|
عن التحلل وقول الروب
|
على المحك صلاح يوسف – [email protected]
عندما كنا صغاراً في مراحل الدراسة، ما أن نغادر سور المدرسة حتى تحدث بين أندادنا مشاجرات لأسباب واهية يمسك فيها القوي بخناق الضعيف بهدف اذلاله وتخويفه أمام الزملاء. فكنا نتدخل كوسطاء لفض العراك حتى لا يتطور وتعلم به إدارة المدرسة فينال الطرفان جزاءهما في طابور الصباح. وكان الطرف الأقوى لا يقبل بالتسوية إلا إذا قال الضعيف كلمة (الروووب) بأعلى صوته أمام الجميع. وكثيراً ما كنا نقنع الضعيف ليقول هذه الكلمة حتى يفدي نفسه ويصبح حراً طليقاً. وكان منطقنا لإقناع الضعيف بأنها مجرد كلمة لا تزيد ولا تنقص من مكانة قائلها، لكنها في حقيقة الأمر وحسب موروثنا الشعبي تضع قائلها في مكانة المهزوم الذي يقل شأناً عن الآخرين، بل أن الكلمة تظل تلاحقه في كل مرة يحاول فيها أن يستأسد أو يتطاول على الآخرين. هل يا ترى أن كلمة التحلل التي يتداولها الناس هذه الأيام تنتمي بأي صورة أو أخرى إلى كلمة الروب؟ أتساءل هنا لأن التحلل الذي أطل برأسه كوسيلة تسوية لمليارات الولاية المعتدى عليها، ينجي صاحبه من العواقب بما في ذلك عقوبة الحق العام التي لم نسمع من قبل بأن الدولة تنازلت عنها حتى في مخالفات ربط حزام السائق، بينما الروب تنجي قائلها من مسكة القوي وما قد ينجم عنها من أذى.
لقد اهتم الرأي العام بقضية تلاعب موظفين وضعت فيهم الثقة الكاملة بمكتب والي ولاية الخرطوم وهم حسب سياسة التمكين لابد أن يكونوا من المقربين أو من فصيلة القوي الأمين، فاستغلوا ذلك لتخصيص وبيع أراض جعلتهم من أهل الميسرة والغنى بين ليلة وضحاها. وكان مبعث الاهتمام لأن السيد الوالي هو الذي أباح عنها وحدد أرقامها بمئات المليارات التي لم تنقص كثيراً حتى بعد التضارب الخبري مما أذهل الجميع لأن نوع التعدي وتحقيق عائد من ورائه يأخذ وقتاً يعين على الكشف في المهد، الشيء الذي لم يحدث. وقد وجد الكتاب مادة دسمة لإراقة مداد أقلامهم بإجماع استنكاري وتساؤل عن البزوغ السريع لنجم التحلل في هذه القضية بالذات عطفاً على قانون مكافحة الثراء الحرام. كما برع كل من يعرف ألف باء القانون في إبداء اندهاشه من الكيفية التي عولج بها موضوع الساعة الذي كان جبلا من المليارات فتمخض بولادة فأر، وزنه سبعة عشرة ملياراً، أعيد إلى أمه الملتاعة فقبلت به حامدة شاكرة تفادياً لإضاعة الوقت بين أروقة المحاكم وما قد ينجم عنها من أخذ ورد وتوسع في التحريات التي قد تكشف الغطاء عن تفاصيل ليس من المصلحة تعريتها في زمن يرفع راية فقه السترة. وإذا مرت مياه هذه التسوية تحت الجسر بسلام ستصبح سابقة التحلل أداة لتسويات أخرى لقضايا عديدة ظلت تراوح مكانها دون أن تجد طريقها للمحاكم كما سيكون التحلل حامياً لمن لديه الفكرة في ارتكاب فعل مماثل ليمضي بقلب قوي في تنفيذ خطنه دون وجل.
وأذكر في أعقاب انتفاضة أبريل أن تمت تسويات عن طريق النائب العام مع من امتدت أياديهم إلى المال العام أو استغلوا نفوذهم لتحقيق مكاسب لجيوبهم الخاصة، غير أن الأمر هنا مغاير تماماً لتلك المخالفات ومناخ المساءلة فيما اعتقد، ولا أدري ما إذا كانت تسويات ما بعد الانتفاضة مستظلة بسحابة التحلل أم أن هناك منطق قانوني آخر تم استخدامه في ذلك الوقت. فقد كان المنطق وقتها يقول بعدم جدوى السجن طالما أن ما تم نهبه لن يعود للخزينة ويكفي التشهير وإعلان التسوية مع الشخص المعني بذكر طبيعة المخالفة واسمه ومكانته السابقة. لكننا في حالة التعدي موضوع الحديث لا نعرف اسماء المتحللين أو عددهم أو تفاصيل ما عاد عليهم من ذلك الفعل لأن ما أعادوه ليس سوى نقطة من ماء بحر هلامي الأرقام. ومع أن الموضوع قد شعل الناس كثيراً يبدو أنه سيظل مفتوحاً إلى أن يماط اللثام عن تفاصيله.
|
|
|
|
|
|