كتب الكاتب و الباحث المغربي عبد الإله بقزيز في كتابه " في البدء كانت الثقافة" يقول ( علي امتداد التاريخ الإنساني، قامت بين المثقف و السياسة علاقات مختلفة من التضافر و التنافر، حمل عليها دائما التداخل الطبيعي الشديد بين الفاعلية الثقافية، و الفاعلية السياسية. إذ لم يكن صحيحا – دائما_ أن الثقافة نزعت إلي النظر فيما السياسة عنت و أردفت العمل) فالعلاقة رغم تداخلها بين المثقف و السياسي لطبيعة عملهم وسط المجتمع، لكن تظل هذه العلاقة مضطربة، و غير مستقرة، تتخللها دائما صراعات ظاهرة و مستترة، بسبب المحاولات المستمرة التي يقوم بها السياسي لإخضاع المثقف، ثم توظيفه، و هذه دائما تكون في ظروف و بيئة غير طبيعية، و من خلال هذه العلاقة المائعة و غير الثابتة و المستقرة، جاءت استقالة الأستاذ كمال الجزولي في زمن بسيط بين المؤتمر و بين الاستقالة، و هي استقالة حملت رؤية بين طياتها، لا تفطن لها العناصر التنفيذية لأنها دائما تنظر بعين واحدة، و لكن تكون النظرة أكثر استيعابا من قبل الذين يسهمون في قضايا الفكر و المعرفة، و الإنتاج الثقافي، فهي رغم بساطتها، و لكنها وضعت أصابعها علي أهم قضية. كيف يجب علينا إن كان في الحزب أو في غيره، احترام اللوائح التي نصنعها بأيدينا. يقول الأستاذ كمال الجزولي لصحيفة "سودان تربيون" في ختام حديث يرد فيه علي تعليق السكرتير السياسي للحزب الشيوعي علي الاستقالة، يقول ( أنا لست راغبا في الألقاب و المناصب، مثل لأن يقال عني عضو اللجنة المركزية و المكتب السياسي، هذا ليس مهما بالنسبة لي، المهم بالنسبة لي، أن أحترم نفسي و أمارس عمل حقيقي داخل اللجنة المركزية و داخل المكتب السياسي) الملاحظ في حديث الأستاذ كمال الجزولي عملية الثقة بالنفس، و التأكيد علي سلامة أدواته النضالية و المعرفية، باعتباره رجل متابع في منابر عديدة، و يحاكم علي ما يقول، لذلك يصبح الموقع ليس ذو أثرا أنما التقيد بشروط العمل، و هذا يرجع إلي إن مقدرات كمال الجزولي و موقعه الاجتماعي لم يصنعها تنظيما سياسيا، إنما اجتهادات ذاتية و مثابرته الخاصة، و هي ترجع لاحترامه لأدوات المعرفية و الإبداعية، و هنا يصبح الفارق بين المثقف و السياسي، إن مكانة المثقف في المجتمع ليس درجة تمنح من قبل مؤسسة أو حزب، أنما هي نظير مجهود و رغبة قوية من قبل الشخص للإطلاع و التحصيل المعرفي، و قراءة للواقع و كيفية التفاعل معه، إلي جانب مخزون الإبداع الذي يمتلكه و كيف يوظيف، هذا الفعل المتواصل و العطاء هو الذي يخلق الوضع الاجتماعي للمثقف. أما السياسي يحتاج إلي دفع و مساندة من قبل مؤسسة حزبية و سياسية أو سلطة لكي يجد له موطئ قدم في المجتمع، و هنا يصبح الفارق الكبير، فالسياسي بعد فقده للموقع سوف يتوارى و يختفي إذا لم يكن ذو مقدرات فكرية تجعله يتواصل في العطاء لكي يبقي في الساحة، و لكن إذا كان السياسي من مجموعة التنفيذيين الذين صعدوا إلي القمة، بسبب أمراض اجتماعية يمارسونها، سوف يختفون من الساحة تماما. سبب الأستاذ كمال الجزولي استقالته، بإشارة إلي تجاوز سكرتارية اللجنة المركزية الصلاحيات الممنوحة لها، و تعديها لحقوق المكتب السياسي، و اللجنة المركزية، و يعتقد إنها وراء قرار فصل خمسة أحزاب من تحالف المعارضة. هذه الإشارة تبين إن الأستاذ الجزولي يريد الكل يتقيد باللوائح. كان الرد سريعا من السيد محمد مختار الخطيب السكرتير السياسي للحزب حينما قال إن القضية التي دفعت كمال للاستقالة تأييده لبرنامج الهبوط الناعم. و يقول الجزولي إن السكرتير السياسي للحزب يحاول أن يصرف الأنظار عن القضية الأساسية. و هي طبعا التقيد باللوائح العمل. إن الذهاب مباشرة لرمي الاتهام هي ثقافة لا يستطيع السيد الخطيب التخلص منها، فالرجل ظل طوال عضويته في الحزب أن توكل إليه الأعمال التنفيذية، و هي أعمال ليس فيها من الفكر اجتهاد و لا تتطلب ثقافة واسعة، بقدر أن يكون مطيعا لرؤسائه، و لذلك يريد أن يتعامل بذات الأسلوب الذي كان يتعاملون به رؤساءه، فلماذا عندما وصل هو إلي قمة الهرم يريدون تغيير السياسة التي كانت مطبقة عشرات السنين، دون أن تكون هناك أي إرادة للتغيير. و هو السبب الذي جعل الحزب يتراجع عن أدواره، و فقد قدرته علي المبادرة. إن صراع الديمقراطية داخل المؤسسات السياسية سوف يأخذ مناحي و أشكال شتي، و هو صراع غير متكافئ بين مجموعتين مختلفتين، المثقفون الذين يقع عليهم الاجتهاد الفكري من أجل عملية الإصلاح و التغيير، و هي التي تعيد للحزب دوره و مكانته في المجتمع، و سياسيون غلب عليهم الطابع التنفيذي، يريدون فقط أن يفرضوا إرادتهم علي الآخرين. لذلك السيد السكرتير السياسي ليس لديه إجابة منطقية للأشياء التي طرحها الأستاذ كمال الجزولي، الأمر الذي جعله قد مال لكي يقدم ما عنده من ثقافة، فكان ما يملك هو الاتهام، و هي محاولة لا تحترم عقول المتابعين، و لا حتى عضوية الحزب، و المشكلة؛ إن الذين يشكلون طابورا خامسا للقيادة الاستالينية، هم أيضا من المتعلمين و يمثلون قوي حديثة، لكن البعض طائعا مختارا أراد أن يعطل العقل. إما رسالة الأستاذ كمال اعتقد إنها قد وصلت لكل ذي لب، و يستمر الصراع بين المثقف و السياسي يأخذ صورة شتي، و حتما أن المثقفين الديمقراطيين سوف ينتصروا لأنها معركة تخوضها قيادة سياسية تعطلت عندها القدرات و نضب الخيال، فهي سوف تكون أكثر ضررا علي الحزب. و نسأل الله حسن البصيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة