نظر عَلِيٌّ صوب صديقه أَحْمَد وطلب منه أن يتحدث دون لف ولا دوران، وأن يجيبه عن السؤال الذي طالما طرحه عليه: "لماذا لا تبالي كالغير بالقيل والقال حول تصريحات قادة البام والبيجيدي والاستقلال والاتحاد الاشتراكي والأحرار والآخرين؟"... هذه المرة، ودون أن يعرف السبب، خرج أحمد عن صمته واستجمع أنفاسه، وبصوت خافت انحنى إلى جنب صديقه علي، قائلا: "لا تؤاخذني عن صمتي، فأنت تعرف أنني أعشق الحديث معك ومجادلتك، لكن في بعض الأحيان يُخَيَّل إلي أننا لا ننفذ إلى عمق الأشياء"... قاطعه علي: "بالله عليك صديقي، افصح عن فكرتك ولنرى إن كانت صائبة أم لا... أو على الأقل قريبة من الحقيقة"...
هذه المرة، كان أحمد متيقنا، أنه لا مناص من الإفصاح عن أفكاره... وقال متوجها إلى علي: "يمكن أن ألخص لك الأمر في كون حزب البام ظاهرة جديدة-قديمة، وأنها اصطدمت وما تزال بالربيع المغربي وأن انسحاب مؤسسها فرض عليها تحديات جديدة... البيجيدي ظاهرة حزبية جديرة بالاهتمام، خاصة في قدرتها على الحفاظ على هويتها واستقلاليتها... الأحزاب الوطنية التاريخية تعيش أوضاعا مختلفة، فإن كان أقدمها، حزب الاستقلال، يحاول التأقلم مع المتغيرات المجتمعية الكبرى فإن حزب الاتحاد الاشتراكي يوجد في منعرج صعب لا أحد يعرف كيف سيتجاوزه... حزب الأحرار مغلوب على أمره، فهو لم يستطع، إلى اليوم، إقناع المواطنين أن قراراته نابعة عن قناعة قيادته وأجهزته..."
وقف أحمد برهة، شرب كأس ماء كان أمامه، واسترسل في الحديث: "إلى هنا لم ننفذ بعد إلى عمق الأشياء ما دامت قرارات الأحزاب تتفاعل مع متغيرات كبرى ومصالح ظاهرة وخفية لقوى تتحكم في القرارات الكبرى والمصيرية.. مثل الدول العظمى والمؤسسات المالية العالمية والدولة المغربية وأحيانا الشعب المغربي..."
لم يدم صبر علي كثيرا وقاطع أحمد: "وما دخلنا نحن في أمريكا وفرنسا والبنك الدولي؟ نحن نتحدث عن من سيفوز بالانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر 2016 ومن سيترأس الحكومة؟ البيجيدي أم البام؟"... وبهدوء استكمل أحمد الحديث : "أنا أيضا أشاركك في هذا النقاش ولكن ذهني يستحضر "موقف" أمريكا وأوربا من حكومة إسلامية معتدلة لخمس سنوات أخرى... الأمور قد تبدو معقدة أو بسيطة حسب زاوية التحليل... خذ مثلا دولة مصر، أمريكا "فوجئت" بالربيع المصري وثورة الشباب ورحيل مبارك... أمريكا نفسها لم يَتَسِعْ صدرها الانتظار ما ستسفر عنه تجربة الإخوان المسلمين في الحكم، ومن تم "تغاضت" عن استيلاء العسكر، بالنار والحديد، من جديد على الحكم... التصريح المنسوب لأقوى مرشحة للبيت الأبيض حول "استمرار" تجربة الإسلاميين المغاربة يمكن أيضا اعتباره "توجيها" نابعا من بعض مراكز القرار في أمريكا حول مستقبل المغرب..."
"كلامك خطير صديقي أحمد إذ يمكن تأويله كما فعل الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي بالتدخل السافر لأمريكا في الشأن الداخلي الوطني؟" هكذا باغت علي رفيقه أحمد وهو العارف بنفسية صديقه وحبه للأسئلة المستفزة... كان جواب أحمد واضحا : "الجواب لا ونعم... المسألة معقدة... الواضح أن القرار الداخلي المغربي مستقل، لكن نجاعته تكمن في الأخذ بعين الاعتبار "أراء" و"وجهات نظر" أمريكا وأوربا وهذا تفرضه العولمة والمصالح... ولا عيب في ذلك... والأرجح أن دولا عظمى "اهتمت" بحالة المغرب إبان اندلاع الربيع المغربي يوم 20 فبراير 2011 وقدمت "نصائح" و"فضلت" حلولا على أخرى... والأكيد أن القرار الوطني المستقل و"النصيحة" الخارجية استقرتا على عدم مواجهة الشباب المغربي بالعنف بل بالحوار والانفتاح والإصلاح وهكذا جاء خطاب الملك ليوم 9 مارس 2011 حاسما في تحديد خريطة الطريق لفترة تاريخية مهمة ما زلنا نعيش تداعياتها ومنها استمرار هذه التجربة الحكومية الفريدة في المغرب والعالم العربي ما دامت ناجعة ومقبولة لدى جزء كبير من الرأي العام الوطني الداخلي ومراكز القرار الخارجي...".
سكت الصديقان عن الكلام لبرهة، وكل واحد منهما شارد في أفكاره... شربا من كأسيهما وتقاسما النظرات وهما عازمان على استكمال الحوار والتطرق للنقط الأخرى... تقدم عَلِيٌّ بالكلام: "طيب صديقي أحمد، وضحت فكرتك حول القوى العظمى ولدي ملاحظات حولها لكن اليوم هو للاستماع إليك، إذن لتحدثني عن الدولة المغربية ودورها المحوري في القرارات الاستراتيجية وتفاعلها مع الأحزاب؟"...
أحمد، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال، أجاب في الحين : "نعم دور الدولة المغربية حاسم في تحديد السياسات واتخاذ القرارات. والأحزاب كلها تأخذ دائما بعين الاعتبار هذا الفاعل المحوري قبل الإقدام على أية خطوة أو قرار... باختصار شديد الفاعل الرئيسي بالدولة المغربية هو القصر الذي يحظى اليوم بقبول واسع... هذا الإجماع لم يكن كذلك بعد الاستقلال إذ استمر الصراع ما بين القصر والحركة الوطنية لعشرات السنين كما عرفت البلاد محاولتين انقلابيتين ضد الملك الراحل... يمكن اعتبار حكومة التناوب التي قادها الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي نهاية الصراع حول "الشرعية"" ...
أوقف علي صديقه أحمد عن الكلام وَوَّجَه له هذه الملاحظة: " يبدو لي يا أحمد أنك بتناولك زمن الصراع حول "الشرعية" من 1956 إلى 1999 تريد أن تتحدث عن فكرة سابقة طرحتها وأُعْجِبْتَ بها وهي الأزمنة المغربية..؟"... لم يترك أحمد الفرصة لعلي لاستكمال فكرته إذ بادره بالقول: " نعم، نعم... تحليل الأوضاع من خلال أزمنة أحبذه، لأنه يساعد على إعطاء مضمون محدد لشكل الصراع المهيمن، والذي بالضرورة تتفرع عنه صراعات كثيرة، كبيرة وصغيرة... فالزمن المغربي يمكن أن ألخصه منذ الاستقلال إلى يومنا هذا في ثلاث فترات أو أزمنة، وبعناوين بارزة : هناك أولا، زمن "الصراع حول الشرعية" كما قلت سابقا ويمتد من الاستقلال إلى التناوب الحكومي الأول، والزمن الثاني عنوانه "تازة قبل غزة" ويمتد من 1999 إلى 2011 والزمن الحالي، زمن "حركة 20 فبراير"، انطلق بالمغرب، بالموازاة مع الربيع العربي، يوم 20 فبراير 2011 ولا أحد يعلم كيف ومتى سينتهي.. وسأحدثك عن مضامين هذه الأزمنة بتفصيل في الأسبوع القادم..."
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة