمة من ظواهر مثل ما عرف ب "مؤسسة الجلابة" والتي أضحت فيما نرى واقعا معاشا خارج محيط أي قبيلة. فهذه "المؤسسة" الآن ظاهرة اقتصادية ماثلة للعيان تتخطى الكلمة وتعبر بها الى وحدة مترابطة تؤثر على الوضع الاقتصادي وتتحكم بالتالي في مجرى الحدث السياسي في السودان. يهمنا هذا الأمر جميعا اذا أردنا معالجة تداعيات هذا الأثر بصورة قاطعة وجذرية على اقتصاد بلادنا وسياساتها. فالأقتصاد هو فعلا "مربط الفرس" بيد أنه يتأثر بالسياسي بل ويمكن خنقه وتفطيسه من خلال القبضة السياسية المدعومة من هذه "المؤسسة". وعليه لابد من المواجهة الصريحة وتسمية الظواهر بمسمياتها الصحيحة دون حساسيات. فليس أضرّ من التنميط المخل وسوء الفهم مما يقود الى اخفاء الحقائق لانها تأتي مغلّفة بغير قليل من عويش المسكوت عنه في مجتمعنا. وما أكثره. (2) هناك من يرى أن الكلمة "جلابة" قد نزعت من سياقها التاريخي وأن عدم الدقة والتعميم الذي يشوب استخدامها كمصطلح يقود الى ردود أفعال مضادة خاصة عندما تشمل الاشارة مجموعات سكانية واسعة وكبيرة تحت مظلة الصفات السالبة الملتصقة بالمفهوم. هذا الحديث لا يخلو من منطق غير أنه يتناسى أن الكلمة عند الكثيرين تستخدم كمصطلح فقط، رغم عدم الدقة، وتعني شريحة مجتمعية محدودة استأثرت بالثروة والسلطة. ) فليس كل أهل الشمال جلابة ولايوجد عرق إسمه الجلابة.) (حسن بركية: الجلابة – الماضي يحاكم الحاضر، سودانايل ابريل 2010). كما أن وصف الظاهرة ب (التضامن النيلي) أو (الصفوة) أو (النخبة النيلية) فهو غير دقيق ايضا وفيه محاولة لاشراك أهل هذه الديار في حلف صفوي مزعوم لا يشملهم. لأن مثل هذا الوصف يشير لتحالف بين أهل النيل والوسط عموما بغرض احتكار امتيازات طبقية في الحكم والسلطة والثروة لتهميش الآخرين عمدا. وهذا عمليا غير ممكن. خاصة وهؤلاء أنفسهم مهمشون مهملون أيضا كغالب أهل الريف؛ يموتون بالمئات في شوارع لا تصلح لسفر المركبات الحديثة. ولا تفي بالمعايير الهندسية المطلوبة للطرق السفرية السريعة (Express Ways) ولا حتى بالحد الأدني من قواعد سلامة الطريق. هذا غير آلاف أخر تفتك بهم الأمراض المعدية والسرطانات والأدوية المغشوشة. ولذا نتفق مع الرأي القائل أن أهل الشمال النيلي لاينضوون تحت ما يوصف ب(التضامن النيلي) أو أي تضامن من شاكلة أفعال المؤسسة المعنية. وإن أعدادا كبيرة بل اغلب كيانات الشمال النيلي بريئة من سلوك هذه المؤسسة التمكيني التفرقي الإقصائي (ويقفون مع بقية أفراد الشعب السوداني صفا واحدا في توقهم للعدالة والديمقراطية وضد العنصرية الجديدة التي لم يعرفها السودان قبلا وضد (التمكين) القائم على الولاء القبلي. بل ويقفون منافحين عن حق جميع السودانيين في المساواة في الحقوق والواجبات وعدم احتكار فئة للحكم والثروة والسلطان مهما كانت ناهيك عن فئة تحتكر المناصب لغير المؤهلين من منسوبيها وتتخلص من كل منافس لهم بغض النظر عن مؤهلاته.) (د. صديق أمبده: التضامن النيلي أم التضامن العنصري – سودانايل ابريل 2012) . علامات الوقف والفواصل والاقواس حول كلمة "تمكين" من عندي. (3) أمر آخر يجب تذكره هو أنه لا توجد قبيلة سودانية اسمها "الجلّابة" سوى فرعٌ من قبيلة الهوّارة في شمال كردفان يحمل هذا الاسم ولا نعتقد أن تعبير "جلّابة" الشائع يشير اليه ولو من بعيد. ففي هذه الحقيقة، على كثرة القبائل السودانية، مصادفة حميدة لعلها تساعد في نزع المحمول الجهوي السالب ولو على مستوى الحُجّة لهذه الكلمة والتي أضحت حاضرة في خطابنا السياسي، رضينا أم أبينا. نعم، هناك امتعاضٌ من البعض من سماع كلمة "جلاّبة" بل وصف من استخدموها أوصافا جهوية عنصرية المقصد أحيانا. فكيف نتصالح مع هذا التعبير ونفهمه في سياقه التاريخي وفي تحوراته ك"مصطلح" اجتماعي/اقتصادي/ سياسي نتعامل معه دون شحنة سالبة من أي نوع؟ خاصة وقد أضحى الأمر واقعا معاشا لا فكاك منه حتى لمن يودون دفن رؤوسهم في الرمال. فقد تحدث وكتب عن هذا الواقع كثيرون من جادة مثقفينا. من هؤلاء من نشأ وتربى في "حي الجلّابة" والذي سنشير اليه لاحقا دون اسهاب، من باب توضيح الفكرة والخلفية التاريخية فقط. ولا نرى أي غضاضة أو حساسية في استخدام المصطلح في مستواه السياسي لكونه أنسب للمعنى من كل ما عداه من كلمات كما سنبيّن أدناه. فلنبدأ بأصل الكلمة. الكلمة "جلّابة في الأصل مشتقة من الفعل "جَلَب" وتعني أحضر شيئا للبيع في السوق. ويقال بالعامية: فلان "جالب إبل أو ضأن" بمعني يعرضها للبيع في السوق واذا لم تباع يذهب بها الى سوق آخر. ففعل التجوال للبيع بالسلعة المعينة هو "الجلب" ومن يقومون به هم "الجلّابة" كاسم فاعل. نعم هناك ايضا أناسٌ بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ارتبط بهم هذا الاسم كمجموعة كما سنرى. تاريخيا اشارت الكلمة "جلاّبة" في أزمان سابقة لشريحة مجتمعية معينة من قبائل شتى غلبت عليها قبائل الشمال النيلي والوسط بكل أعراقها العربية والعجمية. تعمل هذه الشريحة في التجارة و"جلب" البضائع للأسواق المحلية في الأرياف البعيدة. وتحظى لذلك بميزات اقتصادية جعلتها في عداد الطبقة الوسطى. والأخيرة تشمل بصفة عامة الناظر والمدّرس والحكيم والمساعد البيطري وربما العمدة والقاضي وكتبة المحكمة والسوق ومن جالسهم من أفندية. هؤلاء جميعا، مع بعض الاستثناء، يسكنون في الغالب في "حي الجلّابة". فقد كان هذا الحي موجودا بصورة أو أخرى في بعض المدن خاصة في الجنوب والغرب (كردفان/دارفور الكبرى) حتى و لو لم يحمل هذا الاسم تحديدا. ولوقت ظل التعامل مع الكلمة محايدا بصورة عامة يشير الى مجموعة المستعربين المسلمين "العروسلاميين" في مقابل سكان الأريارف والذين ربما انعدم عند بعضهم أحد مكونات "العروسلامية" أو كلاهما. هذا وهناك اتهام فيه كثير من التعميم أن العنصر التجاري منهم يستغلون البسطاء من المزارعين والرعاة في الأرياف دون أن يكونوا منتجين حقيقيين ودون أن يكون لهم ولاء للمنطقة التي أقاموا فيها. وكيف أن هذا "الاستغلال" يعتمد في الأساس على جهل أهل الدار بمصادر بضائع الجلابي "الحريف" مما يمكّنه من تحقيق أرباح طائلة احيانا (profiteering) في ازمان انعدمت فيها رقابة الدولة لضعفها أو جهلها بدورها أو حتى تسهيلها للجلّابي مهمته بعلم أو بغيره. فكيف تحوّل هؤلاء القوم الذين لا ينتمون لقبيلة واحدة الى "مؤسسة" أو "دولة" داخل الدولة السودانية؟ وهل هذا التحول حقيقي وواقع ماثل مؤثر أم هو وهمٌ متخيل تلوكه بعض الأقلام المعارضة لشئ في نفسهم أو في نفس يعقوبهم أيّا كان هذا اليعقوب؟ هذا سؤال هام؛ لا يمكن الهروب من مجابهته. وعليه فيجب أن نبحث في تحورات الكلمة فعلا وليس قولا. وقد أضحت الآن "مؤسسة" قابضة تعيق النمو في بلد بحجم وامكانات السودان بل وتهدد بقاءه موحدا. هذا ويرى البعض أن كلمة "طفيلي" أو "انتهازي" ربما هي أنسب في وصف هذه المنظومة من البشر الذين لا ينتمون الى قبيلة بعينها ولكن كلا الكلمتين لا يوفي بالغرض لانعدام البعد التاريخي الهام لماهية الكلمة الأصل عبر الأزمان وغياب الاطار الثقافي الذي تخلّق فيه التعبير وتحوراته لاحقا. ولذا فالكلمة "جلّابة" ابلغ من كل ما عداها وأدق وأسهل للتخاطب والفهم خاصة ما ارتبط منها بالتجارة والأقتصاد الطفيلي في عمومه. ومن محاسن الصدف أن الكلمة لا تشير الى قبيلة بعينها كما أشرنا اعلاه. والمؤسسة التي نحن بصددها محصورة في أقلية (نعم أقليّة) من قبائل شتى مقارنة بكل أهل السودان. ولذا فكل من تعلّق بالاسم ظنا منه أنه المقصود كلما جاء ذكر الكلمة "جلّابة" فكأنما يريد حشر نفسه في زمرة أقليّة الطفيليين الانتهازيين التفرقيين أصحاب الحظوة الحقيقيين دون أن يدري خاصة اذا كان منهم براء. (4) أما كيف ظهرت هذه "المؤسسة" وكيف تطورت وما هي العوامل التاريخية والاجتماعية والأقتصادية التي شكلت هذا الظهور؛ وما هي تداعيات وجودها على المستوى السياسي والأجتماعي في بلدنا، فالأجابة الشاملة على هذا السؤال تملأ مجلدات. وبدءا لابد من الغوص في تاريخنا قديمه وحديثه من اتفاقية البقط الى السلطنة الزرقاء والتركية السابقة ومؤسسة الرق وتجارته مرورا بفترة المهدية والاستعمار الأنجليزي المصري. ثم نأتي لما قبل منتصف القرن العشرين وكيف اتفق زعماء الطوائف الدينية الثلاثة المعروفة في السودان على مذكرتهم الشهيرة التي جاء أنهم رفعوها إلى مدير المخابرات البريطاني وقتها يعترضون فيها على مسألة إلغاء الرق في السودان قائلين أنه من مصلحة كل الأطراف المعنية حكومة و(ملاك أرض) وأرقاء أن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة. كل هذا التاريخ ملئ بالمسكوت عنه. وما أكثره في سوداننا المكلوم. فالنترك هذا لمن أراد التعمق في البحث وتقليب الأمر من كل جوانبه. فلابد أنه واجد هناك ما يشفي غليله. فالعوامل التاريخية، فيما نرى، منها غزوات خارجية (اتفاقية البقط والتزاماتها من رقيق) والديني (الاسلام ورسالته كدين خاتم) والعرقي (العروبة ودخولها أرض السودان وتفضيلها لعرقها دينا وثقافة) والطائفي ( أكثر من طائفة دينية لها اورادها وشيوخها وقرباها بأهل البيت زعما أو حقيقة). أسهمت كل هذه العوامل المتشابكة، فيما نرى، في تكوين بدايات هذه "المؤسسة". مضافا الى ذلك تفشي الأمية في سودان ما قبل الاستقلال وانتشار التعليم بدءا في الوسط وما تلاه من توظيف الاستعماريون لأهل هذا الوسط في السلك الادراي للدولة بل وتوريثهم جهاز هذه الدولة الوليدة. كل هذا ساهم في وضع بذرة هذه "المؤسسة" وبدايات مركزيتها في الوسط ومن ثمّ"تفضيلها" بوعي أو بغيره لكيانات هذا الوسط في الوظائف والجيش والقطاع الخاص. فليس هناك فيما نرى حلف قبلي من أي نوع بين مكونات هذه "المؤسسة" بغرض تهميش أحد. بل من الثابت تاريخيا أن هناك تناحر وتحارب بين بعض مكونات هذه "المؤسسة" من كيانات عرقية بعينها. المهم في الأمر أنها - أي المؤسسة - قد نشأت كنبت شيطاني قائم ومؤثر أقتصاديا وسياسيا. وعلينا التعرف عليه بدقة حتى لا نرمي طفل الحقيقة التي نبحث عنها مع الماء المتسخ، كما يقولون. هذه الفزلكة التاريخية المختصرة هي اشارة الى أهمية التعرف على جذور المشكل بدقّة وأبعاده التاريخية المتشابكة التي مهدت للتمكين الأول لجماعات وكيانات بعينها وكيف ساهم هذا الأمر في الوضع الراهن في تمحوراته عبر التاريخ الحديث حتى وصلنا الى ما نحن فيه – عهد "المؤسسة". (5) وممن تناولوا الأمر بعمق من زاوية تاريخية هو د. أبكر آدم اسماعيل في ورقته الشهيرة بعنوان "جدلية المركز والهامش واشكالية الهوية في السودان" المنشورة اسفيريا في أكثر من موقع (الراكوبة ديسمبر 2012) والتي لا غنى عنها لأي باحث جاد في أمر الهوية السودانية. نظر الرجل في كيفية تمحور هذه الطبقة تاريخيا وتقاطع نشاطها الاقتصادي مع هويتها وعلاقتها بالمستعمر حيث يقول:.(............فبعد صنع الدولة الحديثة في السودان، مع عهد الاستعمار التركي المصري... نشأت فيه مركزية الكيانات الإسلاموعربية بسبب تفوقها النسبي على الكيانات الأخرى وبسبب توجهات الاستعمار في التعاون مع هذه الكيانات، وخاصة الحضرية منها، بالإضافة لرغبتها هي في التعاون معه ل(تمكين) وضعها. وقد ملكها الاستعمار أهم أدوات السيطرة، ألا وهي جهاز الدولة الحديثة وفتح شهيتها من خلال تطوير الأسواق والتجارة على شاكلة الاقتصاد الطفيلي. وبسبب انتشار بعض أبناء الكيان الإسلاموعروبي من التجار المعروفين ب(الجلابة) في أصقاع السودان واستنزاف ثرواته لمصلحة (أوطانهم) الطبيعية في أواسط وشمال السودان عبر تجارة الرقيق وجلب العبيد وتسخيرهم كأيدي عاملة، بالإضافة لأشكال التجارة الأخرى غير المتكافئة، مما زاد تفوق هذه الكيانات التي أسست لما يمكن أن نسميه قومية عربية في السودان) انتهي. والأقواس حول كلمة "جلابة" و "تمكين" من عندي. (6) أما عن الأثر الاقتصادي المدمر لهذه المؤسسة فليس أصدق، عندي، مما فال به د. النور حمد قي مقاله بعنوان "الأقتصاد هو مربط الفرس" نشر في سودانايل – فبراير 2014، حيث يقول: ("دولة الجلاّبة" و"مؤسسة الجلابة" تعبيران استخدمهما عدد من علمائنا الأجلاء، ممن حلّلوا اشكالات بناء الدولة، لحقبة ما بعد الاستعمار في السودان،بأكاديمية وموضوعية، وبتوثيق علميٍّ محكم. ولكنا لم نلق بالاً لهذين المصطلحين. بل ربما شعرنا بالاستفزاز بسبب صكهما على تلك الصورة، ولربما كرهنا الذين صكوها؛ ألسنا من ضمن "الجلابة"؟! غير أن الجلابة طبقة اجتماعية شكلت توجهاتها الاقتصادية وتكتيكاتها للحفاظ على الامتيازات ظروفٌ تاريخية قابلة للدراسة وللتحليل، فهم ليسوا بشرًا يقطنون حيّزًا جغرافيا متجانسًا نوعًا ما، كالوسط والشمالي النيلي، كما قد يفهم البعض من المصطلح، وإنما هم ظاهرة اجتماعية/اقتصادية، تاريخية قابلة للتتبع وللتحليل.الذين تتبعوا هذه المؤسسة لاحظوا أنها لا تفرق بين الأنظمة، إذ أن لها مقدرة مذهلة، على التأقلم والتواؤم مع جميع الأنظمة........... وحتى الانقاذ، عرفت فيهم هذه الخاصية الحربائية فوظفتها لصالحها، وجعلت بها لنفسها شرعية وشعبية. ولهذه الطبقة ذيولها الممتدة في مجالات الفن والرياضة والوجاهة الاجتماعية، وكلها تصب في ذات البحر. الشاهد أن تغيير شكل الحكم لا يغير شيئًا، لأن معوقات التغيير ليست الحكومة؛ "انقاذية" كانت أم "حزبية" أم حتى "حكومة هامش". الحكومة بمختلف صورها، ليست من الناحية العملية، سوى قمة جبل الجليد. هذه الطبقة تكره الدولة الحديثة، وترى في كل مقوماتها من خدمة مدنية نظيفة، وقضاء نزيه، وتقسيم عادل للسلطة والثروة، عدوًا لمصالحها. هذه الطبقة تحب أن تحيا الحياة الحديثة في أعلى مستوى، ولكنها تكره الدولة الحديثة. هي تكره الدولة الحديثة في بلادها، ولكنها تحبها خارج بلادها، وهذا هو سر حفظها لأرصدتها بالعملة الحرة في الخارج) انتهى (7) وفي معرض حديثه تحديدا عن الحظوة الاقتصادية لهذه المؤسسة القابضة يقول د. النور: (هذه الشبكة القابضة، المناقضة بطبيعتها لمرتكزات الدولة الحديثة، والمعوقة لبنائها، سابقة للإنقاذ، وهي التي أجهضت مشروع بناء الدولة الحديثة،عبر تقلبها في رحم المصالح الطائفية والحزبية العشائرية، وشبكات التجار المرتبطين بها، إضافة إلى تغلغلها داخل البيروقراطية المكتبية، وتمدداتها في الجيش، وسائر قوات الأمن، خاصةً في عهود الحكومات العسكرية، بل وفي الأكاديميا. فهل سألنا أنفسنا لم لا ينتفع الزارعون مما يزرعون، ويعود النفع كله لمن لا يزرعون، ولا يسهرون الليل في الحقول؟! هل سألنا أنفسنا لماذا لا يصدر المنتجون ويقوم بالتصدير غيرهم مما لا ينتجون؟! هل سألنا أنفسنا كيف تحول كل من تعليمنا ونظام رعايتنا الصحية من مؤسسات تكفل حق التعليم وحق العلاج للجميع، ليصبح التعليم الجيد والرعاية الصحية حصرًا على أهل هذه الطبقة؟حصر الأمر في اسقاط الحكومة تبسيطٌ مخل للمعضلة، واستسهال للحل لا يليق بمن يفكر بصورة حاذقة سليمة.) انتهى. (8) وحديثا أو قل في الربع قرن الأخير تمخضت عبقريّة أهل (الاسلام السياسي) عما عرف بـسياسة (التمكين) والتي تعني في حدها الأدنى التفضيل للموالين سياسيا على المستوى الاقتصادي مما يؤسّس للتفرقة ويمس بأمر الحقوق الأساسية للآخرين. فمثلا على أيام دولة جنوب أفريقيا العنصرية في عهد الحكام البيض كانت التفرقة عنصرية. أكسبت دولتهم اسم دولة "أبارتهايد" والتي تفرق بين الأبيض والأسود في الحقوق بصورة علنية. أما في عهد الانقاذ فهي تفرقة خفية ذات طيّات متداخلة يختلط فيها العرق والقبيلة مع المذهب الديني والولاء السياسي والثقل الجهوي والأقتصادي أيضا، مكونا منظمومة شديدة التعقيد يسهل التملص منها بألاعيب شتى لم تعد تنطلي على أحد. هذا عمل مؤسسي. فاذا تضرر نفرٌ من الناس من عدم حياد دولتهم في أمر الحقوق الأساسية من حريّة ومساواة في الفرص كما هو منصوص عليه في القانون الأساسي في الدستور وفي مواثيق حقوق الأنسان العالمية فليس هناك مستقبل يرجى من هذه الدولة لهؤلاء النفر من الناس على الأقل. وأذا كان المتضررون من هذه التفرقة في سياسات الدولة هم الغالبية العظمى من أهل تلك البلاد– كما هو الحال الآن في سودان الانقاذ - فعلى هذه الدولة المزعومة السلام طال الزمن أم قصر. ولهذا، اذا كنا جادّين في المحافظة على وحدة وتماسك بلدنا وبقائه موحدا تصير بعض مجابهة مشكلاتنا البنيوية العويصة مثل هذه "المؤسسة" أمرا حتميا لا فكاك منه. وأي فعلٍ يقصّر عن ذلك يصبح كتغطية شروخ انشائية هدّامة في مبنى متهاوي بورق الحائط والتظاهر بأن المشكلة قد حُلّت. فقد تمادت هذه "المؤسسة" في مسلكها "التفرقي" لحماية مصالحها الاقتصادية. وقاد هذا الأمر الى مخالفات صارخة في أبسط قواعد المساواة بين أبناء البلد الواحد. والناظر للأحصائيات المختلفة في الوظائف العليا في الدولة وفي الاكاديميا وفي القوى النظامية وفي مجالات شتى ذات طبيعة قومية يجد ما يكفي من دليل على هذا الحيف والظلم الذي طال غالبية أهل السودان بنيلهم ووسطهم وجنوبهم وشرقهم وغربهم. فعندما انتفض الشارع في سبتمبر من العام الماضي في تظاهرة سلمية أشهروا في وجهه السلاح. ولم يوضع هذا السلاح الا بعد أن فعل فعله وحصد أرواحا بريئة طاهرة بالمئات من مختلف أعراق الوطن. هل كان هذا فعل قبيلة بعينها ضد أخرى؟ بالطبع لا. إنه فعل مؤسسة لها سلاحها وحماتها وأرصدتها المكدسة في مصارف عالمية و لا يهمها شعب أو شكواه. (9) عطفا على ما سبق فالمؤسسة فيما نرى، حقيقة وواقع ماثل للعيان الآن في السودان لا ينكر وجودها إلا مكابر ولا يمكن تجاهلها. وليس لها جهة أو قبيلة بعينها على الرغم من أنها تفضل التعامل مع أعراق وكيانات بعينها بغرض الحماية وتنبذ آخرين خوفا منهم ومن مطالبهم. فقد أثّر هذا المسلك التفرقي ويؤثر على مسار الحدث السياسي والوضع الأقتصادي في بلادنا. فقد تمحورت هذه المؤسسة خارج نطاق القبيلة تماما الى منظومة قابضة سياسيا واقتصاديا مع الزمن مستفيدة من أحادية الحكم لربع قرن من الزمان في حقبة الأنقاذيين فأضحت، بفعل الفساد و(التمكين) و(التجنيب) و(التحلل) غولا مفترسا ابتلع الدولة السودانية برمتها. تمّ من خلال هذا الابتلاع تحويل بلد عملاق تاريخا ومساحةً ومواردا الى تابع ذليل تتحكم فيه دويلة صغيرة مثل قطر والتي هي أصغر مساحة من نصف مثلث حلايب. بل لا تزيد مساحتها عن شبرين مقارنة بما عندنا من فيافي. فهل تعلم، عزيزي القارئ، أن مساحة مثلث حلايب فقط أكبر من مساحة خمسة دول مجتمعة تشمل قطر وسنغافورة وهونق كونق والبحرين ولكسمبورغ. نعم مجتمعة. ولتقف على حجم الفجيعة الاقتصادية التي رزئنا بها فلك أن تعلم أن مجموع الدخل القومي (GDP) للخمس دويلات الصغيرة التي ذكرتها أعلاه هو حوالي (US$856 billion) والذي يفوق دخل السودان القومي (US$ 67 billion) اكثر من عشرة مرات. علما بأن مساحة السودان او ما تبقى منه (1.886 million sq. km) تقترب من مساحة خمس دول كبرى مجتمعة. نعم مجتمعه. هي المملكة المتحدة (0.243 million sq. km) وفرنسا (0.641 million sq. km) والمانيا (0.357 million sq. km) و ايطاليا (0.301 million sq. km) واليابان (0.378 million sq. km). بل لعل السودان أغنى من أيٍّ منها مواردا في سطح الارض وفي جوفها بخيراته في البوادي من أرض شاسعة خصبة وبحار صالحة ومالحة. أما مقارنة الدخل القومي لأيٍّ من هذه الخمس دول الكبرى بالسودان فلا داعي لذكره احتراما لذكاء القارئ. ويكفي فقط ان نعلم انها جميعا تحتل مواقعها في قائمة العشرة دول ذات أعلى دخل قومي في العالم. نعم النجاح الاقتصادي لا يقاس بمساحة الدول فقط وله عوامل شتى مترابطة تؤثر فيه منها ما هو تاريخي. الا أن وجود الموارد الطبيعية من أرض خصبة شاسعة وماء ومعادن وثروات نفطية وحيوانية وزراعية من أهم هذه العوامل. فقد كنا قبل خمسين عاما في وضع يشابه كوريا وسنغافورة فأين نحن الآن من هؤلاء؟ فقد تبوأوا مواقعهم في منظومة دول العالم الأول رغم تفوق بلدنا عليهما مساحة وموارد. نحن نقطن في دولة عظمى اسمها السودان ظلت رهينة وحبيسة طوال تاريخها الحديث لهذه المؤسسة العاجزة ومن يقومون عليها من التفرقيين العنصريين الانتهازيين محدودي الرؤى والمواهب. لقد أضاعوا علينا جيلا كاملا. قتلوا عشرات الآلاف (بشهادتهم) ممن قتلوا وشردوا الملايين ممن شردوا داخليا وخارجيا حتى أقعدوا بلادنا في ذيل الأمم. فلأي أجندة يعمل هؤلاء؟! هذا سؤال مفتاحي لكل أهل السودان. (10) ومما قوّى هذه"المؤسسة" هو تماهي الطائفية، على مر العصور، مع القائمين عليها ودخول عناصر جديدة أتى بهم فقه (التمكين) فوجدوا لهم موطئ قدم على أطراف هذه المنظومة والتي ربما لم يكونوا من كياناتها أصلا لولا تمكينهم وشراء صمتهم. ولهذا فمن قال أن هذه "المؤسسة" تشتمل الآن على قطاعات من مختلف بقاع الوطن لا ينتسبون تاريخيا لمكوناتها التقليدية فقد صدق دون التعرض لنسب القادمين الجدد. فهي إذاً حقيقة ماثلة وليست خيالا. إنها (مؤسسة) لا قبيل لها؛ بل هي بيت الداء. ولا يمكن لمسألة الحكم والحقوق الأساسية في السودان أن تعالج بصورة جذرية دون الاعتراف الصريح - من الكل - بوجود هذه المؤسسة. ليس هذا فحسب بل والانصراف الجاد لمواجهتها ومعالجة أثرها وتأثيرها السالب على المجتمع. إنه تأثير مدمّر على الوضع السياسي والأقتصادي في البلاد. أما ماهية تداعيات هذا الأثر على ما نعيشه اليوم من اضطراب وحروب ونذر مزيد من التفكك مع تعذر الحل فهذا حديث منفصل؛ فلنتركه ليومه إذا دعا الداعي.
|
|
|
|
|
|