|
سلسبيلة ... قصة العصف و الثورة بقلم أحمد يوسف حمد النيل
|
... عصف بذهنها هم الحياة اليومية , تتقاسمها ملايين الأفكار, في المأكل و المشرب و الدراسة و المستقبل الطموح. ليس بيدها مصيرها الذي قسمه لها خالق الكون. صراع التضحية يلتف بعنقها، يلوح لها ويذكرها بالواقع كلما سرحت في دنيا الخيال. هكذا كانت في فترة الشباب، ولكن عندما تقدم العمر قنعت بالواقع المرير، فأصبح طموحها هو فضيلة التضحية من أجل الغير. ورغم انها تعيش في سف الجبل الا انها قد قنعت بالحياة الكريمة في داخل الحفر.
هكذا كانت قصة "سلسبيلة"، فتاة من بنات السودان، تعشق الوطن بكل تفاصيله، من الحي الى القرية الى المدينة ثم العالم الذي كانت تتخيل ان تعيشه. ركنت الى الواقع تكشط كل يوم على ملمح من ملامح طفولتها وسني شبابها الاولى التي ملئت بالطموح والافكار. كرهت بعد ذلك رجل الدين الذي يخطب في الناس ولا يعمل بما يقول. كرهت تلك الدقون التي تمشط بمدراة الرذيلة والغواية. ملت من خطب رجال السياسة ونفاقهم.
الرجل السياسي الحاضر اشبه بصاحبة الرذيلة تصطاد من تعشق جنسيا بالليل وتخطب بالدين والاخلاق نهارا دون حياء. ولكن "سلسبيلة" تمثل حجراَ لزاوية الوطن ولكنه مؤجل, سنبلة تصدح فوقها عصافير الشتاء و لكنها جائعة, تقضي حاجات الناس سرا بالقلب والدعاء, كسر طموحها رجل السياسة الباذخ في قصر الحكم. و لكنها خرجت من قمقمها تتمتم بأحلام الناس, ولسان حالها يقول: أين العدل؟ وأين النجاح؟ وأين العلوم؟ لا أحد يجيبها ولكن يبطش بها جندي مخمور أو كذاب أو جنسي, يتبعه رتل من ضعفاء العلماء المخمورين.
هكذا كانت قصتها تلعن كل يوم من ولدته بحي في بقاع الوطن الطويل, السياسي يفشل كل يوم ويرقص كل يوم ويكذب كل يوم وينافق كل يوم. والعالم يترك علمه كعمامة المصلي حين يتوضأ أو المتعب حين يرقد. وطن اسمه السودان يمارس فيه كل يوم صنوف العذاب والقتل والفشل. ولكنها علمت ان الوطن لديه ازمة ضمير, ولا ينفع معه صبر المنتظرين. لماذا يحكمه هؤلاء المتأسلمين؟ لماذا يضطر الناس للخروج عن ارض الوطن وأرضه مكسية بالذهب و الماء و البترول وتاجها نضرة الوجوه الخضراء؟ مدارس فقيرة, جامعات لا ترتقي لسوق العمل المحلي أو العالمي, سياسيون يمارسون أضعف الأدوار للبشر. يضعون السيوف على رقاب الناس ويطلبون منهم الموالاة والافصاح عن الحقائق المزيفة.
عندما لعنت "سلسبيلة" هؤلاء الرجال لم تلعنهم الا لأنهم جهلاء متغطرسين سادرين في غيهم. يريدون ان يحكموا تراب الأرض وخشاش الأرض والجبال والوديان ولكنهم لا يعتبرون البشر. كلما زاد فشلهم قويت آلة القمع, وكلما زاد عدد سنينهم بطل وضوء الوطن وأصبح عاريا بلا شرعية, الفارقون يصفقون ويرقصون كحاشية هارون الرشيد, والفارغون يتحينون الفرص كذئاب الصحراء. ورغم ان صولجان الحكم أحدب أعور ينتظر السقوط, الا أن الساقطين قد أحالوه كالفتاة ليلة عرسها. فجملوه مرة أخرى ليعيشوا في الظلام دون ان يراهم أحد. فان ظلوا في الحكم ثلاثين سنة أخرى فهم بلا شك كالناقة تضرب خبط عشواء, كالعنزة الجرباء لا أمل في ان تبرأ, أو ككلب عقور لا تجدي معه حقنة السُرة.
لماذا يحكموننا خمسة سنين عجاف تنضاف لسابقاتها؟ ولقد عرفوا ان الناس قد هلكوا, من طبع الانسان ان يتعلم وان يقتدي وان يفهم من اخطائه وغيره. ولكن سذاجة العقل وضعف النفس وطلب الدنيا هي مقومات هذا (العبط) الواضح. لا جدية تظهر في محياهم, ولا انسانية تزينهم, ولا أخلاق تدفعهم. ولكن في عصرنا هذا نشهد ان هذه الحقبة هي الأظلم على الاطلاق. فقد اعادت لنا ذكريات الامبراطوريات المتأسلة التي نُخرت من داخلها بدواعي الدنيا تحت غطاء النفاق الديني, فما لبثت تدمر الظاهر و الباطن لأن دوافعا الطمع من أجل المجد الشخصي لا المجد الوطني.
فلتبكي "سلسبيلة" ما شاء الله لها ان تبكي, ولترمي هؤلاء الرجال بلعناتها ما استطاعت الى ان يؤذن في الناس ببذوق فجر ناضج لا تدفعه ليالي النفاق الديني أو السياسي , فجر يتقدمه من نحس بصدقه ومن تربى على ايادي شريفة طابعها العفة والرغبة الوقية في الانتصار من أجل الغير والوطن. وبما ان الله قد جعل الخير في هذه الأمة فليس مع ذلك يأس, فقط نحتاج لرجل معتبر يمسك بجمر القضية ولا يتنازل, فسيتبعه الخلصاء و الناجحون. وسيتفرق عنه الساذجون كالهباء.
|
|
|
|
|
|