|
سودان " الحجر و المدر" و" بردعة الحمار" في تنمية العواصم و الامصار
|
سودان " الحجر و المدر" و" بردعة الحمار" في تنمية العواصم و الامصار
بقلم الأستاذ / أحمد يوسف حمد النيل
ما بين القرن الرابع عشر و الخامس عشر الميلادي عاش العلامة عبد الرحمن بن خلدون يرحمه الله , فقد تحدث في مقدمتة باستفاضة و تفصيل عن الامم و اخلاقها و حضاراتها و كذلك عن علم التاريخ و الاجتماع. أما عن العمران فكان الناس ينقسمون الى حضر و هم سكان المدن و الحواضر و الريف و القرى , و كانوا يبنون بيوتهم من الحجر و المدر. و المدر كما جاء في لسان العرب , هو قِطْع الطين اليابس , و قيل الطين العِلْك الذي لا رمل فيه. و العرب تسمي القرية (مَدَرَةً). أما سكان البادية فهم الذين يخرجون من الحواضر الى المراعي في الصَّحارِي. و يضربون الخيام و الأخبية , و الاخبية عادة ما تكون من (وبر أو صوف).
فهل ترون أننا في السودان الحاضر , بحواضره و بواديه قد بعدنا كثيرا عن ما وصف ابن خلدون في مقدمته من حواضر و بوادي في ذلك الزمان؟ ولكن التطور سمة أصيلة من سمات البشر , وصفة دؤوبة لتعاقب الزمان , فالحياة أوجهها تغيرت بتغير الحضارة و مكتسبات البشر من علم و معرفة و ثقافة. و لكننا اليوم في يد الساسة ليس الا كالإبل للرِّعاء , يسوقونها (عَفساً) و يرعونها (خِمساً). أي يسوقونها سوقا شديدا أو يحبسونها و يرعونها و ان ترد الماء اليوم الخامس بعد اظمائها.
ما اردته في هذا المقال , هو أن حال أهل السودان في الانتقال من البداوة الى الحضر ومن الريفية الخِصبة الى المدن المتحضرة الصناعية , قد يسير سيرا بطيئا ً , أو بمعنى آخر ان حال التطور قد لا يعدو أن يكون مفارقات فردية مادية في المجتمع , أما عجلة الاقتصاد للبلد ككل فإنها عُطِّلت. و القرينة في ذلك شدة اللصوق بأرضٍ أو بمنظرٍ , فالحنين فينا أشد من حنين (قلوصى بالعراق) . فالمقصود هنا ليس الفكاك من تجليات الشوق و الحنين ككل , و ليس مسح ما بقي من معالم و صوى القيم التي تحملها حياة البداوة و القرية و الريف ثم الدخول بها في عالم الحضر , و انما الفكاك من شكل المتغير من مظهر و حجر و مدر , الى شكل متغير حديث ينم عن حضورنا هاهنا في وسط الحضارة , و لا ينزع بنا الى هناك زمانا و مكانا. و الشاهد في ذلك اننا نميل لحياة الحضر بما تحمل من مظاهر مدنية في الشكل و البناء و الملبس و المأكل , مع الاحتفاظ بمعاني القِرى و الكرم و الشهامة السودانية.
و لا غرو ان سرائر الروح لدى شعوب السودان هي المرتكز و المرجع , في استشفاف شذرات الثقافة و الحضارة و المعرفة. فالشوق و الحنين و اللصوق هي من أعلى علامات التمكن الروحي في ذاتية الفرد , ان كان في مزرعته أو فلاته أو صحرائه. فهل استدرك أهل السودان بان يكون غذاء الروح ثلاثي الأضلاع ؟! أي مكون من ثلاثة أضلاع و هي الماضي و الحاضر و المستقبل. و ان يكون القاسم المشترك فيها كلها الشوق و الحنين و اللصوق , ينزع الفرد للماضي فيستلهم منه ما حوت روحه , و يعيش في الحاضر ما وجدت روحه من واقع ثم يندفع الى المستقبل بالصفتين فيصنع الرؤية ذات التفرد و الأصالة.
فانه اذا استدركت الروح , الماضي و الحاضر و المستقبل و قنعت بذلك لكان ما عنيناه من حضارة مهولة. و لكن الشيء الملاحظ أن شعوب السودان تعشق الروح بدرجة الغياب و التحليق , و تدرك الواقع بدرجة الزهد و المبالغة. فالعقل هنا ساكن و مسكون , و اللسان مُطرِق ٌ و مهجور. فحركة العقل و الفكر ضئيلة و نتيجة لذلك التحرك من الماضي للمستقبل يكون في حيز السكون. فالفخر بالماضي قد يكون من دواعي تفخيمه لدى الروح , فتنشط ثقافة الاشياء , و اكتحال العين بالصور و الأخيلة. فصارت هذه السمات ظاهرة جمعية الوعي جماعية الفعل و الادراك , و من ثم فقد أقعدت بثورات العقول و التطور و و بنت فيهم المهابة من التحرك من موقف الى آخر.
قد لا ينجذب أصحاب العلوم و الثقافات الى الجانب العملي من العلوم, فقد يحيد بهم ذلك عن طريق الحضارة و يسلمهم الى اشواقهم القديمة و هي البداوة. فتصبح السياسة و الدين و العلوم و الأدب و الفنون كلها ضرب من فلسفات روحية. فيكون الاستبداد من بعد ذلك , فيستبد الجاهل بالعالم , و تستبد النفس بالعقل, لأن فلسفات الروح انما هي اطياف تغشى كل من رسخت فيه عاطفة الشوق و الحنين و الفلسفة , و يكون فيها العالم و الجاهل في الحس سواء.
فبناء الحضارات انما يكون بانجذاب الناس الى العواصم و الحواضر و الارياف , فيعمروها و يبدلوا المفازة و القفار بعمران راسخ و جميل. و حتى في بنيان المدن من الحجر و المدر و غيرهما , قد تجدها مدينة بلا مدنية , اذا لم يسلك سكانها طريق الحضارات و المدنيات. فاستخدام الحمامات المعاصرة في اغلب بقاع السودان , في الريف و المدن شيء ليس ضروري , فالصفة السائدة هي استسهال الامور و الزهد في الدنيا , فقد يجدون هذا من زخارف الدنيا , و هو في الحقيقة وبال مستطير , اقعد بالأطفال و الكبار عن مراقي الصحة العامة و صحة البيئة.
و استصحاب الحيوان ايضا صورة من صور البداوة و الريفية. فان تم بناء المزارع و الحظائر و اُلحق بذلك الطاقم البيطري , قد تتجسد معاني المدنية. و لكن استصحاب الحيوان الى أي مكان ريفي أو فلاة أو صحراء انما يدل على استصحاب نفس الملبس و المأكل و المرقد و هكذا دواليك. و بالتالي ان تم الانتقال الى المدينة , فصفة النزوع الى البداوة و الريف باقية , و اللصوق ببيئة الحيوان باقية. فيصعب التغيير على من تحضر من البدو , فلعنة العيب و الخوف من لعنة القبيلة قد يضرب بأطنابه , و البدوي لا يوزعه الا الخوف من القبيلة و العيب بغض النظر عن العيب الشرعي.
في خمسينات القرن الماضي (العشرين) أي عند فجر استقلال السودان عن الوصاية التركية و البريطانية , كانت الخرطوم من أكثر العواصم العربية و الافريقية تحضراً و تمدنا ً و قد تبع ذلك العواصم الريفية في بقية انحاء السودان. فقد ظهر ذلك في هيئة الموظفين و العمال و حتى في مجال الزراعة بالنسبة للفلاحين. و خاصة بعد انشاء مشروع الجزيرة العملاق الذي غير حياة الناس من حياة البداوة الى المجتمع المدني أو الريفي المستقر. و لم يكن ذلك قاصر على سكان ما بين النيلين فقط , و انما انجذب الى هذا المشروع الكبير كل أطياف و قبائل السودان و نواحيه. فتوطدت الحياة الحضرية في هذه الرقعة , و ربما كان قرب تلك الحقبة الى ثقافة المستعمر , و ذاكرة المواطن السوداني الذي تعمق في نمط الحياة الانجليزية.
و لكن الشيء الغريب هنا , انه بحلول القرن الحادي و العشرين. بدأت انماط الحياة تنحرف , من المدنية و الحضر الى الريفية الموغلة في الفقر و المدنية الغارقة في الضنك. و لربما قد ظهر على السطح نمط جديد من انماط الحياة و التفكير و قد ظهر صراع فكري ليس له تبرير منطقي و واقعي. جماعات تحكم السودان بسطوة الفكر البدوي , فيها من القهر و العداوة القبلية , مما أدى الى تأرجح خطى السياسة الحاكمة , و بالتالي انقياد الشعب لساسة يدمرون بنى الحضارة و يثيرون الفتن و البلابل. جماعة حنت الى ماضيها بكل تفاصيله الدقيقة. و أخذت منه القول و الفعل و الثقافة و المفاهيم البالية. فغلبت ثقافة الجنس, أي تفرد الرجل على المرأة في المجتمع , مع اعتلال فكري تجاه مفهوم معنى القوامة. فعادت من جديد صورة القبيلة و تنميط عقول الصبيان , و انكسار هالة الفتاة و تلاشيها. حتى امتلأت الشوارع و الحواري و المزارع بما يعرف بأطفال الشوارع , و هم لا يدعون لآبائهم و لا لأدعيائهم , و لكن للجمعيات الخيرية , فهذه اشبه بعادة الجاهلية في وأد البنات دون الذكران من الأطفال , و ليس من شيء يمنعنا أن نلحق هذه الحقبة بحقب الجاهلية. و خلاصة هذا عاد الفكر البدوي في ثوب مدني مبتور الأواصر و الأطناب. فلا يبدو عليه شكل المدينة من حجر و مدر و غيره و لا ظاهر الحياة البدوية سابقا , فهذه أحداث تقع في قلب المدن , و لكنها تُساق الى مساق البداوة و الفوضى و قانون الغاب.
فممارسة الفوضى في الحواس , و مغالطة الواقع الحضري من حولنا في هذا الكوكب , و تأصيل الغلظة و الحماقة , و اتباع الطرب اللاهي لدرجة الانجذاب , كل ذلك قد ولد فينا نمط العنف , و غيّب فينا التماس اللطف و الأخذ بأسباب الحكمة
و عمق كراهية المدنية و التحضر. فكان الانصياع الجارف لما يمليه الحس من استكانة حتى نُسب الينا من الطرائف و المُلَح ما يدل على حب الكسل و الخمول. فكان الناس في ذلك حيارى في كيفية الجمع ما بين سلوك الكسل و نمط الخمول و بين الاتقاد الذهني و النشاط العقلي و السلوك الفلسفي و العبقرية الفكرية. فقد لا تتناسب كل هذه الأضداد لتهبط في جسدٍ واحدٍ من لحم و روح. قد يقول البعض ان السياسة هي ما يفسد الحياة و للبشر. و لكن القول ليس كله كذلك , فجزءٌ مما يقول به الناس و المفكرون أن السياسة بنتاجها الظاهر و الواضح للجميع هي مفسدة اذا فسدت الجماعة الحاكمة. و لكن على العكس جزءٌ آخر يقول بأن النتاج السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي حصيلة سلوك و فهم جمعي لمجتمع ما, فقد تتعاقب الجماعات في الحكم و تلعن بعضها الآخر , و يلعن الشعب بعضه الآخر. و لكنهم لو عكفوا على تنمية البشر و الذات , و تلمس خطى الحضارة و الصدق و الاخلاق لما فسدوا يوما. و من المسلمات الفكرية و الاجتماعية ما هو بمنزلة المخدر للفكر و المفاهيم الجمعية العامة . فقد تكون عبارة عن انطباعات فكرية القائل بها له لسان بليغ فتفعل بالمجتمع ما تفعل حتى تصبح ذات قداسة, فيسلمها جيل ٌ الى الآخر و هكذا , لكن دون اتخاذ منهج الاحصاء و الدراسة من الواقع العملي , تبقى كل هذه المسلمات فقط فرضيات و ان كان فيها شيءٌ من الحقيقة.
فالتعمق في الروح و التفنن في اتقادها دون العقل , يجعل من الحياة مرتعاً خصبا ً من التصوف تجاه الاشياء. و يجعل الجمال حبيس الأماكن و اللحظات التي تعن في الفكر منذ أزمنة سحيقة, دون النظر الى ما هي عليه الآن هذه الأماكن و ما حولها من تغير و تطور هو أيضا يحسب جمالاً , فالإفراط و المغالاة في الوفاء لمكان أو زمان دون سواه قد يجعل الصورة تقف كما هي سنوات طويلة, و من الطبيعي اندثار روحها بتقادم الزمان و تقلب الفكر في الحاضر, فهنا الخسران هو من نصيب المتعنت لفكر بلى أو مكان اندرس , الا بكاء الشعراء فهو مباح من باب الذكريات الجميلة و معاقرة الروح للجمال , و الانطلاق لحاضر مستحدث يستلهم معالم و ذكريات التاريخ. أما الوقوف لتلك الذكريات و التعطل عن الحركة و العمل و خاصة حركة العقل , فقد تجل الفرد عبقريا في زمان آخر و لكنه مضى و ليس سابق لأوانه.
و نواصل ,,,
[email protected]
|
|
|
|
|
|