الطبيب السوداني وضع سماعته المرهفة موضع الداء، جس النبض بحذقه المعهود الذي شهدت له به مستشفيات العالم قاطبة، ووصل إلى التشخيص السليم، وحرر وصفة الدواء الشافية. الإضراب السياسي كان هو الدواء لمشكلة هيكلية تطال النظام الحاكم برمته. مشكلة لا تقتصر على المرافق الصحية، إذ تمس التعليم، مثلما تمس الاقتصاد، والسياسة والمشاركة، بل وحتى الحياة الاجتماعية وكذلك الثقافة والآداب.. إنها مشكلة سوء إدارة من أبرز تجلياتها التمكين الحزبي المقيت الذي وضع جهال القوم موضع سيادة وقيادة وأبعد ذوي الكفاءة والقدرة خارج الوطن وتركهم نهباً للمطارات والموانئ ومحطات القطار. إنها الخلل في قيادة بلد متنوع الثقافات بفكر إقصائي وممارسة تفتقر إلى أبسط أسس الحكم الرشيد. الطبيب السوداني كان يقتفي خطى أسلافه الذين مهدوا له الطريق من بروفسير عبدالحليم محمد إلى التيجاني الماحي وخالد ياجي وآلاف غيرهم، كما يقتفى خطى آخرين سبقوهم من أبقراط إلى الرازي وابن سينا. أولئك وهؤلاء كانوا قد أكدوا قدسية مهنة الطب، وضرورة أن يفعل الطبيب ما بوسعه لعلاج مرضاه، لا سيما الفقراء، ومحاربة كل أنواع الشعوذة في أية صورة ظهرت. لم تكن مطالب الطبيب تقتصر على نفسه وزملائه، بل اتجه إلى هموم المريض وضرورات توفير الحد الأدنى لقيام عملية طبية تليق ببني البشر في هذا القطر المترامي الأطراف. لقد دمرت الإنقاذ القطاع الصحي إلى درجة أن رئيس البلد يستنكف عن إجراء أصغر العمليات لنفسه في السودان. ورغم ذلك ظل الطبيب السوداني صخرة صلدة سواء بقي داخل السودان أو هاجر، وما أكثر محطات هجرة الأطباء! إذاً يأتي إضراب الأطباء في وقت مناسب جداً. فقد اطمأنت الإنقاذ من جهة النقابات وانتفاء قدرتها على زعزعة الوضع الحالي مهما وصل إليه من سوء. ذلك أن العمل النقابي بات في أيادي الإخوان المسلمين ومن يثقون في ولائه وقابليته لتمرير أجندتهم السياسية ومؤامراتهم المصلحية الضيقة. استطاعت الإنقاذ أن تظل في الحكم كل هذا الوقت، ورغم التردي الذي شمل كل نواحي الحياة، لمهارتها الشيطانية في تدمير المجتمع المدني، ووضع العيون الأمنية لرصد كل خطوة يخطوها المواطن، وفتح السجون والمعتقلات وبيوت الأشباح على امتداد وطن كان آمناً مطمئنا، يفتح فيه الناس فيما بينهم النفاجات والقلوب الطيبة والنوايا الحسنة. في هذا السياق، أن يقف الأطباء وقفة رجل واحد ليقولوا لا، فذلك أمر غير متوقع لقيادات الإنقاذ ومربك لتدابيرها الأمنية المعهودة. وهو أمر يذكرها بثورة أكتوبر ١٩٦٤م، عندما اضطلعت النقابات، وفي صدارتها نقابة الأطباء، بدور شجاع أحال الشارع إلى كتلة لهب حارق أودى بعهد الديكتاتورية والاستبداد. ولا غرو أن يصبح نقيب الأطباء وقتها، البروفسير عبد الحليم محمد، رحمه الله، عضوا في مجلس السيادة عقب نجاح الثورة. تكرر ذلك المشهد في انتفاضة مارس أبريل ١٩٨٥م، التي أطاحت بنميري، وقد تقلد نقيب الأطباء الدكتور الجزولي دفع الله، منصب رئيس الوزراء تقديرا وعرفانا لهذا الدور الحيوي الذي قام به الأطباء، في إطار منظومة مجتمع مدني ناشط وفعال. الآن، ولنكفل نجاح هذا الإضراب، ووصوله إلى مبتغاه من تصحيح لوضع مهترئ لا يليق بشعب السودان ولا يتفق مع تطلعات الطبيب والمعلم والقاضي والمحامي والمحاسب والموظف والجندي والسائق والعامل وربة البيت والزارع والراعي، ينبغي أن ندرك جميعا أن الأطباء، بعملهم هذا، إنما يعرضون أنفسهم لأقسى ضروب التنكيل وأشد أنواع العقاب، وكل ذلك من أجلنا ومن أجل سودان ظللنا نحلم به طويلاً. إنهم يقفون موقفاً شجاعاً في مواجهة نظام مدجج بالسلاح ويملك من الأحابيل الأمنية ما لا قبل لهم به. إنه نظام يملك آلة إعلامية كاملة العدة والعتاد، وقادرة على تشويه صور الملائكة وتأليه صور الشياطين. لكن الأطباء سيجدون الشعب في صفهم، دعماً تاماً وتأييداً لا يتطرق إليه التخاذل أبدا. وبالفعل بدأت الكثير من النقابات المهنية الأخرى تتجه نحو التضامن مع الأطباء في وقفتهم الباسلة هذه. ونأمل أن تعمل الأحزاب المعارضة شيئاً مساندا وذا مغزى، فقد جاء دورها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة