|
سد النهضة والتزامات اثيوبيا القانونية تجاه السودان (2) دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه
|
سد النهضة والتزامات اثيوبيا القانونية تجاه السودان (2)
دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه [email protected]
اتفاقية 15 مايو 1902 بين اثيوبيا وبريطانيا وقع على هذه الاتفاقية الامبراطور منليك وجون هارنجتون المعتمد البريطاني في أديس أبابا. تتعلق مادة واحدة من هذه الاتفاقية بحماية بعض المنابع الاثيوبية لنهر النيل وهي المادة الثالثة. أما المادة الأولى فقد حددت الحدود بين اثيوبيا والسودان من خور أم حجر إلى القلابات ثم إلى النيل الازرق وأنهر بارو وبيبور وأكوبو إلى ميللي ومن ثم إلى تقاطع خط عرض 6 درجة مع خط طول 35 درجة شرقي قرينتش. وأما الحدود من هذا التقاطع وحتى بحيرة رودلف جنوباً قد تم تحديدها باتفاقية أخرى ابرمت في 6 ديسمبر 1907 بين بريطانيا واثيوبيا. وينبغي التنويه إلى أن هذا الخط من النقطة التي تقاطع فيها حدود ولاية النيل الازرق الجنوبية الحدود الاثيوبية وحتى بحيرة رودلف أصبح يشكل الآن الحدود بين اثيوبيا وجمهورية جنوب السودان. وبموجب المادة الثالثة إلتزم الامبراطور منليك تجاه الحكومة البريطانية بألا يقيم أو يسمح بإقامة أي أعمال على النيل الازرق أو بحيرة تانا أو نهر سوباط تحجز إنسياب مياهها إلى النيل إلا باتفاق مع الحكومة البريطانية وحكومة السودان. لقد أعدت الحكومة البريطانية ترجمة انجليزية حرفية للنص الأمهري لاتفاقية 15 مايو 1902. ومن هذا النص نورد ترجمة عربية حرفية للمادة الثالثة من الاتفاقية وذلك على النحو التالي: «لقد وافق جلالة الامبراطور منليك الثاني ملك ملوك اثيوبيا، على أنه على النيل الازرق و بحيرة تانا ونهر سوباط التي تصب مياهها في النيل الابيض لن يشيد، بدون موافقة الحكومة البريطانية، أي بناء من الضفة إلى الضفة سيكون حاجزاً. ولن يعطي إذن لأي شخص لتشييد أي بناء يكون حاجزاً». وطبقاً للمادة الرابعة من اتفاقية 15 مايو 1902 وافق الامبراطور منليك على استئجار الحكومة البريطانية وحكومة السودان لإقليم بالقرب من إتانج على نهر بارو لاستخدامه كمركز تجاري على أن ينقضى الإيجار بانتهاء الحكم الانجليزي - المصري في السودان. واتفق الطرفان كذلك على ألا يستخدم الاقليم محل الإيجار لأي غرض سياسي أو عسكري. أقيم المركز في اتانج في 15 يناير 1904 ولكن تم في اكتوبر من نفس العام نقله إلى جمبيلا لتفشي مرض الكلازار في إتانج. لقد أسهبنا في بسط كل هذه التفاصيل لأنه ترد في بعض المواقع الإلكترونية وفي غيرها مزاعم بلا سند تشكك في صحة اتفاقية 15 مايو 1902 ونفاذها واستمرار التزام إثيوبيا بها. من هذه المزاعم نذكر الآتي: (1) إن النص الأمهري لاتفاقية 15 مايو 1902 لم يصدق عليه من قبل اثيوبيا. (2) إن هناك اختلاف في المعنى بين النصين الانجليزي والأمهري للمادة الثالثة من الاتفاقية. (3) إن حكومة السودان لم تُذكر في النص الأمهري للمادة الثالثة من اتفاقية 15 مايو 1902. (4) إن اتفاقية 15 مايو 1902 قد أُبرمت مع الدولة المستعمرة للسودان أي بريطانيا وأنها قد أنقضت بعد خروج تلك الدولة من السودان.
التصديق على الاتفاقية نصت الفقرة الثالثة من المادة الخامسة للنص الانجليزي لاتفاقية 15 مايو 1902 على أن الاتفاقية كتبت باللغتين الانجليزية والأمهرية وأن النصين الانجليزي والأمهري رسميان. وورد في الفقرة الثانية من المادة الخامسة من النص الأمهري أن الاتفاقية كتبت باللغتين الانجليزية والأمهرية ولكن لم يُنص في هذه الفقرة على أن النص الأمهري رسمي. نصت الفقرة الثالثة من المادة الخامسة من النص الانجليزي للاتفاقية ونفس الفقرة من الترجمة الانجليزية للنص الأمهري على أن تصبح الاتفاقية نافذة حالما يُخطر الامبراطور بتصديق ملك بريطانيا على الاتفاقية. وقد سلم هارنجتون بنفسه تصديق ملك بريطانيا للامبراطور في 28 اكتوبر 1902 واصبحت الاتفاقية نافذة من ذلك التاريخ. كما سلمه في نفس التاريخ تصديق ملك بريطانيا على الاتفاقية التي وقعت أيضاً في 15 مايو 1902 بين بريطانيا وايطاليا واثيوبيا بشأن الحدود بين أقاليم البلدان الثلاثة. لم يشترط النص الإنجليزي للمادة الثالثة الاتفاق مع مصر مع أن مصر طبقاً للتفسير البريطاني لاتفاق 19 يناير 1899 شريك في السيادة على السودان. ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن النص الإنجليزي للمادة الرابعة بشأن إيجار اقليم اثيوبي للسودان يقضي باستمرار الإيجار طالما بقي السودان تحت الحكومة الإنجليزية - المصرية. مع أن مصر لم تشارك في مفاوضات إبرام اتفاقية 15 مايو 1902، إلا أن الحكومة البريطانية أبلغت الحكومة المصرية وحصلت على موافقتها الكتابية على التعليمات التي أصدرتها إلى هارنجتون بشأن المفاوضات. كما حصلت الحكومة البريطانية على موافقة الحكومة المصرية على التنازل عن بعض الأراضي السودانية لمنليك في مقابل الحصول منه على تأكيد بأن بحيرة تانا لن تقع تحت سيطرة شركة خاصة.
خلافة السودان في اتفاقية 15 مايو 1902 بعد انتهاء الحكم الثنائي في السودان وحصوله على استقلاله في أول يناير 1956، أصبح السودان الدولة الخلف لبريطانيا في مواد اتفاقية 15 مايو 1902 المتعلقة بالحدود وحماية المنابع الاثيوبية لنهر النيل حتى وإن لم يرد ذكره بالإسم في المادة الثالثة من الاتفاقية في أي من نصيها الإنجليزي والأمهري. إن الحكم الوارد في المادة الثالثة من اتفاقية سنة 1902 ينتمي إلى فئة الأحكام العينية أو النظم الإقليمية التي ترتب حقوقاً على الاقليم نفسه فتدمغه بوضع دائم لا يتأثر بالتغيرات التي تطرأ على شخصية الدولة التي تمارس السيادة على الاقليم، وحلول دولة محل أخرى في السيادة على الإقليم. فهذا النوع من الحقوق لا يتأثر بحدوث حالة خلافة. وقد دونت لجنة القانون الدولي هذه القاعدة في المادة 12 من اتفاقية فيينا لخلاف الدول في المعاهدات لعام 1978 التي تنص على عدم تأثر النظم الإقليمية بخلافة الدول. تأسيساً على هذا نبدي أن المادة الثالثة من اتفاقية عام 1902 قد أنشأت حقوقاً والتزامات مرتبطة بالنيل الازرق وبحيرة تانا ونهر سوباط، وأن هذه الحقوق والالتزامات لم تتأثر بحلول السودان كخلف لبريطانيا. وقد طبقت محكمة العدل الدولية محتوى المادة 12 في الحكم الذي أصدرته في عام 1997 في قضية مشروع غابتشيكوفو - ناغيماروس بين هنغاريا وسلوفاكيا. نشأت وقائع هذه القضية عن معاهدة أبرمت في سنة 1977 بين هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا بغرض الدخول في استثمار مشترك لاستغلال قطاع نهر الدانوب الواقع بين براتسلافا وبودابست في توليد الطاقة الكهرومائية وتحسين الملاحة والحماية من الفيضانات. وقد اشتمل المشروع على إقامة أهوسة وقناطر وقناة جانبية. وفي 31 ديسمبر 1992 اختفى أحد أطراف معاهدة سنة 1977. فقد انتهى وجود تشيكوسلوفاكيا ككيان قانوني وظهرت جمهورية سلوفاكيا وجمهورية التشيك. وعلى هذا الأساس دفعت هنغاريا بأن سريان معاهدة سنة 1977 قد توقفت بعد 31 ديسمبر 1992. ولكن محكمة العدل الدولية قررت أن معاهدة سنة 1977 أنشأت نظاماً إقليمياً في إطار المادة 12 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978. فقد خلقت حقوقاً وواجبات مرتبطة بأجزاء نهر الدانوب المتعلقة بها. ولذلك فإن معاهدة سنة 1977 لم تتأثر بالخلافة وأصبحت ملزمة لسلوفاكيا ابتداءً من 1 يناير 1993. وقالت المحكمة إن أياً من ا لطرفين لم يجادل في ذلك. ولا تتأثر كذلك بخلافة الدول إتفاقيات الحدود. وقد دونت هذه القاعدة في المادة 11 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978. سبق أن ذكرنا أن المادة الأولى من اتفاقية 15 مايو 1902 حددت الحدود بين السودان واثيوبيا. إن الاتفاقيات المتعلقة بنظم الحدود أو النظم الاقليمية كحقوق المياه أبقى وأكثر دواماً من الاتفاقيات التي أنشأتها. ففي قضية النزاع الاقليمي بين الجماهير الليبية وتشاد أكدت محكمة العدل الدولية «أن الحدود المنشأة بمعاهدة تحقق دواماً قد لا تتمتع به بالضرورة المعاهدة ذاتها، فقد ينتهي سريان المعاهدة دون أن يؤثر ذلك بأي طريقة على استمرار الحدود». هذا بالطبع إلا إذا اتحدت ارادة الدول المعنية على تعديل الحدود باتفاق يبرم بينهما.
التكييف القانوني لتصريحات إثيوبية وزعت الحكومة الاثيوبية على البعثات الدبلوماسية في القاهرة في 23 سبتمبر 1957 مذكرة قالت فيها إنها تؤكد وتحتفظ الآن وفي المستقبل بحقها في اتخاذ كافة الإجراءات المتعلقة بمواردها المائية وعلى الأخص الموارد التي تزود النيل بكامل مياهه تقريباً مهما كانت إجراءات استغلال تلك المياه التي تسعى إليها الدول الواقعة على مجرى النهر. وبعد أن أشارت إلى المباحثات الجارية بشأن المياه التي تتدفق في اثيوبيا بدون أن تستشار فيها، ذهبت الحكومة الاثيوبية إلى حد القول بأن كمية المياه المتاحة للآخرين يجب أن تتوقف على مدى حاجة اثيوبيا المالك الاصلي للمياه لاستخدام تلك المياه لمقابلة احتياجات سكانها واقتصادها. ثم خلصت الحكومة الاثيوبية إلى أنه بعد استيفاء احتياجاتها الوطنية، فإن اثيوبيا ستساهم من خلال مواردها الطبيعية في رفاه سكان جاراتها الشقيقة على ضفاف النيل. وفي مؤتمر المياه الذي عقدته الأمم المتحدة في مارديل بلاتا بالأرجنتين في عام 1977 قدم وفد اثيوبيا ورقة أكد فيها أن اثيوبيا غير متقيدة بأية التزامات تعاهدية تجاه الدول المشاطئة الأخرى في حوض النيل. وجاء في الورقة أيضاً أن اثيوبيا تدرك مصالح دول أسفل النهر وترغب في التعاون معها ولكن في غياب اتفاق رسمي، فإنها تحتفظ بحقها السيادي للمضي منفردة في تنمية مواردها المائية. وحددت الورقة مشروعات زراعية تشمل 000ر225 فدان على النيل الأزرق ونهر تكازي (الستيت) و 000ر71 فدان على نهر البارو. وفي جلسة الجمعية العامة التي عقدت في 21 مايو 1997 لاعتماد اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، قال مندوب اثيوبيا: «وإذ تحتفظ اثيوبيا بحقها السيادي في استخدام مياه مجراها المائي الدولي، فإنها لم ترغب في التصويت ضد اعتماد هذه الاتفاقية وامتنعت عن التصويت، إعتقاداً منها بأن الاتفاقية يمكن أن تكون مفيدة كخطوة أولى في تشجيع وتوجيه المفاوضات بين دول المجاري المائية بغرض التوصل إلى اتفاقات محددة للمجاري المائية تضمن التقسيم والاستخدام المنصفين لمياه مجاريها الدولية». إن التكييف الوحيد للتصريحات الاثيوبية سالفة الذكر هو أنها إحياء أو ارتداد إلى نظرية مندثره لا محل لها في القانون الدولي للمجاري المائية الدولية وهي نظرية السيادة الإقليمية المطلقة. تذهب هذه النظرية إلى أن للدولة حق التصرف كما تشاء في جزء المجرى المائي الذي يقع في إقليمها بغض النظر عن النتائج الضارة التي تترتب على الدول الأخرى المشاطئة للمجرى. وقد يرى البعض في التصريحات الاثيوبية نقضاً لاتفاقية 15 مايو 1902. ولعمري إذا كانت الاتفاقيات وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بنظم الحدود والنظم الاقليمية تُنقض بهذه الخفة لما بقيت على ظهر الأرض معاهدة أو اتفاقية واحدة نافذة. إن الاتفاقية يمكن أن تلغى بإدارة طرفيها، ولكن الإنهاء أو الإلغاء أو النقض أحادياً أي من قبل طرف واحد مخل بالقانون الدولي العرفي للمعاهدات التي تجسده إتفاقية فيينا للعام 1969 ويرتب مسؤولية دولية على الطرف الذي يقدم على ذلك.
تأكيدات اثيوبية باستمرار نفاذ الاتفاقية إن اتفاقية 15 مايو 1902 لا تزال نافذة وملزمة لطرفيها اثيوبيا والسودان ولم يحدث إطلاقاً أن أبلغت اثيوبيا السودان رسمياً بأنها قد نقضت من جانب واحد تلك الاتفاقية أو طالبت بتعديلها أو إعادة النظر فيها. بل على النقيض من ذلك فقد أكدت اثيوبيا في مناسبات عديدة إستمرار التزامها بالاتفاقية. وعلى سبيل المثال نذكر من تلك المناسبات ما يلي: (1) عند اقتراب إنتهاء الحكم الانجليزي - المصري في السودان تبودلت في 5 يوليو / 12 أغسطس 1955 مذكرات بين وزير الخارجية الاثيوبي والقائم بالاعمال البريطاني في اديس ابابا لإنهاء إيجار منطقة جمبيلا للسودان إعمالاً لحكم المادة الرابعة من اتفاقية 1902. (2) البروتوكول الموقع في 3 يونيو 1957 بين حكومة السودان والحكومة الاثيوبية لتسليم اقليم جمبيلا لاثيوبيا. وقد إقتُطفت في المادة الأولى من البروتوكول المادة الرابعة من اتفاقية 15 مايو 1902.
(3) المذكرات التي تبادلها في 18 يوليو 1972 وزيرا خارجية السودان واثيوبيا منصور خالد وميناسي هايلي. نصت الفقرة الأولى من المذكرتين على «قبول أساسي لتخطيط ميجر قوين على أساس اتفاقيتي 1902 و1907 كالحدود بين اثيوبيا والسودان». ولسنا في حاجة للتذكير بأن مذكرتي منصور خالد وميناسي هايلي أكدتا سيادة السودان على مثلثي ام بريقة والفشقة الواقعين على التوالي شمال وجنوب نهر ستيت. ذكرنا أنفاً أن اتفاقية قانون المجاري المائية الدولية لعام 1997 لم تدخل حتى 26 سبتمبر 2013 حيز النفاذ. لم يوقع السودان ولا اثيوبيا على الاتفاقية. ولكن على افتراض أن الاتفاقية قد أصبحت نافذة وأن اثيوبيا والسودان إنضما إلى الاتفاقية فما هو الأثر الذي يحدثه ذلك على الاتفاقيات القائمة بين البلدين؟ تجيب على هذا التساؤل المادة 3 (1) من الاتفاقية. حفظت هذه المادة الاتفاقات القائمة. إذ نصت على أنه ليس في الاتفاقية «ما يؤثر في حقوق أو التزامات دولة المجرى المائي الناشئة عن اتفاقات يكون معمولاً بها بالنسبة لهذه الدولة». ولكن الفقرة (2) من هذه المادة أجازت للأطراف في مثل هذه الاتفاقات «أن تنظر، عند اللزوم، في تحقيق إتساق هذه الاتفاقات مع المبادئ الأساسية». إنتقد وفد اثيوبيا صياغة المادة 3 من الاتفاقية وأبدى أنه كان يود أن تكون مواءمة الاتفاقات القائمة مع اتفاقية المجاري المائية ملزمة في حالة تعارضها مع مبادئها الموضوعية. وخالفه في ذلك وفد مصر الذي ذكر أن ذلك سيكون مخالفاً لقانون المعاهدات وسيفتح الباب أمام تداعيات لا يمكن تقدير مداها في أماكن عديدة من العالم. تفسير المادة الثالثة من اتفاقية 15 مايو 1902 كما ذكرنا آنفاً فإنه بمقتضى المادة الثالثة من اتفاقية 15 مايو 1902 إلتزم الامبراطور منليك بألا يقيم أو يسمح بإقامة أي أعمال على النيل الازرق أو بحيرة تانا أو نهر سوباط تحجز إنسياب مياهها إلى النيل إلا باتفاق مع الحكومة البريطانية وحكومة السودان. تثير هذه المادة تساؤلاً حول تفسير لفظ «اتفاق» الوارد فيها. وبالتحديد ما إذا كانت لفظ إتفاق يعني اتفاقاً طبقاً لمفهومه القانوني أي معاهدة تُبرم بين إثيوبيا والسودان كلما قررت إثيوبيا تطوير مواردها المائية لاغراض الري أو لانتاج الطاقة الكهرومائية. في رأينا أنها لا تعني أكثر من دخول الطرفين في مفاوضات ومشاورات للوصول إلى وفاق أو توافق بشأن التدابير التي تزمع اثيوبيا القيام بها. إن القول بغير ذلك سيعني في التحليل الأخير الإرتداد إلى نظرية مندثرة أخرى وهي نظرية الوحدة الاقليمية المطلقة. تعطي هذه النظرية دول أسفل المجرى المائي حق النقض على المشروعات التي ترغب دول أعالي المجرى المائي في تنفيذها. ونجد في المذكرات التي تبودلت بين اثيوبيا وبريطانيا في 18 و20 مارس 1902 تأكيداً لما ذهبنا إليه من تفسير. فكما سبق أن أوردنا فقد إلتزم الامبراطور مناليك بألا يكون هناك تدخل في مياه بحيرة تانا والنيل الازرق إلا بالتشاور مع الحكومة البريطانية وحكومة السودان. في رأينا أن هذه المذكرات تدخل ضمن إطار اتفاقية 15 مايو 1902، ولذك يجوز طبقاً للمادة 31 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات للعام 1969 استخدامها في تفسير المادة الثالثة من اتفاقية مايو 1902. المادة 31 من اتفاقية فيينا تنص على أن تُفسر المعاهدة بحسن نية طبقاً للمعنى العادي لالفاظ المعاهدة في الاطار الخاص بها وفي ضوء موضوعها والغرض منها. يبدو جلياً من هذا أن تفسير المعاهدة طبقاً للمعنى العادي لألفاظها لا يعني الأخذ بمعنى كل لفظ على حدة، إذ يتعين تفسير الالفاظ في ضوء السياق أو الإطار الكامل للمعاهدة. وتنص المادة 31/2 من اتفاقية فيينا على أن إطار المعاهدة لغرض التفسير يشمل إلى جانب نص المعاهدة بما في ذلك الديباجة والملحقات - وضمن أمور أخرى - «أي اتفاق يتعلق بالمعاهدة ويكون قد عقد بين الأطراف جميعاً بمناسبة عقد هذه المعاهدة». وفي رأينا أن المذكرات التي تبودلت في 18 و20 مارس 1902 بين اثيوبيا وبريطانيا تقع ضمن إطار المادة الثالثة من اتفاقية 15 مايو 1902 لأغراض تفسير لفظ «اتفاق» الوارد في هذه المادة. وإذا كان هناك شك في تكييف مذكرات مارس 1902 كاتفاق فيمكن اعتبارها أعمالاً تحضيرية للمادة الثالثة من اتفاقية مايو 1902. يقصد بالأعمال التحضيرية للمعاهدة الرسائل المتبادلة ومحاضر الجلسات والمشروعات المتبادلة التي سبقت إقرار نص المعاهدة وأي اتفاقيات سابقة أو لاحقه تتعلق بنفس موضوع الاتفاقية المراد تفسيرها. وقد أباحت المادة 32 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات اللجوء إلى الأعمال التحضيرية كوسائل مكملة في التفسير لتحديد المعنى إذا أدى التفسير وفقاً للمادة 31 إلى بقاء المعنى غامضاً أو غير واضح. نخلص مما تقدم إلى أن لفظ «اتفاق» الوارد في المادة الثالثة من اتفاق مايو 1902 لا يعني الاتفاق حسب تعريفه في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات ولا يعني أكثر من التشاور المفضي إلى وفاق أو توافق، ولا تخول السودان حق نقض المشروعات الإثيوبية. ولكنها - أي المادة الثالثة - تلزم اثيوبيا قانوناً بإخطار السودان مبكراً وقبل الشروع في التنفيذ عن أي تدابير تزمع القيام بها على بحيرة تانا أو النيل الازرق وأن تزوده بكافة المعلومات والبيانات المتعلقة بهذه التدابير. وتلزمها كذلك قانوناً بالتفاوض مع السودان بحسن نية بشأن أي ملاحظات يبديها بشأن التدابير المقترحة، أو أي مخاوف يثيرها حول أي أضرار محتملة وسبل الوقاية منها. وقد يحرر ما تتمخض عنه هذه المفاوضات في محاضر أو مذكرات تفاهم أو حتى في اتفاق ملزم اذا اتفق الطرفان على ذلك.
|
|
|
|
|
|