|
رفع الدعم ووطأة الحرمان/ د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
|
د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
رفع الدعم ووطأة الحرمان
كيف يمكن للسيول والأمطار ان تحدث مثل هذا الدمار (الشامل) وبشكل متكرر، عام بعد الأخر وفي السودان، بلد حباه الله بوفرة من الأنهار ومجاري السيول الطبيعية التي كانت تسمح لمياه الأمطار، مهما غزرت، ان تتدفق في مساراتها الطبيعية وتسمح للنيل والأنهار الاخري ان تتمدد ما شاء لها الله لتفيض وتملأ السهول وان يكون مجراها ومرساها في حدود الظواهر الطبيعية المعتادة في (مدها) و(جزرها)، وفي حدود الاستيعاب البيئي الطبيعي. فلنترك ما للطبيعة والأقدار ما لها ولننظر فيما هو من صنع الإنسان.
ما كان لما حدث في السودان من دمار بسبب الأمطار ان يحدث لولا تدخل الإنسان بشكل متعمد، او بسبب الإهمال وسوء التخطيط او انعدامه تماما وأحيانا بسبب الحاجة الحياتية الملحة والجهل بالعواقب وجميع تلك الأسباب تستدعي المسئولية المباشرة للدولة كمؤسسات والسلطة الحاكمة. كل ذلك يخرق النظام الطبيعي ويخرج عليه بشكل يخالف أي رشد او عقلانية فطرية تدرك بالحس السليم او اخري مكتسبة بسبب التعليم، العلم، التخطيط والتجارب العملية.
هناك عدة أسباب تفسر ما جري أهمها : تواضع عمليات التنمية بمفاهيمها ومضامينها المختلفة‘ غياب التخطيط العمراني ‘ انعدام البنيات التحتية الضرورية بمواصفاتها الحتمية، المتمثلة في شبكات الصرف الصحي ومجاري التصريف، إنشاء الكباري، الجسور وبناء الطرق بشكل هندسي صحيح وأخيرا بسبب تفشي الفقر في الريف والحضر مما ساعد في تمدد العشوائيات وإقامة المنازل من الطين والمواد الهشة، كما زادت الأزمات الناتجة عن النزاعات التي أدت إلي نزوح إعداد كبيرة من السكان من موطنها الأساسي وتمركزها في أطراف المدن خاصة العاصمة الخرطوم، زادت من هول المأساة.
هذه الاحداث جاءت مباشرة قبل ما يسمي برفع الدعم عن الوقود وغاز الطبخ كما سيتم رفع الدعم بشكل تدريجي عن الخبز. هذه الإجراءات كما نبهنا سابقا تتم دون توفر الشروط الاقتصادية اللازمة لذلك المتمثلة في اربع نقاط هي أولا: ان يتم استخدام نظام الإحلال بمعني تحويل العبء من مجموعة من المستهلكين الي مجموعة أخري بشكل يعوض الخسائر في طرف ما بمكاسب في أطراف أخري، عبر توظيف الإيرادات التي تم الحصول عليها، بشكل يحقق توازن اقتصادي يمتص اي صدمات في الأسعار او اي خسارة في مكاسب عوامل الإنتاج ولا يؤثر علي معدلات النمو او القوة الشرائية للنقود بفعل ارتفاع معدلات التضخم. ثانيا: أن يكون هناك نمو في الدخول الحقيقية للأفراد او القطاع العائلي يجعل الدخول قادرة علي تلبية الحاجات الأساسية . ثالثا: ان تتبع الدولة سياسة اجتماعية عبر المدفوعات التحويلية وتوفير السلع والخدمات الاجتماعية عبر الإنفاق العام لتعوض فشل السوق . رابعا: ان يكون القطاع الخاص متمتع بكفاءة في الإنتاج والتنافسية تمكن من التشغيل الكامل للطاقة الإنتاجية والاستخدام الكفء للموارد وتوليد فرص عمل جديدة.
ما يسمي بالدعم، الذي يتم الحديث عنه الان هو الذي يعرف بالدعم (المحاسبي) وليس (الاقتصادي)، لان قياس تكلفة الدعم تتم بطرح سعر تكلفة الإنتاج للسلعة المعنية عن السعر المدعوم. ما دام سعر البيع المدعوم اعلي من سعر تكلفة الإنتاج، فهذا يعني ان الحكومة تحقق أرباحا ولا تدعم. أما قياس التكلفة بناءا علي الأسعار العالمية فلن يكون اقتصاديا، إلا في حالة استيراد السلع من الخارج وهذا يدخل في برامج إحلال الواردات وتشجيع الصادرات وغيرها من حزم التجارة الخارجية وآلياتها وأولوياتها، إضافة لتصنيف أنواع السلع المستوردة حسب الأهمية، إذ لا يمكن مثلا معاملة الأدوية مثلما الملابس او الأدوات الكهربائية او أدوات الإنتاج.
هناك معلومة مهمة أخري ضرورية لتحديد مفهوم الدعم هي انه ولكي يكون هناك دعم، فلابد من فرض ضرائب. يعني ذلك ابتدءا ان الدعم القائم الممول من الخزينة العامة يتم علي أساس ما توفره الإيرادات الضريبية بشكل أساسي، إضافة لكمية لا حصر لها من رسوم الخدمات علي مختلف مستويات الحكم، ماذا يحدث إذن في حالة رفع الدعم بشأن إيرادات الضرائب والرسوم التي سيتم توفيرها؟ إلي أين ستذهب، وكيف سيتم توظيفها؟ ما هو المردود الاقتصادي والاجتماعي الناتج عنها؟ قلنا في نقام سابق انه (.. قبل ان تتوفر إجابة علي هذا السؤال ومن غير تفسير واضح للجدوى الاقتصادية والاجتماعية للإجراء المتوقع، ومن غير نتائج ايجابية خاصة علي المستوي الاجتماعي، فان ما يسمي برفع الدعم الذي تنوي الحكومة القيام به سيتحول الي جريمة (اقتصادية – إنسانية) بكل معني الكلمة).ما يسمي برفع الدعم هو عبارة عن زيادة في الضرائب غير المباشرة المفروضة علي السلع والخدمات المعنية بالقرار، يعني ذلك وبشكل لا لبس فيه أن هذا القرار سيؤثر علي حوافز الإنتاج والعمل وستكون لديه أثارا اقتصادية مضرة علي العاملين المهمين، مع كل ما يشتملان عليه من دلالات اقتصادية، إضافة لتأثيره الضار علي القوة الشرائية لغالبية أفراد الشعب مما يرفع من معدلات الفقر.
الموضوع الأخر متعلق بتحرير سعر الدولار او كما ذكر في قرار سابق (تعويم الجنيه) وتحريك سعره نحو مستوي السوق (الموازي)، دون ان تتوفر الشروط الاقتصادية اللازمة لاستقرار سعر الصرف، خاصة فيما يتعلق بتوفير النقد الأجنبي اللازم فان ذلك سيؤدي الي سباق التتابع الذي لا نهاية له، بملاحقة الجنيه للدولار والذي لن ينتهي إلا بإنعاش اقتصادي تم يتحقق بنمو حقيقي مستدام. هذا لن يتحقق إلا بالخروج من الأزمة الوطنية السائدة عبر إعادة بناء الدولة السودانية وسيادة حكم القانون وحل المشكلة السياسية والأمنية التي تعرقل استقرار البلاد وتغرقها في الأزمات. بغير ذلك لن تستطيع أي إجراءات أخراج البلاد من المتاهة الغارقة فيها والتي تسبب كثير من الاذي والحرمان لغالبية أبناء الشعب السوداني الأبي.
اذا لم يتم السير في اتجاه الحل النهائي للمعضلة القومية فان الأمور ستتجه اجتماعيا الي تفشي جرائم لا يمكن أن ترتكب ناهيك من أن تتفشي، إذا لم يكن الفقر والحرمان من الحقوق تقف وراء دوافعها بشكل سافر. الجرائم التي ترتكب بدافع الفقر والحرمان أصبحت أكثر وضوحا مع التوسع في دراسات الفقر والحقوق الاقتصادية. إذا تجاوزنا الجوانب القانونية وتلك الخاصة بعلم النفس والاجتماع فيمكننا ملاحظة تأثير الفقر والحرمان من الحقوق الأساسية علي مستويات الجريمة، وليس بعيدا عن تلك التي تحدث في السودان. بالتالي فان رفع الدعم والمتاجرة في الأساسيات والتربح من ورائها كما حدث في مواد البناء بعد كارثة السيول والأمطار تعتبر من اكبر مغذيات جرائم الفقر والحرمان. كما يقول علماء الاجتماع فان الجريمة انتهاك للقيم والمعايير الاجتماعية، لكن هل هناك ما ينتهك تلك القيم والمعايير أكثر مما يفعل الفقر؟ هذه الأمور جديرة بالاهتمام أكثر بما لا يقاس مقارنة بمعالجة عجز ما في الموازنة العامة او توفير مصادر للنقد الأجنبي او تلبية لتكاليف الحكم.
في الظروف التي يمر بها السودان سيكون لكل من تعويم الجنيه ورفع الدعم أثارا اقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة حتي مع استبعاد العوامل السياسية. اقل الثار تتمثل في تدهور الدخول الحقيقية وتدني مستويات المعيشة وارتفاع معدلات الفقر, زيادة الفاقد التعليمي وتدني الرعاية الصحية, نقص مكاسب عوامل الإنتاج الأمر الذي سيؤدي في المستقبل الي نقص الإيرادات الحكومية علي مختلف مستويات الحكم – بشكل كمي ومن حيث القيمة الحقيقية- مما يقلل من كفاءة الأداء الحكومي المتواضع أصلا, ارتفاع تكاليف الإنتاج وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة وتدني القدرة علي توفير فرص عمل جديدة، تدني بيئة الاستثمار وزيادة الاعتماد علي القطاع التقليدي وغير الرسمي.في هذه الحالة لا مناص من البحث عن فرص حقيقية لإنعاش النشاط الاقتصادي بتوفير متطلبات الاستقرار السياسي والاقتصادي وخلق بيئة ملائمة للاستثمار المحلي والأجنبي وفي نهاية المطاف تحقيق مسار مستدام للتنمية التي طال انتظارها في السودان، وهذا هو الطريق الوحيد للخروج من وطأة الفقر والحرمان اللذان بتراكمهما سيؤديان الي نتائج مدمرة لجميع أوجه الحياة الإنسانية وقيمها.
عن مجلة الحياة الاقتصادية – العدد الثالث- سبتمبر – 2013م
|
|
|
|
|
|