|
شئ من قريب الله محمد حامد الانصاري بقلم شريف الدشوني
|
يرتجي الناس ان يقوم إمام ناطق بالحق في الكتيبة الخرساء كذب الظن لاإمام سوي العق ل منيرا في صبحه و المساء فاذا ما اطعته جلب الرحم ة عند المسير و الارساء أبو العلاء المعرّي رنّ جرس الموبايل باكرا في يوم من ايام الاسبوع و انا اقف امام كشك الجرائد في طريقي الي جامعة أدرمان الاهلية " أهلا عبد القادر" يا ساتر يا رب ! قلتها هامسا و دقات قلبي تتسارع . فانا مصاب بالهلع من تلفونات الصباح المبكّرة . " صباح الخير" ردّ الصديق العزيز عبد القادر الرفاعي " البركة في الجميع .اخونا قريب الله محمد حامد الانصاري توفي". هكذا مرة واحدة فجرّها عبد القادر في صوتٍ باكٍ يتكسّر . يا إله السماء ! نعم ؟ّ! تكذيب لا شعوري أو غضب عفوي إجتاح صدري. "نعم" , اكدّ عبد القادر ما سبق ان قاله في صوت جاء كلمة وراء كلمة في بطء حزين مخنوق , يقطر الماً. طاح عقلي من هول الخبر الصاعقة . من بين كل الناس .. قريب الله !؟ هذا الذي لم أر في حياتي كلها انساناً يحب الحياة مثله , و ان لم يكن قط في تكالب عليها ! جاطت الدنيا في راسي . رجعت الي منزلي و الهواجس المبهمة تعربد في خواطري هبوطاً و ارتفاعاً . - علمت بعدها ان الخبر المشئوم كان قد وصل صديق الكل محمد نور السيد . هذا الانسان الرائع . فاتصل هو بدوره بالصديق المشترك عبد القادر الرفاعي يبلغه الخبر و يسأله ان يعلمني ؛ لأنه لم يستطع بنفسه . بالفعل كان أخونا و صديقنا محمد نور يطفح بالحزن و الالم الجارح. في حالة شبيهة بالانهيار . انزعجت كثيراً من مضاعفاتها. عدّت و الحمد لله . و الان يطلب مني اخوان ,صديقان, عزيزان , هما احمد عبد المجيد و ابوزيد محمد صالح الكتابة عنك يا قريب الله !! دنيا! ما عساي ان أقول او اكتب ؟! ما اصعب هذه المهمة و أشقاها ! و لكن عليّ ان اكتب . نعم عليّ ان اكتب مهما تبدو استحالة الامر . و ها انا ذا احاول , في تشتت , جمع ما شاهدته و عايشته في قريب الله من خصال / طباع شخصية , بحكم صلاتي الأخوية به سنين عديدة. هذه الخصال , الطبائع , قد عجنته لتكوّن منه مزيجاً مثالا فريدا في فن الإدارة , التدريس و المعاملة الحسنة بين الاخرين في شتي مناحي الحياة : الاقتصادية, الاجتماعية , الثقافية و السياسية . ما احاول كتابته الان هي رؤوس مواضيع ليست لإنطباعات لديّ شخصية , إنما نتيجةً لتجاربي المُعاشة مع قريب الله .. خصال يقّرّها الكثيرون من الناس خارج دائرة الاصدقاء .فقريب الله ينتمي _بحق مكتسب _ الي دائرة عظماء السودان . فهو يستحق بجدارة ان تتم دراسة و تقييم سيرته الذاتية علي مستوي الدراسات العليا . هكذا اصيغ في اختصار رؤوس مواضيع , متداخلة بطبعها , قليلا مما شاهدت و عاصرت شخصيا في قريب الله من خصال , لعل في ذلك الاستفادة لنا جميعاً : 1)كان دائما لا يتحدث إلاّ بعد أن يكون قدْ فكّر جيدا في الأمر المطروح للنقاش و المداولة. بمعني , يذهب دائماً إلي ما وراء الظواهر ليري اسبابها . و عندما يصل الي حقيقة الأسباب و ملابساتها يتنبأ. ذلك لأن نتائج هذه الأسباب تبدو له أكثر وضوحا .لهذا كانت نظرته او رأيه أقرب الي الصواب في كثير من الأحايين . عندما يتكلم قريب الله في نهاية الأمر, يستمع الآخرون في انتباه لأن المتوقع غالبا ما يكون تلخيصاً لجوهر الأشياء , مفيدا من الناحية العملية. هذه صفة أساسية لا تجدها إلاّ في القيادة الرشيدة . 2) كان قريب الله شخصا بسيطا و لكنه مشبّع بالعقلية العلمية . دائما يهزأ بالشعارات و العبارات المنمقة الرنّانة . يسخر منها بابتسامة مهذبة , شبه مختفية , لا تنم أبداً عن استخفاف . هذا لان الطبع المتأصل فيه لا يقبل فكرة ما إلاّ إذا كان هنالك دليل قاطع علي صحتها . هذا الدليل لا يخرج بالطبع عن ان يكون منطقيا , استنتاجيا او تجريبيا إحصائيا. هذا الإتجاه كان مفيدا بالنسبة إليه شخصيا .فالكل كان يشاهده دائما وابداً يسعي بلا كلل لتطوير حياته و خبراته و معارفه الذاتية إلي الأفضل (بلغاريا , جامعة الخرطوم , إفريقيا , الولايات المتحدة الأمريكية ...إلخ). 3) ينظر إلي الأشياء دائما و أبدا بعين الناقد , لا سعياً وراء إكتشاف العيوب و المساوئ . علي العكس , كان يسعي و يتطلع بشكل مثابر إلي ما هو امثل و أصلح و أكمل .من هنا جاءت مرونته و بعده عن التشنّج الفكري والمكابرة في الرأي . كان رحب الصدر , يرحب دائما بالحوار . ذلك لان التشنج/ التعصب يمثل حاجة ضرورية لبعض ممن يطلقون علي انفسهم "اصحاب الحق و دعاته " إلي رأي يحتمون به , عافين انفسهم من التفكير في ظلّه. صاحب العقلية العلمية غير ذلك تماما. فوسيلة الإقناع لديه هي الدليل و الاقناع الضروري .ذلك لأن العقلية العلمية لا تملك بطبعها , شيئا آخر غير النزاهة و التجرّد. هكّذا كان قريب الله . 4)من شيمة قريب الله قولة الحق مهما كان لونها سياسية ,علمية الخ و كأني به يضع يده دائما علي المصحف :" أقول الحق , كل الحق , و لا شيء غير الحق " . و كأني به يقول لنفسه " إنك لا تتحدث الي ربك بلسانين"!. لم أره طيلة حياته يتلجلج في قول ما يراه صحيحا . هكذا , لا كذب ,و لا مبالغة. لا إدعاء او إفتئات .دائما يحاول الابتعاد عن المخالطات و المشاحنات اللفظية . 5) كان و لا زال أخونا و صديقنا و حبيبنا قريب الله - طيّب الله ثراه – عاطر الذكري , شخصا محبوبا و محترما من أفاضل الناس حتي بين "أعدائه" السياسيين. وقتها كان التشنج / السياسي في منتصف الخمسينيات في أوجه.. جامعة الخرطوم آنّذك. هذا الحب و الإحترام لا يأتي هكذا بالمجان. فالأمر له استحقاقاته . فعندما يشعر الناس خاصة_ الأصدقاء_ بان لهذا الصديق او ذاك صفات اخلاقية, حميدة, إنسانية , علمية , منضبطة و مبرأة من الهوي و الغرض و العواطف الغليظة _لابد لهم من منحه حبهم الوافر عن طيب خاطر . قريب الله كان يتمتع بقدر كبير من هذا الحب الأخوي الصادق مع عظيم الاحترام . 6) التنظيم : لاشك في ان أفكار قريب الله حرّة طليقة و منطلقة ,كغيره من أصحاب الأفكار. و لكنه يمتلك قدرة هائلة في تحديدها و تنظيمها .. عن وعي و تصميم و إرادة . فكل من كان قريبا من قريب الله يلاحظ و يدرك بوضوح تام قدرته الفائقة في تنظيم أفكاره عن قصد بقدرة و تصميم . فهو دئما و أبدا يبذل مجهوداً مقصوداً في تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي يفكر و ينطق بها. هذا ما يسمي في" الفلسفة" بمنهجية التفكير . من شان هذه المنهجية إزاحة الضباب الفكري او إضعافه لأبعد حدود . غياب هذه المنهجية كثيرا ما يؤدي الي إنحدار مستوي المناقشة الي شئ هابط. ذلك بسبب عدم توضيح و تحديد و فهم الاشياء الرئيسية التي ينبغي ان يدور حولها النقاش و الحديث . هكذا تطول الاجتماعات بشكل ممل و ثقيل في مماحكات و مخالطات او ترديد غير مثمر لأفكار هي في الاصل خارج الموضوع . لعل ميول قريب الله الطبيعية نحو الرياضيات لها اثر مباشر و كبير في هذا الاتجاه( ربما مع الفلسفة _بلغاريا !) فعلي الرغم من حقيقة ان هذا العلم (الرياضيات) تتمحور قضاياه حول الارقام و الكم., من الارجح ان يكون لها اثرا كبيرا ايضا في روح و نفس الشخص الذي يمارسه . هذا الافتراض يمكن استنتاجه من حقيقة ان علم الرياضيات هذا ، من طبيعته ان يفرض اتباع نهج شاق ، سعيا وراء فهم الظواهر بالعقل و المنطق الدقيق . و عندما يحاول الانسان جاهدا و يقرر فهم العالم كما هو بالفعل عندها يكون الانسان قد ولج ابواب دنيا العلم و التفكير الموضوعي . اي , خارج نطاق التصوّرات الذاتية و الاحلام و التمنيات و الاساطير . هكذا كانت لقريب الله عقلية" رياضية" مشبعّة بالمنطق و الإقناع, مأخوذة من واقع الحال. لا انسي ابداّ ووجه قريب الله يطل عليّ هذه اللحظة ، تلك المناقشات , و ذلك الجدل المهموم , التي كانت تدور بيننا مع الإخوة و الاصدقاء حول قضايا الوطن و مصيره كانت من بين المواضيع الهامة التي يدور حولها النقاش عن اهمية التعليم مع اسبقية و ضرورة التعليم الفني ؛ كشرط مسبق للخروج من سبة التخلف التي نعاني منها كمجتمع . المخرج الوحيد للخروج الممكن يكمن في بناء اقتصاد قومي متكامل القطاعات ، متميز بتنمية صناعية حديثة تلبي الاحتياجات الاساسية لعامة المواطنين لا لفئات قليلة ميسورة الحال . هذا النمو الصناعي لابد من اقرانه بنهوض زراعي في الوقت ذاته .فالطيران مستحيل بفردة جناح فقط. غير ان مثل هذا الانجاز غير ممكن_ يبقي امنيات غير محققة ، يوتوبيا_ دون رجال و نساء علي قدر من العلم و التدريب و المعرفة و روح التنظيم في اوساط المجتمع . خاصة وسط الشباب . في هذا الاتجاه كان النقاش يدور حول ضرورة تصميم خطة موضوعية في إطار استراتيجية صناعية تتناسق مع بقية استراتيجيات و خطط قطاعات الاقتصاد الاخري ، بدلا من التركيز علي صناعات مبعثرة, اغلبها ينتج سلعا لا علاقة لها بالاحتياجات الضرورية . في هذا المنحي التخطيطي العام يتم خلق الظروف لتأسيس القاعدة المادية التي تسمح ببث روح التنظيم في المجتمع . فهذا البث _ مع اهميته القصوي_ لا يأتي و يكون ناجحا فقط بالخطب و الارشاد الدعائي .هنا تحضرني المساهمات المتميزة التي كان يدلي بها اخونا الاكبر علما و دراية فاروق محمد ابراهيم في شتي المواضيع ذات الصلة ... متعه الله بالصحة و العافية . اخيرا ، لم ارم من هذا الذي كتبت وضع قريب الله فوق قدرات البشر العاديين . اي ما قد يشوب بلمحة من تأليه . معاذ الله! لا شك ان في لقريب الله الكثير من الاخطاء, مثله مثل باقي البشر. من منا معصوم عن الخطأ؟ الجسيم منه احيانا؟ ما نريد ان نؤكده و نصّر عليه هو حقيقة ان قريب الله كان بحق من اهل المروءة و الفضائل. اخو اخوان. يحاول دائما ان يكون حليماً في موضع الحلم . فهيما في موضع الحكم . محبا للعدل و الانصاف. متواضعا في موضع العلم و التنظيم و الابداع الفكري. فوق كل ذلك, وفيا عند الشدائد. كان من عظماء اهل السودان . لقد فقدنا رجلاً عزيز النفس, طاهر اليد, عفيف اللسان, سليم الطوية. دنيا يا قريب الله ! و الله دنيا !احياناً يداهمني الشك المتشائم مع ماكبث شكسبير في محنته الدامية: غدا , و غدا, و غدا و كل غدٍ يزحف بهذه الخطي الحقيرة يوماً إثر يوم, حتي المقطع الأخير من الزمن المكتوب, و كل آماسنا قد انارت الطريق للحمقى المساكين الطريق الي الموت و التراب. ألا إنطفئي يا شمعة وجيزة! ما الحياة الاّ ظل يمشي, ممثل مسكين يتبختر و يستشيط ساعة علي المسرح , ثمّ لا يسمعه احد: انها حكاية يحكيها معتوه, ملؤها الصخب, و العنف , و لا تعني اي شئ . (ماكبث / شكسبير)
|
|
|
|
|
|