|
طهران- الرياض: عن الحوار الذي لا يريدونه/العرب محمد قواص
|
في اتفاق الطرفين على عدم جهوزيتهما لخوض غمار حوار جدي، فإن ظواهر الأمور قد تستمر بالإيحاء للعالم، بانسحاب فلسفة التفاوض الدولي على ذلك الإقليمي. العرب محمد قواص [نُشر في 06/06/2014، العدد: 9581، ص(9)] تتلقى طهران بغتة بدعة «المفاوضات» التي أعلن وزير الخارجية السعودي عنها مع إيران بشيء من التحفظ والبرودة الأقرب إلى نزق وضيق. تتقصدُ النخبة الإيرانية الحاكمة عدم إظهار أي اندفاع بشأن الاتفاق مع الجيران في الخليج (لاسيما السعودية)، وتضع الأمر ضمن أعراف دبلوماسية بروتوكولية صرفة. يتراجعُ وزير الخارجية الإيراني عن همّة وعزم لطالما جال العالم يبشّر بهما في زعم طرق أبواب الرياض الموصدة دون مجيب. شيء ما لا يروق لإيران في ورشة التفاوض المحتملة مع السعودية. تُسرّب مصادر دبلوماسية أن الرئيس الأميركي حين زار الرياض جهد في طمأنة السعوديين وتهدئة مخاوفهم من مقاربات التفاوض والتسويات الجارية مع إيران. لكن في تلك الزيارة فهم السعوديين جدية تلك المقاربات واستحالة تقويضها، دون أن يغيّر ذلك من مزاج السعودية السلبي إزاء الأمر، ودون أن يلين موقف الرياض إزاء مسألة الحوار مع طهران.
وتُسرّب نفسُ المصادر أن انتقال السعودية من رفض الحوار مع طهران إلى قبوله كان يحتاج إلى صفقة ما توافق عليها واشنطن ثمنا لانخراطها في ديناميات ما بدأه الأميركيون في مسقط، وهم بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليه. تمّت تلك الصفقة على ما يبدو حين تأكدت الرياض من أن لقاء جمع الرئيس الأميركي برئيس الائتلاف السوري المعارض أحمد الجربا. بعدها، وبصورة عجائبية، أجاب سعود الفيصل على سؤال غير بريء حول العلاقة مع إيران، معلنا توجيه دعوة لنظيره الإيراني جواد ظريف.
من سياق ما تسرّبه الصحافة السعودية، يتضحُ أن كأس الحوار المرّ مع طهران عسير الهضم على النخب السعودية. كثيرة هي الأصوات التي تعلو محذّرة من تلك المقاربة مشكّكة في نجاعة توقيتها، وقليلة هي الأصوات التي تنصحُ بها، وتقلّل من خطر إيران على السعودية. ومن سياق ما تسرّب من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، أو ما عكسته صحافة طهران ما يشي بأن أمر التقارب مع الرياض، على تعقّده، ليس أولوية ولا إنجازا إيجابيا بالإمكان التعويل عليه.
في تفاصيل الاستقبال الذي خصصته طهران لأمير الكويت الشيخ صباح أحمد الصباح ما يحشرُ الأمر في إطار العلاقات الثنائية (خرجت أصواتٌ في إيران تذكّر بموقف الكويت المعادي لإيران أثناء حربها مع العراق). تجنبت التلفزة الإيرانية الرئيسية، التابعة للمرشد، المبالغة في تغطية فعاليات الزيارة. تركّزت الأنباء على توقيع الاتفاقات، وأهملت الشقّ الأساسي المتعلق بالوساطة التي يقوم بها أمير الكويت لتسهيل الحوار ما بين الخليجيين عامة والسعودية خاصة (تترأس الكويت مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية). وفيما نوّه وزير الخارجية جواد ظريف، بروتوكوليا، بأهمية الزيارة وعلاقة بلاده مع الكويت، انتظر، بغرابة، هذه المناسبة ليتذكّر أن مواعيد التفاوض الدولي المقبل في فيينا ستمنعه من تلبية دعوة الرياض لحضور اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في جدة.
هذه رسالةُ طهران إلى الرياض بشأن انفتاحها المتأخر، وفق تلميحات إيرانية، على آلية الحوار. لكن الرسائل الإيرانية تتالت وتزاحمت في شؤون تتعلق بملفات الخلاف مع السعودية. انتشرت صور رئيس الوزراء العراقي المقرب من طهران في بيروت، وخرج أمين عام حزب الله يعلن أن المقاومة لا تحتاج إلى رئيس يحميها لأنها حامية الرئيس والبلد، وتحرك الحوثيون بشكل صاعق باتجاه صنعاء في اليمن، وكادت حماس (التي أعادت حرارة علاقاتها مع إيران) أن تطيح في اللحظات الأخيرة بتشكيلة حكومة المصالحة، وأعلن وزير الخارجية الإيراني أن الانتخابات الرئاسية السورية طريق للحل في سوريا.
نشّطت طهران ألغامها في كافة الملفات الساخنة. أعادت التذكير بهيمنتها وتنامي نفوذها في ميدان يمتد من شمال اليمن وانتهاء بشواطئ لبنان وما بينهما. أبلغ الإيرانيون الرياض من خلال تلك التفاصيل المتلاحقة المتراكمة أنهم سبّاقون للإمساك بزمام المبادرة ميدانيا، وأن شروط “المفاوضات” التي أعلنها الفيصل يجب أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار. هذه مقاربة طهران الظاهرة، والتي تتقدم دون أن يتسربَ في شأنها تناقضٌ بين فريقيْ الرئيس والمرشد.
في مقابل ذلك، تتنامى القناعات في الرياض بعقم جدية هذا الحوار. فطهران التي توشك على توقيع اتفاق نهائي مع المجتمع الدولي (من خلال مجموعة الـ5 + 1) بشأن برنامجها النووي، تنتظرُ أن تطلَّ على المنطقة قوية متحررة من العقوبات الدولية عائدةً بقوة إلى السوق النفطي مُجبرةَ منظمة “الأوبيك” على تعديل حصصها لصالح تلك العودة. تشعرُ طهران بتفوَقها في ملفات المنطقة ما يجعلها “شريكا” محتملا مع الغرب بقيادة واشنطن في المنطقة. في تلك الفوقية ما يفسّر عدم عجلة طهران وتأنيها في ضبط إيقاع الحوار مع الجيران، وتأملها في سوقهم باتجاه الإقرار بأوراقها (نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني، العميد حسين سلامي، قال إنه بات من المستحيل إجراء أي توازن أمني أو سياسي في الدول الإسلامية دون الحصول على موافقة إيران، كما اعتبر أن ثورة الخميني “تماثل بعثة النبي”).
يروي عبدالحليم خدام قبل أيام أن علي أكبر هاشمي رفسنجاني حين كان رئيسا لمجلس برلمان الثورة الإيرانية زار دمشق أثناء الحرب ضد العراق، وأبلغ حافظ الأسد بعد مداولات أنه “إذا انتصرت إيران فستصبح المنطقة كلها أرضا واحدة ودولة واحدة من أفغانستان، وحتى البحر المتوسط”. ولا يبدو أن أمرَ ذلك قد تغيّر مذاك، وبالتالي فلا مصلحة لإيران بتسويات تفقدها الهيمنة المأمولة. وإذا ما كانت المصادرُ الإيرانية (أحدها عضو الهيئة الرئاسية للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني محمد حسن آصفري) تعتبر أن قبول الرياض بالتفاوض يعود إلى تراجع السعودية وسياساتها، فإن طهران تمهّدُ الطريق لتقديم الحجج وتدبير البراهين لتحميل الرياض مسؤولية تعثّره. تُسرّب مصادرها أن الحسابات الداخلية السعودية تدفعُ سعود الفيصل إلى التصلّب في موضوع العلاقة مع إيران تجنبا لسحب ذلك الملف من يده، كما حصل حين انتقلت ملفات عديدة من يد إلى أخرى كمآل طبيعي للتشكيلات والتعيينات التي أقرها مؤخرا ملك البلاد. وتزعم المصادر الإيرانية أن دعوة الفيصل لظريف أتت للالتفاف على قناة اتصال فُتحت بين نجل الملك عبدالعزيز (معاون الوزير الفيصل) وأمير عبداللهيان (مساعد وزير الخارجية الإيراني).
ترى مراجع إيرانية أن دعوة وزير خارجية السعودية لنظيره الإيراني أتت بروتوكولية تُرسل لكافة وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي، أي أنها لا تفتحُ مساراً استثنائيا بإمكانه التعبير عن تبدّل مفصلي في مزاج الرياض. ولئن كانت التسريبات الإيرانية المتحفّظة تهدفُ إلى التقليل من أهمية الإعلان السعودي، فإن الرياضَ بدورها لا تبدو مستعجلة وترسل عبر صحافتها رسائل التردد والتحفظ وحتى مقت هذا الخيار (من الجدير ترقب التشكيلة الإقليمية المحتملة التي ستقودها الرياض والقاهرة).
في اتفاق الطرفين على عدم جهوزيتهما لخوض غمار حوار جديّ، فإن ظواهرَ الأمور قد تستمر بالإيحاء للعالم، على ما تتمنى مداولات جنيف الإيرانية، بانسحاب فلسفة التفاوض الدولي على ذلك الإقليمي. لن تجاهرَ طهران برفض الحوار كما لن تفعل ذلك الرياض، وسيستمرُ استخدام أدوات أخرى (تلمح أوساط الحرس الثوري إلى وقوف الرياض وراء اجتماع الجربا برئيسة مجاهدي خلق في باريس)، بعضها معروف وبعدها مستجد، للاستمرار في السجال في كافة القضايا، وعلى مساحة كافة الميادين.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
|
|
|
|
|
|