|
سقوط المخابرات أم انتصار نظرية الاستعلاء! بقلم معتصم الحارث الضوي
|
23 ديسمبر 2014
عندما نشر مجلس الشيوخ الأمريكي في التاسع من الشهر الجاري الملخص التنفيذي، المؤلف من خمسمئة صفحة، لتقريره حول اضطلاع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بأعمال تعذيب في أربع وخسمين دولة في مختلف أرجاء العالم، لم يكن من المستغرب أن تتهرب الحكومة الأمريكية من مسئوليتها القانونية والأخلاقية؛ فقد عودتنا على الاستهانة والاستخفاف إلى درجة الصفاقة بكل المعايير الإنسانية، ناهيك عن كافة المعاهدات والمواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها خلال العقود الماضية، وما موقفها الداعم بشكل مشين ومتصل للكيان الصهيوني رغم الاعتراضات الدولية عنا ببعيد.
إذن، لم يكن غريبا أن تنافح الحكومة الأمريكية بكل ما أوتيت من أدوات إعلامية وسياسية عن الممارسات الإجرامية لجهاز استخباراتها الخارجي، بل حتى الموقف الدولي بالغ الاستخذاء لم يكن مفاجأة كبرى في ظل حالة الانبطاح العالمية أمام رغبات القطب الأوحد؛ بكل ما يمثله من قيم هيمنة واستعباد- عبر الوسائل المعتادة من تحكم في المؤسسات الدولية، وخاصة في الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، وعبر اتفاقيات التجارة المجحفة، والقواعد العسكرية المنتشرة في أرجاء العالم، والعولمة.. إلخ.
لكن ما أثار الدهشة ممزوجة بالاشمئزاز هو الموقف الذي اتخذته نسبة ملحوظة من الشعب الأمريكي، والتي لجأت إلى تبرير موقف وكالة المخابرات الأمريكية بترديد ببغائي لكل ما سردته وسائل الإعلام الأمريكية الساقطة مهنيا وأخلاقيا، ومراكز البحوث التابعة لأجهزة المخابرات من مقولات بروباغاندا، وخطاب ديماغوغي، يستند إلى نظرية الخوف العصابي من الإرهاب، ويستدعي الحوادث النادرة التي تعرضت إليها أمريكا، باعتبارها مسوغات أبدية تؤسس لأي سلوكيات إجرامية، بل وإرهابية، أساسا أخلاقيا دعيا، ومبررات ساذجة تلتحف بثوب شوفيني بغيض.
تقوم تلك المواقف الشعبية المنافية لأبسط قواعد الأخلاق على نظرية استشرت في الخطاب السياسي والإعلامي الأمريكي، وتسللت عبر جهود مدروسة ومرحلية لتصبح جزء من العقل الجمعي؛ ألا وهي نظرية الاستثنائية –أو إذا شئت الاستعلاء- الأمريكي (American Exceptionalism). ¬¬¬ يقول تشارلز مري (Charles Murray) مؤلف كتاب "الاستثنائية الأمريكية" ذائع الصيت، في كتيب نشره معهد أمريكان إنترand#64344;رايز، إن فكرة الاستثنائية الأمريكية سائدة منذ قرون، ويعود إطلاقها بشكل واضح لأول مرة إلى أليكس دو توكوفيل، الباحث الاجتماعي الفرنسي، والذي أطلقها إبان زيارته إلى أمريكا في 1831، ثم نشرها في كتابه المعنون "الديمقراطية في أمريكا" سنة 1840- يرى تشارلز مري بأن الفكرة ضعفت من حيث مستوى الاقتناع بها، ولكن ليس من حيث الانتشار، ولذا فإنه يدعو المنافحين عنها للتصدي للآراء المعادية لها داخل أمريكا وخارجها على حد سواء.
في تأطير أكاديمي مزعوم، تحدث فرانسيس فوكوياما أثناء الأيام الأخيرة قبل سقوط الاتحاد السوفيتي قائلا بأن "ما نشهده الآن ليس فقط انتهاء الحرب الباردة، بل هو تبلور الديمقراطية الليبرالية الغربية لتصبح الصيغة النهائية لهيكل الحكومات".
أما على الصعيد العملي، فقد أشار الاستطلاع الذي أجرته صحيفة يو أس تودي سنة 2002، فيشير إلى أن ثمانين بالمئة من الأمريكان يعتقدون بالاستثنائية الأمريكية، وتشير نتائج استطلاعات الرأي الأحدث إلى نتائج مماثلة تقريبا.
لكن على الجانب الإيجابي، فإن سيمور ليبست (Seymour Lipset)، عالم الاجتماع السياسي الشهير، يشير إلى أن هذا الشعور الطاغي بالفوقية والاستعلاء عن بقية الأمم هو السبب الذي جعل أمريكا ترفض الاشتراكية، بل وترفض أيضا دولة الرفاهية الاجتماعية التي أصبحت معيارا في العديد من دول العالم، وحتى الغربية منها، ولعل أبرز أمثلة عليها تتمثل في بريطانيا التي طبقت هذا النموذج سنة 1946، وتأتي الأمثلة الأحدث في الدول الاسكندينافية، وأبرزها في هذا المجال السويد التي حققت تطبيقا لدولة الرفاهية الاجتماعية لم يسبق له مثيل في التاريخ من حيث الجمع بين العمق المبدئي والتطبيق فائق النجاح.
أما المفكر الأبرز في عصرنا الحالي؛ نعوم تشومسكي، فيوضح في مقابلة أُجريت معه في أكتوبر 2013، أن ظاهرة الاستثنائية التي تستند إلى أساس أخلاقي/ديني استعلائي ترتبط بمرحلة صعود الحضارات وبلوغها أوج عظمتها، مما ينتج عنه دائما آثار طويلة من الدماء والخراب، ولمواجهة الاستعلاء الأمريكي، دعا تشومسكي إلى الارتقاء بالمستوى الأخلاقي والفكري لأولئك الذين يصيغون المعايير والقيم الثقافية، علاوة على إنشاء المؤسسات الشعبية التي تتمتع بمنظوماتها الأخلاقية الخاصة لمحاربة الخطاب الرسمي.
الشعور الاستعلائي الذي تؤمن به –بحسب أحدث استطلاعات الرأي- نسبة معتبرة من الشعب الأمريكي، والذي حذر منه تشومسكي وغيره من مفكري اليسار الأمريكي المستنيرين، يمثل خطورة أخلاقية وثقافية قبل أن تكون سياسية؛ فقد كانت شعوب العالم الثالث في عهود سابقة تدرك الفرق بين الحكومات الأمريكية المتعاقبة، وبين الشعب الأمريكي، ولذا كانت لا تحمل الأخيرة جرائم الأولى التي لا تعد ولا تُحصى.
أما الآن، وبعد أن اتضحت الحقيقة بأن الحكومات الأمريكية لم تنل إلا من معين الثقافة الجمعية لشعبها، وأن التفاحة لم تسقط بعيدا عن شجرتها قط، فقد يتطور الأمر إلى قطيعة محتملة على المستوى الثقافي؛ تجعل الكثيرين ينظرون إلى منتجات الحضارة والثقافة الأمريكية –ومنها الكثير المفيد- باعتبارها منتجات محظورة لعدو عتيد، وهذا سيقودنا بدوره إلى مرحلة جديدة من التطور التاريخي، تكون سمتها الرئيسة تجذّر العصبية الشوفينية وثقافة الانغلاق ورفض الآخر وانتفاء التسامح؛ مما سينقل الإرهاب من ظاهرة ضيقة إلى تيار شعبي يلغي الآخر (الأمريكي)، كما ألغاه ذلك الآخر من قبل في منظومة استعلائه الفوقية.
الصورة قاتمة، وتتطلب الكثير من التفكير المقرون بالعمل، قبل أن يخرج العفريت من القُمقُم، ويعيث في علاقات الشعوب حقدا وتدميرا أبديا.
|
|
|
|
|
|