|
عطّـار الجـزيرة
|
كان مشروع الجزيرة، الذي أنشيء عام 1925م ليمتد علي مساحة2,2 مليون فدان، ركيزة مستدامة ومستقرة للزراعة في البلاد،ومصدرا أساسيا للدخل القومي رغم أن موارده لم توظف بالطريقة المثلى، وكان يوفر فرص العمل الدائم والموسمي للناس من مناطق أخرى خارج الجزيرة، وكان أيضا يستغل أكثر من 40% من حصة السودان من مياه النيل، ويعتبر مشروعا حضاريا حقيقيا قائما بذاته وقيمة اقتصادية وقومية يندر وجودها وجودها في بلدان العالم الثالث. مشروع الجزيرة والسكة الحديد والخدمة المدنية وجامعة الخرطوم ونظام الحكم المحلي وغيرها من الموروثات الخيرة الفارقة التي ورثتها البلاد بعد الإستقلال. ثم جرت مياه كثيرة تحت وفوق الجسور، بل ونسفت الجسور نفسها في مشروع الجزيرة. فكّكت منشآت الري، وحلّت المؤسات التنظيمية، وغيّرت الأطر الإدارية، وصفّيت الوحدات الخدمية، وأضيعت النظم الإنتاجية، وشرّدت الكوادر الفنية والهندسية والإدارية،وغدا مشروع الجزيرة قاعا صفصفا وأثرا بعد عين. ولأن الخراب دائما أسهل من التعمير، فإن ما تم بناؤه في ثمانين سنة،تم الإجهاز عليه بسرعة قياسية بعد إنفاذ قانون مشروع الجزيرة الجديدة لعام 2005م،وبإتقان تام لا يقدر عليه أعدى الأعداء. اختفى مشروع الجزيرة تماما من خارطة الدخل القومي، مثلما اختفت أشياء أخري كثيرة وجميلة غيره في الجزيرة وفي كل الوطن بفعل أبناء نفس الوطن. بلغ بؤس الحال بمشروع الجزيرة أن مذيعا مصريا شهيرا كان يدعو قبل سنوات قليلة في برنامج تلفزيوني مفتوح عبر قناة فضائية مصرية شهيرة هي الأخرى، كان يدعو الشباب المصري للتوجه جنوبا حيث فرص الحياة والزراعة بدلا من مخاطر عبور البحر الأبيض المتوسط للمجهول. كان المذيع الشهير يتحدث عن الجزيرة بوجه خاص حيث الأراضي الخصبة المعروضة للإستثمار بأسعار رمزية والري الإنسيابي والنيل الأزرق والنيل الابيض،وكأنما الجزيرة قد أصبحت خالية من البشر، أو أن أراضيها أصبحت جائزة لكل مغامر مثل أراضي الهنود الحمر في أزمنة قديمة. ولأن (الجمرة تحرق الواطيها) أكثر من الواقف على الرصيف، فقد تداعى أبناء الجزيرة في يوم 22 ابريل 2014 ليكونوا كيانا موحدا يحمل اسم (حراك أبناء الجزيرة الموحد للتغيير والتنمية) ينطلق من أهداف قومية وطنية (بعيدا عن كل عنف أو فوضى باسلوب حضاري يشبه الجزيرة وأهلها) كما يقول بيانهم، بهدف إصلاح مشروع الجزيرة وإعادة إعماره عبر "خارطة طريق" تستصحب معها الرؤى المستقبلية للجنة التي شكلتها رئاسة الجمهورية من قبل لدراسة إعادة تأهيل مشروع الجزيرة، ومن هذه الرؤى إلغاء قانون مشروع الجزيرة لعام 2005 وتكليف بيت خبرة سوداني بالإشتراك مع بيت خبرة خارجي لإعداد دراسة متكاملة لإعمار المشروع بكل مكوناته تعرض على مؤسسات التمويل الإقليمية والعالمية بغرض تمويله. ما طرحه حراك أبناء الجزيرة الموحد للتغيير والتنمية أمر طيب ومشروع عمل وطني مخلص لسنوات طويلة قادمة، بعضه ممكن والبعض الآخر دونه خرط القتاد. من بين أهداف الحراك الجميلة ومستحيلة (المساهمة في الدفع بكوادر مخلصة وأمينة تمتاز بالنزاهة والاستقامة والاستقلالية والكفاءة لقيادة مؤسسات الولاية والمشروع والنأي بها عن الصراعات التي تضر بها). هذه أمنية عزيزة يصعب تحقيقها في ظل ثقافة التمكين التي تقدم الولاء على النزاهة والاستقامة والكفاءة، وهي مشكلة عامة يعاني منها كل الوطن وليست الجزيرة وحدها. أما هدف التحقيق في التجاوزات والمخالفات في إجراءات التصرف في ممتلكات وأصول المشروع والإجراءات المصاحبة والمسهلة لتلك التجاوزات، ومن بينها اختفاء خطوط سكك حديدية كاملة بطول 1200 كيلومتر، بل ومسح الأصول تماما من سجلات المشروع، فذلك أمر لا تتوفر منظومة الآليات والظروف التي تساعد علي تحقيقه،قياسا بتجارب سابقة ومعاصرة، وقد ينتهي في أحسن الفروض إلى "التحلل". حراك أبناء الجزيرة الموحد للتغيير والتنمية بريادته التي تعلو على الانتماءات والتوجهات السياسية،وحيويته التي صاحبت انطلاقته، وشمولية أهدافه التي تعبر عن تطلعات وأشواق مواطن الجزيرة،لا بد أن يكون جاذبا لمساع نشطة وممنهجة لتجييره لصالح رؤية سياسية معينة،أو توجيهه وجهة مغايرة للأهداف التي قام من أجلها. مثل هذه المحاولات طبيعية ومتوقعة، لكنها لو نجحت فإنها غالبا ما تكون أقصر الطرق لوأد فكرة الحراك في مهدها.لكن على الجانب الآخر نجد أن القائمين على هذا الحراك الحضاري، وعلى رأسهم رئيس اللجنة التمهيدية المهندس عمر يوسف محمد الأمين، بكل ثرائه المهني والخلقي والاجتماعي، يبعثون جميعهم على التفاؤل بإمكانية تجاوز هذه العقبات والتحديات التي ستبرز في المستقبل. فهل يصلح عطّار الجزيرة في نهاية الأمر ما أفسده الدهر؟ (عبدالله علقم) [email protected]
|
|
|
|
|
|