|
سقوط الطائرة الماليزية .. تحليل من وجهة نظر إدارة مخاطر الكوارث! بقلم: د.محمد عبد الحميد
|
فجع المجتمع الدولي في يوم الخميس 17/7/2014م بسقوط طائرة الرحلة الماليزية MH17 في الأراضي الأوكرانية التي كانت تقل نحواً من 298 راكباً بمن فيهم طاقمها، وقد كانت وجهتها من امستردام بهولندا الي كوالامبور بماليزيا. مثًـل سقوط الطائرة المأساوي كارثة متكاملة الأبعاد ليس فقط لجهة ما شكله السقوط من ضحايا في الأرواح حيث لم ينج أحد من ركابها، وإنما في الكيفية التي حدث بها الإسقاط مضافاً اليه تعقيدات المنطقة التي حدث فيها السقوط وما ترتب عليه من عقبات جعلت مسرح السقوط نهباً للعبث وبعثرت ما يمكن أن يجمع من أدلة فضلاً عما يشكله ذلك من إنعكاسات نفسية لأسر الضحايا لذلك فإن تحليل هذه الكارثة من وجهة نظر إدارة مخاطر الكوارث ينطوي علي أهمية قصوي وذلك لثلاثة أسباب رئيسة.
الأول: ضرورة التوصيف الحقيقي للحادث. ذلك لأن البعض يسمي مثل هذه الحوادث مأساة، والآخر يركز علي أنها أزمة، بينما يصفها آخرون من دونهم بالنكبة دون أن يكون هناك إتفاق حقيقي لتوصيف الحادث بصورة جازمة يترتب عليها ما يترتب علي مضمون التوصيف وكيفية التعامل معه كما هو موضح في السبب الثاني.
الثاني:إن تحليل هذا الحادث من وجهة نظر إدارة مخاطر الكوارث يفيد في الإسهام في تحديد المسؤول عن الحادث و ما يترتب علي ذلك من مساءلات جنائية تشير الي من تقع علي عاتقه تحمل أعباء مردودات هذه الحادثة نظراً لما تنطوي عليه من أبعاد منها الأخلاقي و الديني (بمعني هل يتعلق الأمر بالقضاء والقدر والإكتفاء بذلك والتسليم بالحادث بإعتباره مشيئة الهية، وإعلان حالات الوفاة بإشهاد شرعي) ،والسياسي (بمعني أن عملية الإسقاط ربما تكون عنصراً يغير مسار اللعب علي المسرح السياسي Game changer وما قد يستتبعه ذلك من تعقيدات سياسية) والإقتصادي (بما فيه من تعويضات لأسر الضحايا وللشركة المالكة والمصنعة للطائرة وحتي لشركات التأمين التي عليها ان تدفع مبالغ باهظة في عمليات التعويض بناءً علي ما يعرف في أدبيات إدارة مخاطر الكوارث بتحويل المخاطر Risk Transfer ).
الثالث: الدروس المستفادة من الكارثة، وهذه بدورها تفيد التأمل والتخطيط للحد من مخاطر الكوارث مستقبلاً، حيث يتم إستخلاص العبر من الكارثة علي تراجيديتها بغية الإستفادة منها مستقبلاً لضمان عدم تكرارها، ذلك لأن هذا النوع من الكوارث الذي يوصف بأنه من صنع الإنسان يحدث في ظروف ولإسباب كثيراً ما تتصف بالتشابه.
تبدأ عملية تحليل الأحداث من وجهة نظر إدارة مخاطر الكوارث عادةً من خلال تتبع العلاقة بين العناصر التي تنتج عنها الكارثة وبيان كيفية تفاعلهم مع بعضهم البعض ثم الوصول الي النتيجة القاضية بتحديد التوصيف الحقيقي للحادث إن كان كارثة أم لا. فالعناصر التي يتم التركيز عليها هي الخطر ومخاطر الكوارث والهشاشة. فبالنظر الي العنصر الأول ــ الخطر ــ فهو يقود من تحليله العام لعمرفة مدي حدة العنصر الثاني المتمثل في مخاطر الكوارث ــ والذي عادة ما يعتبر متغيراً تابعاً للأول ـــ التي كانت تحف بالطائرة وهل يترتب علي ذلك أي نوع من الإهمال في قيادة الطائرة من طرف طاقمها. فبرغم أن المسار الذي كانت تطير عليه الطائرة هو منطقة حرب نشطةActive War Zone ، الإ أن الطائرة كانت تطيرعلي إرتفاع أكثر من 30 ألف قدم فوق منطقة الحرب النشطة مما يجعلها عملياً خارج نطاق إستهداف الصواريخ أرض ـ أرض التي تستخدم عادة في الحروب الأهلية كالتي تدور رحاها في أوكرانيا حالياً.هذا فضلاً عن أنها طائرة ركاب مدنية لا علاقة لها ولا لدولتها مع أي من أطراف النزاع فهي بذلك ليست هدفاً عسكرياً بأي حال. ومع ذلك فقد تم "استهداف الطائرة" بصاروخ أرض جو متطور Highly Sophisticated وعالي الدقة موجه بالرادار، مما يشير وبشكل واضح الي نية مسبقة بعملية الإسقاط، لا سيما وأن تقنيات هذا الصاروخ يمكن أن تكشف طبيعة الهدف قبل إنطلاقه. يمكن القول هنا ومن وجهة نظر إدارة مخاطر الكوارث أن الخطر لم يكن مؤكد الحدوث علي أقل تقدير بالنسبة لقائد الطائرة مما ينفي مبدئياً شبهة الإهمال أو السير في مسار الخطر، فضلاً عن أنه لم تصدر أي توجيهات مسبقة من أي جهة ملاحية دولية بضرورة تجنب هذا المسار بفعل الأخطار التي تكتنفه نتيحة للحرب الدائرة علي الأرض أي بمعني أنه لم يكن هناك عملياً اي نوع من إتصال المخاطر Risk Communication يفيد بنقل أي معلومة بأن هنالك خطر ماثل في منطقة الملاحة، إضافة الي ذلك فإن قائد الطائرة قد إتخذ الإجراء اللازم من هذه الزاوية لتلافي الخطر غير أن نية من أطلق الصاروخ تبدو جلية في إسقاط الطائرة بناءً علي معطيين إثنيين..
I. إستعمال سلاح معقد وفائق الدقة بقصد إسقاط الطائرة.
II. .إسقاط الطائرة من هذا الإرتفاع الشاهق.
ما يستفاد من النظر الي جهة الخطر هنا أنه لم يكن هنالك خطر محقق الحدوث يستوحب إجراءات عملية مخالفة لما قام به قائد الطائرة وعندما لا يكون الخطر مؤكد الحدوث تضعف معه المخاطر وتكون بالتالي درجة مخاطر الكوارث طفيفة بالقدر الذي يسمح للطائرة أن تواصل رحلتها بحسب ما هو مقرر لها. وما يؤكد هذا المنحي من تحليل مخاطر الكوارث القائم علي تحديد مستوي الخطر يمكن النظر الي ما أقدمت عليه الحكومة الأمريكية صبيحة يوم 25/7/2014م من منع سفر الطائرات الأمريكية الي مطار بنغورين في إسرائيل وإن لأجل زمني محدود بعد أن هددته أخطار صواريخ حماس التي وقع إحداها في مبني بالقرب منه، فموقف أمريكا هنا من تحليل المخاطر قد قضي بأن الخطر مؤكد الحدوث وبالتالي فإن المخاطر ستكون كارثية وبالتالي منعت طائراتها من منطقة الخطر .. وهذا في حد ذاته يعتبر أحد الدروس المستفادة من كارثة الطائرة الماليزية وحتي هذا الموقف الامريكي قد تمت قراءته سياسياً من كل من حماس وإسرائيل ففحين إعتبرته حماس نصر لها بعزل العدو الإسرائيلي دولياً ، رأته إسرائيل مكافأة "للإرهاب" بينما الموقف في الأصل هو تحليل لمخاطر الكوارث ولا علاقة له بأي شأن سياسي مباشر.
العنصر الثاني الذي ينظر له في سياق تحليل الكارثة من وجهة نظر إدارة مخاطر الكوارث هو الهشاشة والتي تفيد هنا درجة القابيلة للجسم أو المنطقة للتعرض للخطر ومدي القدرة Resilience لمقاومته ودرجة الإستعداد لتلافي آثاره.. فالواضح أن الطائرة بوصفها طائرة مدنية لا تملك أنظمة رصد أو أي إمكانية للمناورة تتفادي بها صواريخ حربية بهذه الدرجة من الكفاءة والدقة، كما أن الطيارين المدنيين لا يخضعون في العادة لتدريبات تجعلهم يتجنبون التعامل مع هذه الصواريخ وذلك بسبب أن مهمتهم ومهنتهم ببساطة ليست قتالية وإنما هي قيادة الطائرة المدنية في ظروف مواتية وأكثر ما يمكن ان يفعلوه هو الهبوط الإضطراري ساعة وقوع خلل فني ما أو حدوث ظروف طبيعية غير مواتية. فالطائرة منظورٌ لها من زاوية قدرتها علي تجنب صواريخ من هذا النوع فإن درجة هشاشتها تعتبر عالية جداً. لذلك لم يكن لها ولا لقائدها أن يتلافي هذه الكارثة التي توافرت علي عنصري الخطر المؤكد الحدوث والهشاشة العالية والتي ترتفع فيها المخاطر بصورة تكمل أركان الكارثة بكل أبعادها.
إن أكثر ما يثير القلق حول كارثة الطائرة الماليزية المسقطة عمداً في الأراضي الأوكرانية هو مبدأ إستهداف الطائرات المدنية بمثل هذه الصواريخ المتطورة ومن هذا الإرتفاع. حيث يشكل هذا الحدث تهديداً حقيقياً لكل عمليات الملاحة الجوية، ذلك لأن الحادث ليس سابقة بالمعني الحقيقي فقد تحتفظ الذاكرة في هذا المقام بحادثة إسقاط الطائرة المدنية الإيرانية في العام 1988م من قبل قوات البحرية الأمريكية التي كانت رابضة في مياه الخليج آنذاك، كما قد يذكر الجميع حادثة تفجير الطائرة بان إم في اسكتلندا والتي عرفت فيما بعد بحادثة لوكربي، والتي حولت لحالة إدانة سياسية وأداة دعاية ضد نظام القذافي. ومع أن سيناروهات إسقاط هذه الطائرات قد يختلف نوعاً وكيفيةً الإ انهم يشتركون في عنصر واحد وهو تهديد السلامة الجوية التي لا يمكن أن تكون محل مساومة طالما كانت الملاحة الجوية أحد أهم عناصر التواصل بين الشعوب وأفضل السبل وأنجعها في الربط بين المسافات المتباعدة في هذا العالم الفسيح. عموماً ومهما يكن من أمر ففي حالة إسقاط الطائرة الماليزية وكما تقدم لم يكن الخطر مؤكد الحدوث غير أن ظروف الحروب والنزاعات قد تساعد علي إنتشار الفوضي وتزيد من قابلية إنتصاب الأخطار علي نطاق واسع حتي في المناطق والأجواء الآمنة وما يزيد من تفاقم مثل هذه الأخطار ما يصحب تلك النزاعات من مخاطر انتشار الأسلحة المتطورة والتي في التقدير العام لا تقل خطورة وفداحة في الأثمان من أسلحة الدمار الشامل التي تشغل بال أميريكا أكثر مما يشغلها مثل هذه الحوادث التي وإن بدت من النظرة الأولي معزولة ومتقطعة الإ أن نذر الكوارث فيها لا تقل فداحة عما يمكن أن تحدثه أسلحة القتل الجماعي، ثم أنه وطالما كانت السمة البارزة للعلاقات الدولية هي حالة فقدان التوازن الأخلاقي وطالما كانت هناك جماعات إرهابية بغض النظر عن خلفياتها الدينية أو دوافعها السياسية فإن الأخطار التي قد لا تكون مؤكدة الحدوث تتحول بين نزوة وأخري لخطر ماحق يتهدد أمن وسلامة الكثير من المواطنين الأبرياء الذين لا دخل لهم فيما يحيق بالجماعات المتحاربة من مظالم تماماً كما كان حال جميع ركاب الطائرة الماليزية.
إن أبرز الدروس المستفادة من هذه الكارثة يتمثل في التحدي المطروح علي الأسرة الدولية في العمل بجدية لتوصيف الحدث ومن ثم تحديد من المسؤول عنه وتقديمه للمحاكمة، ثم تكوين آلية دولية قادرة علي التحقيق في مثل هذه الأحداث من خلال التواجد الميداني في مسرح الحدث، فما يلاحظ في تطور مسار حادثة إسقاط الطائرة أنه لم تفلح أي جهة دولية في الدخول لموقع حطام الطائرة والتحقق من بعض البينات الميدانية الإ بعد مرور أسبوعين كاملين علي إسقاط الطائرة وهي مدة كافية لطمس الكثير من معالم الحادث وذلك نتيجة لحدة المواجهات بين الإنفصاليين الأوكارنيين والحكومة المركزية، كما أن ما رشح من حالات نهب لمتعلقات الضحايا يزيد من تعقيد مهمة أي فريق للتحقيق. وهذا ما أدركته الحكومة الفرنسية بشكل واضح حين وضعت يدها بقوة السلاح علي مسرح سقوط الطائرة الجزائرية التي سقطت بعد اسبوع تقريباً من إسقاط الطائرة الماليزية في الأراضي المالية توطأةً لمعرفة الأسباب الحقيقة لسقوطها، فإذا كانت فرنسا التي شكل رعاياها معظم ركاب هذه الطائرة في حينها قادرة علي التدخل السريع والمباشر في هذه الحالة بسبب تواجدها العسكري الكثيف في المنطقة أصلاً، فمن يضمن لبقية الدول أن يكون لديها ذات الحظوة في التدخل الناجع لحماية موقع الحدث والذي هو ركن أساسي من أركان التحقيق في ملابسات سقوط الطائرات. إن إنشاء آلية بهذا المعني من شأنه أن يعمل كرادع في المقام الأول علي كل من يقدم علي التسبب في مثل هذه الكوارث، ثم أنه من جهة ثانية يضمن للضحايا من الناجين إنقاذ فوري سريع، و للمتوفين إجلاء كريم يليق بآدميتهم حيث أن الأنباء قد تواترت بأن جثث ضحايا الطائرة قد كانت نهباً للكلاب، الأمر الذي فاقم من فداحة الكارثة نفسياً علي أقل تقدير بالنسبة لذوي الضحايا.
د. محمد عبد الحميد
|
|
|
|
|
|