كان من بين ما اقتنيت من كتب مؤخراً كتاب «السنهوري من خلال أوراقه الشخصية» وهو من إعداد إبنته الوحيدة بل ومولوده الوحيد «نادية» وزوجها توفيق الشاوي. الكتاب عبارة عن مجموعة مذكرات وأفكار وآراء وخواطر وتأملات حررها السنهوري بخط يده في تواريخ وبلاد ومدن مختلفة. وقد وصفت هذه الأوراق بأنها صادقة لأنها كانت حديثاً مع نفسه هو لا مع الناس. فهو لم يقصد نشرها أو أن يطلع عليها غيره. ويجد القارئ ضمن هذه الأوراق ترجمة السنهوري عن الفرنسية لمدح الشاعر المسيحي لامارتين للمصطفى صلى الله عليه وسلم والذي يعد موازياً لمدح البوصيري والبرعي. ورد في إحدى مقاطع مدح لامارتين: «هذه الرسالة العظيمة تحققت في وقت قصير مع قلة الإمكانات وعظمة النتائج. وهذه العناصر الثلاثة تُقاس بها عبقرية هذا الرجل. فمن ذلك الذي يجرؤ على أن يقارن من الوجهة الانسانية أي شخصية تاريخية عصرية بمحمد (صلى الله عليه وسلم)؟ إن المشهورين منهم إذا كانوا جيّشوا جيوشاً أو وضعوا قوانين أو أسسوا إمبراطوريات إذا أنهم أنشأوا شيئاً، فإن ما أنشأوه قد سقط بسقوطهم». تقلد السنهوري وظائف التدريس في الجامعة والقضاء في المحاكم ورفد المكتبة القانونية بمؤلفات موسوعية أشهرها «الوسيط في شرح القانون المدني» و«مصادر الحق في الفقه الإسلامي». كما كلفته العديد من دول الوطن العربي بوضع دساتيرها وقوانينها المدنية. تولى منصب وزير المعارف العمومية في عام 1945 وحتى عام 1949 وهو العام الذي عُين فيه رئيساً لمجلس الدولة المصري. تعرض في مارس 1954 وهو في مقر عمله بالمجلس إلى اعتداء غاشم تم بتدبير حكومي كاد أن يورده الردى. ويبدو أن حكومة ثورة 23 يوليو لم تكن راضية عن مناداته بالعودة إلى الحكم المدني. ورصدت له لقاءً مع عبدالحكيم عابدين رئيس مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين. ويذكر في بعض المصادر أن هذه الجماعة كانت تطالب أيضاً بعودة الجيش إلى ثكناته وإعادة الحياة النيابية. ومعلوم أن تلك الجماعة لم يشملها قانون حل الأحزاب المصرية، وظلت قائمة إلى أن حُظرت بعد حادث ميدان المنشية بالإسكندرية في أكتوبر 1954. بعد خروجه من المستشفى الذي كان يعالج فيه مما لحق به من إصابات كان أول مذكرة سجلها في 15 مايو 1954 دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف، وبيتاً من قصيدة رثى فيها أحمد شوقي قامة قانونية أخرى هو أحمد أبو الفتوح. والبيت هو: يا أحمد القانون بعدك غامض قلــق البنــود مجلـل بسـواد ولكنه ظل صامداً في رفضه الشمولية والنظام الديكتاتوري. فبعد هزيمة 1967 كتب في 19 يونيو 1967: «هناك من التجار من يتعمد إحراق متجره حتى لا ينكشف إفلاسه، فهل ترى هذا التاجر هو الذي علَّم رجال السياسة بعض أساليب العمل؟! وكتب في 17 يوليو 1967 عن الاستفتاءات التي تعقدها النظم الديكتاتورية لتلفيق شرعيتها فقال: «هنيئاً لحكومتنا المظفرة، إنها دائماً على الحق، وهي دائماً تكسب الرهان، لا ينزل في حلبة السباق إلا حصان واحد، وهي تراهن على هذا الحصان». وسجل في 18 يوليو 1967 نقداً لاذعاً للشمولية قال فيه: «نحن أمة فذة، ثلاثون مليوناً من البشر، ينظرون جميعاً بنفس العين، ويسمعون جميعاً بنفس الأذن، ويتكلمون جميعاً بنفس اللسان». سجل السنهوري كذلك في أوراقه أشواقه للحرية وسيادة القانون. فقال في 19 أغسطس 1954: «الحرية كالصحة من أكبر نعم الله، ولكن الإنسان لا يقدرها حق قدرها إلا بعد أن تزول». وذكر في 29 إبريل 1958 أنه يحلم «بعالم بشري موحد يقوم على سيادة العقل وعلى سيادة القانون».
علاقة السنهوري بالسودان 1- ورد في الوثائق البريطانية أن أكبر عامل في دخول الشيوعية إلى السودان كان البعثات التي كانت تمنحها الحكومة المصرية للطلاب السودانيين للدراسة في الجامعات المصرية. وقد بدأت تلك البعثات بزيارة عبدالرزاق السنهوري وزير المعارف العمومية إلى السودان في عام 1946 لافتتاح مدرسة فاروق الثانوية (مقر جامعة النيلين الحالي). ومنذ ذلك التاريخ أصبحت تُعرف ببعثة السنهوري. زار السنهوري كذلك معهد التربية ببخت الرضا، وافتتح مدرسة ابتدائية مصرية في مدينة ملكال. لا غرابه إذن في أن معظم مؤسسي الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) كانوا ممن حصلوا على بعثة السنهوري أو تلقوا الدراسة الجامعية في مصر بترتيب آخر. وكانوا ضمن هؤلاء عبدالخالق محجوب، وأحمد سليمان، والتيجاني الطيب بابكر، والجنيد علي عمر، وأحمد خوجلي محمد خير، وعبدالغفار عبدالرحيم، وعز الدين علي عامر، وعبدالرحمن عبدالرحيم عثمان (الوسيلة)، وعبدالوهاب زين العابدين عبدالتام، وعبدالماجد أبو حسبو، ومحمد أمين حسين. وتذكر الوثائق البريطانية أن انتشار الشيوعية بين الطلبة السودانيين في مصر تزايد بسرعة شديدة في عام 1947 وأن الطلاب الشيوعيين إستطاعوا السيطرة على اتحاد الطلبة السودانيين في مصر وانخرطوا في النشاط السياسي هناك. وفي عام 1948 وتاريخ مبكر من عام 1949 قامت سلطات الأمن المصرية بموجب قانون الأحكام العرفية بحملة تفتيش واعتقالات واسعة في صفوف الطلبة. وقد شملت تلك الحملة الطلاب السودانيين فتعرض بعضهم للسجن والفصل من الجامعة والحجز في معسكر الهيكستب، والإبعاد إلى السودان. وحري بالذكر ان الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) لفتت نظر حكومة السودان إليها لأول مرة في سبتمبر 1947. ففي ذلك التاريخ وزعت الحركة منشورات ممهورة بإسمها في مدينة عطبرة مقر رئاسة السكة الحديد تحض العمال على الاضراب. ويذكر أيضاً أنه قبل ذلك التاريخ انخرطت بعض كوادر (حستو) كيسار في بعض الاحزاب الإتحادية. وقد كان ذلك بتأثير قوي في حزب الأحرار الاتحاديين الذي إنضم إليه حسن الطاهر زروق وحسن سلامة وكذلك في شباب حزب الاتحاديين. 2- في 22 اكتوبر 1952 بدأت المفاوضات في القاهرة بين وفد إستقلالي برئاسة عبدالله الفاضل المهدي وجانب مصري برئاسة محمد نجيب. وكان بضمن الجانب المصري عبدالرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة. في هذا الإجتماع فجر السنهوري أزمة كادت تقضي على المفاوضات في يومها الأول وتعجل بعودة الوفد الاستقلالي إلى الخرطوم. وبما أن السنهوري سجل في أوراقه مذكرة بشأن هذا الاجتماع بتاريخ أول نوفمبر 1952 فسنرجئ الخوض في تفاصيل ما حدث في هذا الاجتماع إلى الحلقة الثانية من هذا المقال. 3- عندما كُلف الدكتور السنهوري في ستينيات القرن الماضي بوضع مسودة دستور دائم للإمارات العربية المتحدة إختار الدكتور الترابي مساعداً له. غني عن الذكر أن الدكتور الترابي كان يعد آنذاك من أفضل فقهاء القانون الدستوري في العالم العربي هذا ان لم يكن أفضلهم على الإطلاق. لهذا الغرض أعد الترابي في أول اكتوبر 1968 مذكرة استيضاحية رصينة تتعلق بالمسودة. وقد أثبتها رياض الريس في كتابه «وثائق الخليج العربي 1968-1971». إنني أدعو العاملين والدارسين في مجال القانون الدستوري وبوجه خاص الحكم الفيدرالي الإطلاع عليها لفائدتها العلمية والعملية. توقف عمل الترابي في المشروع بعد الاستغناء عن خدمات السنهوري بسبب ظروفه الصحية وحظر السفر خارج مصر الذي كان مفروضاً عليه من قبل النظام المصري. قد لا يعلم البعض أن الدكتور الترابي إبان فترة عمله بكلية الحقوق بجامعة الخرطوم درّس مادة القانون الدستوري، فحاضر عن سيادة القانون وفصل السلطات الثلاث والحقوق والحريات الأساسية. كما فتح أعين طلابه على كتاب الفقيه الانجليزي أُستن دايسي «حكم القانون» وعلى كتاب «روح الشرائع» لمونتسكيو أحد فلاسفة عصر التنوير. نادى مونتسكيو بفصل سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية والحفاظ على التوازن بينها حتى لا يصبح الحكم إستبدادياً أو فردياً. لذلك كان صادماً لي ولكثيرين غيري من طلابه، أن أستاذنا الترابي إختار الانقلاب العسكري على النظام الدستوري القائم لانجاز مشروعه السياسي. وقد أثبت الواقع فشل المشروع. أياً كان الأمر فهو الآن بين يدى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ولا نملك إلا أن ندعو له بالرحمة والمغفرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة