كثير من الأوقات يصادف المرء حينما يكون على مركبة عامة في القاهرة أن يتناهى الى سمعه من ينبّه السائق صائحاً " على جنب يا أسطى " ، وذلك إما لكون المركبة لم تكن تتجه صوب المسار الذي يقصده ، أو أنّه قد أدرك محطّته. وأحيانا نجد مِنْ السائقين مَنْ يتجاهل هذه الصيحة أو تلك دون أن تعثر له على مبرّر معقولاً ومخرج مناسباً. فتنشأ في غالب الأحوال على إثر ذلك (خِنَاقة) تختلف أوصافها بإختلاف الشخوص والظروف. ربما تتداعى مثل تللك المواقف على يوميات أيّ مِنّا ، وإنْ تباينت شكلاً ولكنّها تحمل ذات المضمون. فتأخذنا جزافاً لأن نقول على جنب يا ... مكثتُ إسترجع من فينة الى أخرى مشاهد آلمتني أشدّما إيلام وإستوقفتني في محطات ما كانت لتكون محطّ رَحْلي ولا مُناخاَ لزاملتي. وعلى أي حال أذكر في بداية الالفية الثالثة أن قام نفرٌ من أبناء جنوب السودان يصحبهم آخرين من الجالية السودانية بتبنّي فكرة (التعليم المجتمعي) لأبناء الجالية السودانية بمصر ، وسعوا الى ذلك بقدر ما صحّ عزمهم ، حتى أقنعوا النظام بالسودان بالموافقة على ذلك المسعى الحميد. إلا أن المعْضلة كانت تكمن في توفير المنهج السوداني ، ولم يجدوا حينها حلاً غير إرسال أقراص ممغنطة (CDs) تحتوي على المنهج ، وتعثّروا في طباعته عبر السفارة السودانية بالقاهرة متعلِّلين بشحّ الإمكانيات المالية. وإستطاعت هيئة الإغاثة الكاثلوكية (CRS) بعد تدخّلها في الأمر من بوابة اللاجئين القيام بهذه المهمة. الى هنا الأمر كان بالنسبة إلينا طبيعي حيث ديدننا مع النظام لكالمرتجي ظلّ السحابة كلّما تبوأ منها للمقيل إضمحلّت ومع هذا لم يَثِب لخاطرة أيّ منّا إستهجان لذاك الموقف من النظام ولا إستنكار لأعذارهم التي قدّموها (حشْفاً وسوء كيلة). ولكن ما حملنا بعد ذلك لأن نفنى غيظاً ونذوب حسرةً وإستعْصت علينا الدمعات عن عجْزها تبديد آهة وتسريب همْ وغمْ ، هو ذلك المشهد من ولي أمرنا ورئيس بلدنا يحتفي ويًكرم منتخب كرة القدم المصري إثر فوزه بكأس الأمم الإفريقية ببوركينا فاسوا ، فنقدهم المال ورفدهم بالعربات! لست أقف إعتراضاً من منطلق (ما لم يكْف أهل البيت يُحْرم على الجيران) ، ولكن من مفهوم قصْر الصدقات على مصارفها. وأنت يا سيدي الرئيس أعطيت ما لا تملك لمن لا يستحق. ولو أعطيت ما أعطيت للغلابة من المصريين لما نبثت لنا بنت شفة. أردت بسرد هذه الواقعة رصْد سُلوك النظام الذي يفتقد الى الكياسة والحِنْكة في الميدان السياسي ، فهو بما قام به مع المنتخب المصري كمَنْ طلّق زوجته طلاقا بائناَ فيذهب ليشتري لها ثوباَ كنايةً عن إعتذاره وندمه. وبذات الأسلوب يعمل النظام حاليّاً على رتْق ما اهترئ من أسماله ، حتى صار مثل الدرويش يرقع بلون هنا وبلون آخر هناك. وهذا ما يجري في راهننا السياسي من حوار مع هذا وآخر مع ذاك. وحتى نستطيع قراءة ما تُخبئه مآلات ما يجريه النظام من حوار مجتمعي وسياسي لنمضي سويّاً الى إثبات مقولة ذاك البدوي أنّ " البعرة تدّل على البعير" وحتى نصل الى ذلك المفهوم تأملوا معي هذه الصورة. ما ترونه هي إحدى وقائع حوار بعض من أبناء النوبة مع منتخب السفارة السودانية بالقاهرة في بيت السودان بقاعة السفير السابق كمال حسن علي ، وكانت جلسات كما أسْلفت بإعتبارها (بروفة) للحوار بالداخل بعدئذ ، وبدا عليها طابع الجدِّية والإلتزام الأخلاقي والمسئولية ، وفيها من الوعود ما يأخذ أبي لهب للإيمان ، بيد أننا نحمد الله أن جعل في بعضنا بصيرة تدعْه يُميّز عتق الخيل من أصواتها. كان السفير يرغب في تغيير واقع الجالية بمصر والنظام لا يُريد تحريك هذا الماء الآسن. ومضى النظام متمثّلا في السفارة الى إحتواء من سَهُل عليهم إحتوائه من أبناء النوبة ومن هان لهم ، وشرعوا ينفِّذون مشروع مؤسسة الأب فيليب التي أول ما يستهدف من فرائس له هم أبناء النوبة أنفسهم. ولعل الآخرين يجدونني أتمحور حول قضيّة النوبة هذه ، فليس ذلك من منطلق عنصري أو منظور عرقي ، ولكن واقع قضيّة الحوار وخصوصيته فرض عليّ هذه اللغة ، فنحن قد تعايشنا مع كل فسيفساء الإثنيات السودانية وغير السودانية ، واستطعنا أن نتجاوز المفاهيم القبليّة والعنصريّة ونبْذ الآخر بتكويننا الفطري ، الى أن جاء نظام المؤتمر الوطني ، وتبنِّى سياسة التفرقة وزرع الفتنة بين فئات الشعب السوداني على خلفيّة الإنتماء العرقي والولاء للنظام من عدمه. أود أيضاً أن أُعيد نشر بيان لجْنة الحوار الذي تذكر فيه مُخرجاته ، ويشبه تماما في الشكل وليس المضمون ما توصلت اليه إتفاقية السلام بجبال النوبة في العام 1987 والتي بعد أن قيلت الخُطب في شأنها ، ووُعد أبناء المنطقة بحقبة جديدة فيها المن والسلوى يهبط على المواطنين بجبال النوبة ، ثم لم نلبث إلا قليلا حتى وجدنا هذه الإتفاقية قد ذهبت أدراج الرياح ، وعادت جبال النوبة الى مربع الحرب ، بسبب ما يقع عليها من ظلم وجور. وإليكم البيان لإمعان النظر فيه وإعمال الفكر.
هذا الحوار وما تمخّض عنه قد أُجهض بإحتواء بعض عناصره من أبناء النوبة والمتعاطفين مع النظام إن لم يكن موالين له ، ليقوموا بأداء أدوار مُخطط لها بإعتبارهم (كومبارس) ، بينما يتم تجاوز بقيّة أعضاء اللجنة لأنهم مُحصّنين ضد فيروسات النظام التي يرغب في إنتشارها في كل الجسد السوداني. أخي عيسى حمدين ، وصل إلينا أن السفير المفوض حسن العربي الذي إستقبلكم بالسودان وحجز لكم فندقاً يليق بمقامكم ، قد أرسل للقاهرة وعلى ما أظن لأحد أعضاء الجالية ومعنى بالمجتمع المدني يستفسر عن تمثيلكم هذا فلماذا يا تُرى هذا الإستفسار؟ ولو لم يكن ذلك صحيحاً فهنالك ما يجُبّ كل ما إدعيتموه من مبررات . لا ذلت على وعدي بكشف المثير الخطير من كواليس حوار القاهرة مع بعض أبناء النوبة ، ولكن أنتظر فقط عودة الوفد لأن هنالك من بطرفه شيئ يود تذويدنا به. أخيراً ، كنّا ولم نزلْ ، مثل كثيرين من أهل بلدنا ، نتطق ذاك الجلباب القصير ، و نضع الطاقية ذات اللون القرمزي ، ونحتذي (مركوباً) مرّقط الأديم ، نحمل حقيبة مهترئة وأمنيات خضراء ، وندمن السفر الى مقاصد ، و إتجاهات ، و مسافات لا يأخذ اليها طريق ولا تشير نحوها بوصلة ولا حتى نجمة حائرة يُهتدى بها اليها . ولكن تظل سجيّتنا كطائر (السنبر) يحنو ويهفو دائماً الى العش الذي إحتضن إطلالته على الحياة . ويفتأ عزائنا في غربة وإغتراب هو ذلك الصدى لأشلاء ذكريات ، ويمكث أيضا سلوان الوحشة والأشجان هو ما يزاور خواطرنا من أطياف تتسربل إما (باللاويه) أو (القرمصيص) ، ويصدى لآذاننا صوت يحاكي لحن النيل و (الطنبور) ، وضجيج يمتزج هنا بإيقاع (كمبلا) و يتردد هناك بدوي (نقارة). لا تظن يا أخي عيسى حمدين أن نكون كالثعبان نخلع قميصاً لنتقمّص آخر ، فنحن سودانيون نشتاق لرائحة الأرض ، ونعرف أيضاً أن (لالوب بلدنا ولا تمْر الناس). ورسالتي للنظام بالسودان هو أن الحوار أولويته إقناع من ليس يتّفق معك في الرأي بجدواه ، وأن تستمع لوجه نظره لتأخذ منها ما هو موضوعي ، وليس أن تأتي بمن هو معك أصلاً لتدير معه حواراً صورياً. وأذكر أن الصحفي الراحل محمد طه محمد أحمد أن تناول في إحدى مقالاته ما معناه "أن البعض يصير مثل شعب البوربون ، لا يتعلمون شيئاً ولا ينسون شيئاً". نحن تشرّبنا منذ صِغرنا على ألوان من الفنون شكّلت وجداننا ، منها على سبيل المثال أغنية ميرغني المأمون وأحمد حسن (جدودنا زمان وصّونا على الوطن – على التراب الغالي الما ليهو تمن). إستطاعت الإنقاذ أن تسلبنا هذا الإحساس بتمزيق السودان الى شمال وجنوب ، والبقيّة تأتي. من قال أن مُحاسبة النظام على ثقافتنا وإرثنا التاريخي وتشْكيلنا الوجداني وفناء الأرواح هو أمر تجاوزناه ، لا تتقادم جرائم مثل هذه ، ولن نقبل أن نكون أمة تعيش خارج إطار الزمن ، ونستكين الي مفاهيم صارت مُحنّطة ، وإلا يجب أن نقول على جنب يا أسطى ، وننزل عن الكرة الأرضية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة