الحالة التى وصل لها السودان من تدنى مستوي الخدمات الصحية ليس لها شبيهٌ سِوي في الصومال. وكما يقول المثل الطيور علي أشكالها تقع. حقيقة لا أحسد أطباء السودان علي الأوضاع السيئة التى يمارسون فيها مهنتهم الإنسانية في علاج المرضي. لكنى أتالم معهم نتيجة إنجراف أخلاقيات المهنة التى تُعول عليها مهنة الطب كثيراً وذلك بسبب تدنى الفقر وتفشي الفساد في السودان والصومال كأكثر الدول فشلاً وإنهياراً. قبل خمسة عشر عاما كنت مشُككاً في أن السودان دولة منهارة لكن منذ الثلاث سنوات الاخيرة تأكد لي تماماً أننا بالفعل في مستوي الصومال كدولة فاشلة.
قبل أن ندخل في لُبِّ الموضوع دَعُونى أحكي بعض التجارب عن تدنى الأوضاع الصحية في الصومال والتى هي شبِيهةٌ بالأوضاع في السودان. وهي الأسباب التى أدت لخلق سوق للدكاترة السودانيين في الصومال. عام 2006 وافقت علي دعم مشروع يساعد في توفير ثلاث أطباء وشراء بعض الأدوية وتكلفة إدارة مستشفي جنوب مدينة قالكاعيو. لا توجد حكومة ولا توجد إداراة حكومية من وزارة للصحة أو إدارة مستشفيات أو خلافه. حتى وإن وُجِدت الآن فهي لا تملك المال أو الكفاءات التى تُمكِنُها من تقديم خدمات صحية بأدنى مستوي متعارف عليه عالمياً. لذلك ومن الطبيعي أن يحتل الصومال، ونحشر إسم السودان برضو هنا، أعلي مكانة في قائمة الدول المتخلفة بمقياس وفاة الأطفال تحت سن خمسة سنوات والنساء تحت عملية الولادة. زرت ذلك المستشفى في عام 2008. إستقبلنى طبيب صومالي شاب إسمه محمد في حوالي الثلاثين من عمره. فرحب بزيارتى وزادت فرحته عندما عرف بأنني سودانى. أخبرنى بأنه الطبيب المسؤول عن المستشفي وأنه خريج كلية الطب جامعة امدرمان الاسلامية. كما زاد علي ذلك بأن أخرج من جيب قميصه جواز السودان الازرق وأخبرنى بانه تحصل علي الجواز السودانى قبل التخرج بقليل بحكم إنتمائه السياسي الطلابي لحركة الأخوان المسلمين. شرح لي دكتور محمد بلغة سودانية ظروفَ و أحوال المرضي والمستشفي وطاف بي جميع عنابر المستشفي من بينها مخزن الأدوية. لم يكن هناك طبيب أخصائي أو حتى فنيين في المعامل ومخزن الأدوية. كان هناك أشخاص يحاولون ممارسة مهنة الطب دون مؤهلات طبية في ظروفٍ إستثنائية. في اليوم التالي أصر الدكتور عبدالله وهو صومالي متجنس بالجنسية الإيطالية ويحمل شهادة تخصص في النساء والولادة من إحدي جامعات إيطاليا، أصر أن أزور مستشفاهُ الخاص في شمال مدينة قالكاعيو. توقفنا أمام كل حالة مرضية في العنبر وهو يشرح كل حالة: دي إمرأة كبيرة في السن الرحم بتاعها طلع بره. دي جابوها أمس ورأس الطفل طالع بره وهو ميت شايلنها في عنقريب ومشوار ستة ساعات بالكٌرعين، دي أجهضت وعندها نزيف ومعاهو أنيميا حادة، دي عرسوها صغيرة وحصل ليها تهتُك ونزيف وإلتهاب بعد أول مجامعة. أيضا المستشفي في حالة صعبة وظروف إستثنائية. في اليوم التالي وفي المساء شعرت بألم شديد في الصدر. حضر دكتور عبدالله ونقلنى علي الفور الي المستشفي بمساعدة بعض الأشخاص. بدون تحليل بدون أجهزة أشعة وببعض الدربات والمضادات الحيوية قدرت أقيف علي حيلي. في اليوم التالي تلقيت إتصالاً هاتفيا من السفارة في نايروبي وأبدوا استعدادهم لإرسال طائرة لنقلي إلي كينيا، لكن مع تحسن حالتى الصحية فضلت الأنتظار. بقليل من الفحوصات وصورة أشعة في مستشفي أغا خان في نايروبي إتضح إنني كنت مصاباً بإلتهاب حاد في الرئة.
يوجد في الصومال مختلف أنواع الدكاترة منهم الفكي (الفقيه) والشيخ والمُتشعوذ والمُدّعِي والطبيب الأفغانى والسوري والأثيوبي والسودانى. أحد هذه الأمثلة الشيخ حسن ابراهيم قيلي والذي يملك ويدير شفخانة في قرية كالابايد بصفة طبيب. كالابايد نقطة عبور القات الإثيوبي الذي يُصَدرُ يومياً للصومال مُسبِّباً أصعب الأمراض النفسية والعقلية في هذا البلد. يدَّعِي هذا الشيخ أنه يستطيع تشخيص المرض بمجرد النظر في عيني المريض ومن ثم يقرر لك نوع العلاج المناسب والذي هو خليط بين الأعشاب البلدية والأدوية المصنعة المستوردة بلا رقابة. في الواقع الصومالي شفا هذا الشيخ جميع المرضي الذين زاروه وذاع صيته في الآفاق الصومالية. وقد أصبحت عيادته (شفخانته) قِبلت المرضي من كل أنحاء الصومال وشمال شرق كينيا والصوماليين داخل حدود أثيوبيا وجبويتى.
لزمن طويل لايوجد في الصومال جهة تُحدد أو تُحقق في مؤهلات الأطباء في الصومال. لذلك لايُعرف لذلك الدكتور/الشيخ مؤهل أكاديمي. حدثنى أحد الوزراء السابقين أن وزير الصحة الصومالي ذات نفسه قام بزيارة هذا الشيخ في مركزه الصحي في كالابايد للتحقق من مؤهلاته ومقدراته وسبب هذا الإقبال الكبير من الزبائن المرضي. نظر الدكتور/الشيخ في عينى الوزير وجاءت نتيجة التشخيص بعد تلك النظرات أن الوزير ذات نفسه مريض وتم إعطائه العلاج المناسب. يملك هذا الدكتور/الشيخ عمارة في حي جيجيجا شرق مدينة حرقيسا تم إفتاتحها كفندق في بداية هذا الشهر. ولازال هذا الدكتور/الشيخ ذو القدرات فوق العادة يعمل طبيباً تحت سمعِ وبصر السُلطات الصحية التى لا تملك المقدرات الكافية لحماية المواطن من هذا الإستغلال في ظل إنعدام الخدمات الصحية وعدم مقدرة وزارة الصحة علي توفيرها.
الوجه الآخر من تدنى الأوضاع الصحية في الصومال هو تفشي الأمراض النفسية والعقلية بسبب حِدة الفقر وإرتفاع نسبة العطالة بالاضافة لإستهلاك القات بكميات كبيرة. الإحصائيات التى إطلعت عليها من جامعة بُوراما في الورق والواقع تقول يوجد مريض في كل أسرتين علي الأقل. في زيارة ميدانية لحى شيخ عثمان في مدينة بُوراما كانت هناك خمسة حالات في مساحة لا تتعدي إثنين كيلومتر مربع. في الصومال توجد جميع أنواع الأمراض العقلية والنفسية من إكتئاب، بارانويا، هلوسة ووسوسة وخلافه. إحدي الأسر، مُكونة من أمٍ وإبنتيها يعيشون في كوخٍ تم بِناؤُه من بعض العيدان والخيش والصفيح من علب حليب نيدو المجفف. يُعانى البنتان من أمراض نفسية. إحدي زميلاتى عندما رأت هذا الموقف سالت دموعها وهمست في إذني: دي فعلاً عيشة تجنن. كل هذه الأوضاع يقابلها أفراد يُعدُون علي أصابع اليد الواحدة كأطباء عُمومين في هذا المجال. فأصبح المرضي يهيمون علي وجوههم في الشوارع أو يقوم أهلهم بِتقيِدِهم بالسلاسل والجنازير كأفضل علاج لهم. أحد هؤلاء المرضي، والذي كان شيخا وداعية معروف ، فضل أن يربِطَ نفسه بسلسلة إلي شباك غرفته ويقذف بالمفتاح بعيدا عنه. تُرِكَ رعاية هؤلاء المرضي للمُتشيخِين يفعلون فيهم ما يريدون في مبانى عبارة عن سجون وليس مصحة للأمراض العقلية والنفيسية. إحدي هذه المصحات (السجون) تديرها جمعية طوعيه تقع خارج مدينة هرقيسا فيها 350 مريضاً ليس من بينهم إمرأة واحدة ويفتقر لكوادر طبية مؤهلة. أما مستشفي هرقيسا ففيه حوالي مائة مريض في عنبرين منفصلين أحدهم للرجال والآخر للنساء عندما زرته عام 2006 كان عبارة عن زنازين للحبس الإنفرادي يسمى "علاج" حتى باللغة الصومالية.
في السوق العربي وأمام بنك الاسرة التعاونى ( إن كان إسمه هكذا) تقف عربة أمجاد عليها مكبر للصوت ينادي بصورة رتيبة علي أنواع مختلفة من الأدوية البلدية. ومع إزدياد حدة الفقر في السودان وتدنى مقدرة الفقراء علي شراء الدواء والذي هو أساسا مضروب في الغالب الاعم، تُجد تجارة الأدوية البلدية إقبالاً ورواجاً كبيراً. وبما أننا لا نختلف عن الصومال كثيراً فتجد دكتور خلفان يبيع أدويته البلدية أمام المسجد الكبير في هرقيسا. ودكتور خلفان ليس رجلا سهلاً. فهو من الداياسبُورا كان يسكن في إحدي دول الغرب وعاد ليصبح تاجر أدوية متجول مستخدماً تويوتا كامري في تنقله بين قري ومدن ومساجد الصومال. إتخذ من ضهرية السيارة معرضاً ومتجراً متجولاً يحوي زيت وبيض النعام، زيت كبد سمك القرش، زيت الحبة السوداء وعسل النحل.
في الواقع يكفي أن تكون سودانيا لتجد كل الاحترام والثقة في الصومال. إكتشفتْ مُنظمات الأمم المتحدة من زمن بعيد قبول الصوماليين لكل ما هو سودانى. لذلك كان علي جميع قيادة وإدارة منظمات الامم المتحدة في الصومال سودانيين وسودانيات في فترات مختلفة بعضهم يعمل حتى الآن. منهم من إلتقيُته خلال العشرة سنوات الماضيه داخل أو خارج الصومال ومنهم من سمعت عنه أو عنها من الصوماليين. والحقيقة أن جميعهم كفاءات مشهودٌ لها في مجال عملهم. منهم أيضاً مجموعة من المعلمين والإساتذة الاجلاء يعملون في ظروف صعبة في إحدي المدارس الثانوية في مدينة هرقيسا. وهناك من ترك التدريس في جامعة الخرطوم ليعمل في إحدي جامعة الصومال مقابل مرتبٍ أفضل مما يتلقاه في الخرطوم وهو يلعن ويسخط سوء الاحوال في السودان التى رمت به في الصومال.
ليس غريباً أبداً أن يعمل الأطباء السودانيين خارج السودان وهو الوضع الأقرب للحقيقة. فالغالبية العظمى هاجرتْ وتركتْ السودان بسبب تدني ظروف العمل فيه. لكن الغريب هو تدنى أخلاقيات مهنة الطب خلال سنوات الإنقاذ. خلال هذه الفترة الكالحة الظلام من تاريخ السودان صارت مهنة الطب سِلعةً تُباعُ وتُشتري. ما الذي يدفع بطبيب سودانى بالسفر للصومال لفترة محدودة متعاقداً مع إحدي الشفخانات؟ كيف يمكن لطبيب أخصائي أو غير أخصائي أن تكون قيمة مقابلته 20 دولارا وهو يعلم مُسبقا أن تلك الشفخانة لا تملك أدنى مقوماتِ الفحصِ والتشخيص؟ كيف تسمح أخلاقيات المهنة لطبيب سودانى يعلم جيدا أن قيمة المقابلة النهائية قد تكلف المواطن الصومالي 100 دولار دون أية ضمانات لتشخيص المرض أو جودة الدواء؟
بمجرد وصولي للصومال وصلتنى رسالة قصيرة عبارة عن دعاية مجانية في الموبايل من شركة تليصوم. لم يكن من الصعوبة فهم محتوي الرسالة. فقد كانت بإختصار مركزا طبي (شفخانة) يعلن عن وصول أخصائيين سودانيين حملة شهادة الدكتوارة ويوجد رقم للإتصال والحجز. طلبتُ من روضة الصومالية وهو صيدلانية تعيش في إحدي دول غرب أوروبا ومهمومة بتدني جودة الدواء في الصومال والذي حسب تحليلها ومتابعتها لبعض الأدوية عبارة عن بودرة طباشير، طلبتُ منها الإستفسار عن الحجز والتكلفة. ذهبت للمركز صباح يوم الجمعة ولم أجد سوي موظفة تحمل دفتراً تُسجلُ فيه أسماء المرضي. سجلتُ إسمى في الدفتر والذي كان رقم 46. كانت حالة المركز يرثي لها ولا يصلُح حتى أن يُطلق عليه إسم شفخانة. لم يكن طبيبا واحدا بل ثلاثة أطباء لم تملك وزارة الصحة المقدرة علي التأكد من مؤهلاتهم. إذا كان بالإمكان إستغلال المريض في السودان فلما لا يُجرب الدكاترة السودانيين سوق الصومال؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة