(كلام عابر)قرأت مؤخرا كتاب مذكرات الراحلة الدكتورة وانقاري موتا ماثاي الكينية (عصية على الانكسار) الشيق،الذي اقتنيته من إحدى مكتبات نيروبي، وهو أفضل ما خرجت به من تلك الزيارة التعيسة. أما المؤلفة فتختزن ذاكرتي لقاء صحفيا أجريته معها في مكتبها في مقر الاتحاد النسائي الكيني عام 1981 في نيروبي،وكانت وقتها في بداية معاركها المباشرة مع حكومة الرئيس دانيال أراب موي مما جعل الصحافة تطلق عليها لقب"المرأة الحديدية"، وكنت في ذلك الوقت متعاونا مع طيبة الذكر مجلة الاذاعة والتلفزيون ومراسلا لها من نيروبي(بدون أجر)، فأرسلت الحوار للنشر في المجلة، فلم يرق ما جاء فيه لادارة المجلة البائسة التي خلفت أخي الدكتور عبدالله جلاب، ولم يجد طريقه للنشر، وللأسف لم احتفظ بنسخة من ذلك الحوار النادر. تستعرض الكاتبة التي ولدت عام 1940 طفولتها الريفية البائسة في قريتها ايهيتي، منطقة نييري، وسط كينيا، وارتباطها وتعلقها منذ صغرها بالأرض والنبات والحيوان وحكايات الحبوبات وموروث قبائل الكيكويو الثقافي ومراحل تعليمها في المدراس الكنسية في كينيا،حيث كانت في المرحلة الابتدائية تسير كيلومترات للمدرسة، وتطرقت لأول تجربة اعتقال لها أيام ثورة الماوماو الشهيرة وهي ما زالت طالبة صغيرة. تلقت تعليمها الجامعي وفوق الجامعي في أمريكا فيما بعد حيث نالت درجة بكالريوس العلوم وماجستير في العلوم الحيوية ونالت من جامعة نيروبي دكتوراة في التشريح البيطري، وكانت أول امرأة في شرق ووسط أفريقيا تحصل على درجة الدكتوراة. القضايا الكبيرة التي كانت محور حياتها كلها كانت قضايا المرأة الكينية والبيئة، فرأست المجلس القومي للمرأة الكينية( 1981- 1987)، وأسست حركة الحزام الأخضر التي زرعت أكثر من 45 مليون شجرة في كينيا وأفريقيا منذ عام 1977،وساعدت أكثر من تسعمائة ألف امرأة على إنشاء مشاتل للأشجار، وشجعت هذه الحركة النساء الريفيات على غرس الأشجار لتحسين حياتهن من خلال الحصول على الماء النظيف وحطب الوقود والموارد الأخرى،وحولت الحركة لمناهضة الاستيلاء على الاراضي والتخصيص غير القانوني للغابات. تقول المؤلفة التي استطاعت أن تربط بين حقوق الانسان والفقر وحماية البيئة والأمن،"تعلمت على مر السنين أن نتحلى بالصبر ونتمسك بالاصرار والالتزام، وحين نزرع أشجارا يقول الناس أحيانا "لا أريد زراعة هذه الشجرة لأنها لن تكب بالسرعة الكافية" ,اذكر الناس أن الاشجار التي يقطعونها اليوم لم تتم زراعتها من جانبهم، ولكن على أيدي من جاؤوا قبلهم، لذا فعليهم أن يزرعوا الأشجار التي ستستفيد منها المجتمعات المستقبلية" وفي مسيرتها هذه اصطدمت بالسلطة بعنف،وفصلت من وظيفتها في الجامعة،وأصبحت ضيفة دائمة على أقسام الشرطة والمعتقلات،ولكن بالمقابل أصبحت شخصية عالمية لها حضور قوي في منظمات حماية البيئة في العام،وصلات واسعة وسط صناع القرار في بريطانيا وامريكا وباقي الدول المانحة لكينيا،وهذه الأخيرة حفظت حياتها من الإغتيال وحوادث السير المفتعلة.تقول المرأة الحديدية انها كانت تتحدى الخوف "اذا لم تنظر للخطر ونظرت للحل فقط، يمكنك أن تتحدى أي شخص وتبدو قويا وشجاعا". وبعد محاولتين انتخابيتين فاشلتين، أصبحت وانقاري عضوا في البرلمان الكيني عام 2002م ضمن تحالف قوس قزح المعارض الذي فاز على الاتحاد الوطني الكيني،وهو الحزب الواحد الذي ظل ممسكا بالحكم منذ الاستقلال، وحققت وانقاري فوزا خرافيا غير مسبوق في الانتخابات الديمقراطية الحرة في كل العالم، إذ حصدت 98% من أصوات الناخبين في أول انتخابات حرة تجري في كينيا منذ استقلالها،وكرمها الرئيس الكيني مواي كيباكي الذي خلف الرئيس موي فعينها نائبة لوزير البيئة، وكرمها العالم كله حينما حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 2004 "بسبب اسهاماتها من أجل التنمية المستدامة والديمقراطية والسلام،فالسلام على الأرض يتوقف على قدرتنا على حمايىة بيئتنا الحية"، وكانت أول امرأة أفريقية تنال هذا الشرف. وقد قالت لجنة نوبل المؤلفة من خمسة أعضاء في اكتوبر 2004 في هذا الصدد أن ماثاي "تجمع بين العلم والالتزام الاجتماعي والسياسات النشطة. ويتجاوز هدف استراتيجيتها حماية البيئة القائمة إلى تأمين وتعزيز قواعد التنمية البيئية المستدامة". وقالت أن"وانقاري ماثاي تمثل نموذجا ومصدرا للالهام لكل شخص في أفريقيا يناضل من أجل التنمية الدائمة والديمقراطية والسلام"، وكانت لحظة ابلاغها بالفوز بجائزة نوبل في زيارة لدائرتها الانتخابيبة، فانهمرت دموع الفرح العظيم في لحظة تاريخية مختلفة وهي تقف في مواجهة جبل كينيا مصدر الهامها وكفاحها.تناولت الكاتبة قضية التعايش بين مكونات المجتمعات الأفريقية التي وجدت نفسها داخل حدود ادارية صنعها الاستعمار، فتقول"لدينا لغاتنا وتقاليدنا وأغذيتنا ورقصاتنا وثقافتنا وحضارتنا. في أواخر القرن التاسع عشر غزتنا قوة كبرى بمقوماتها وكونت منا أمة واحدة. لا نستطيع اغفال حقيقة التاريخ هذه.وجودنا في بلد واحد لا يعني أننا متشابهون،علينا أن نقبل بأن هذا التجمع مصيره التقسيم أو الدمار إن لم نركز على ما يجمعنا ويمكننا من التعاون والاحترام المتبادل. نحتاج لاحترام الماضي والتطلع للمستقبل، وبهذه الطريقة يمكننا خلق فكرة الأمة بوعي".حمل غلاف الكتاب تعليق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون "إن ذكريات وانقاري ماثاي سرد كتابي مباشر صادق وجميل لكفاح وانتصارات افريقيا،وهي قصة عالمية للشجاعة والعزيمة وانتصار على التحديات الكبيرة من أجل هدف نبيل".وعلق الكاتب الكيني العالمي نقوقي وا ثيونقو "إن قصة وانقاري ماثاي هي أكثر من مجرد نضال امرأة، هي قصة كينيا وأفريقيا والعالم بأكمله.إن حياتها هي قصة انتصار الخير على الشر". قبل الختام:• عنوان الكتاب الصادر باللغة الانجليزية (Unbowed) ..وقد ترجمت العنوان باجتهاد شخصي إلى (عصية على الانكسار).• في 25 سبتمبر 2011م لفظت المرأة الحديدية وانقاري ماثاي (أم الأرض)،التي أحمل اعجابا غير محدود لها، لفظت أنفاسها الأخيرة في مستشفى (نيروبي هوسبيتال)، بعد أن هزمها مرض السرطان. نعتها الأمم المتحدة على لسان أمينها العام بان كي مون بقوله"رحيلها خسارة لكينيا والعالم،فقد كانت بطلة عالمية لحقوق الانسان وتمكين النساء".عبدالله علقم[email protected]أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة