|
رسالة مفتوحة للسيد خالد موسى والمثقفين الإسلاميين/محمد محمود
|
الاثنين 26 مايو 2014 عزيزي السيد خالد موسى أوجّه هذه الرسالة المفتوحة لك وللمثقفين الإسلاميين الذين لا يزالون منحازين للمشروع الإسلامي. ولقد اخترت أن تحمل الرسالة اسمك لثلاثة أسباب: 1. لأنك من أبرز المثقفين الإسلاميين الذين يبدون اهتماما بأمور الفكر، 2. ولأنك دبلوماسي يشغل منصب نائب السفير في سفارة النظام ببرلين (وأرجو أن تعذرني أنني لا أستطيع القول "سفارة السودان" لأن مثل هذا الكيان مرجأ إلى أن تعود الديمقراطية)، وقد قامت السفارة تحت إدارتك بإصدار بيان يزعم بأن الحكومة لا علاقة لها بالقرار الذي صدر بإعدام وجلد وسجن المواطنة مريم يحيى بعد إدانتها بتهمتي الرِّدة والزنا وذلك لأنها تطبّق مبدأ فصل السلطات حيث السلطة القضائية منفصلة انفصالا تاما عن السلطة التنفيذية ولا تستطيع الأخيرة التأثير على السلطة القضائية. كما أكّد البيان (مثلما هي العادة في مثل هذه البيانات) أن الحكومة تلتزم بمواثيق حقوق الإنسان وتحترم حرية الأديان (وحسب علمي فإن سفارتك هي السفارة الوحيدة التي أصدرت مثل هذا البيان حتى الآن). 3. ولأنني قد سبق أن أَثَرْتُ معك موضوع المادة 126 ومسألة حرية الفكر والاعتقاد والضمير في الإسلام في معرض كتابتك عن كتابي نبوة محمد: التاريخ والصناعة. وأنت كدبلوماسي تعلم أن الدبلوماسي لا يتم الاعتراف به إلا بقبول أوراق اعتماده. وهناك شيء شبيه بذلك يتم في عالم الفكر، إذ أن الدخول فيه لا يتم إلا بورقة اعتماد أساسية وهي الاعتراف غير المشروط بحرية الآخرين الفكرية --- إنك لا تدخل عالم الفكر حاملا سيفك تهدد بقطع رقاب من لا يؤمنون بقناعاتك وإنما تدخله حاملا قلمك تدافع عن قناعاتك بالحجة وتحترم حق الآخرين في التعبير عن قناعاتهم. والفرق بين عالم الدبلوماسية وعالم الفكر أن عالم الدبلوماسية يبيح الكذب (وربما يتطلّبه أحيانا)، أما عالم الفكر فهو عالم يتطلّب الصدق إذ لا قيمة لما تقول إن لم تكن صادقا فيما تقول (بصرف النظر عن صحّة ما تقول واتفاق الآخرين أو اختلافهم معك). ولعلك تتفق معي أن الصدق الفكري غير ممكن عندما تنعدم الحرية (ولقد عالجت هذه القضية في كتابي نبوة محمد وأبرزت كيف أن قهر محمد لأعدائه في المدينة ولّد واقعا نفاقيا ما لبث أن وقع المؤمنون أنفسهم أسرى له، وهو بكل أسف واقع نفاقي لا تزال المجتمعات المسلمة تعاني منه). لا شك أنك تعلم حق العلم (وأنا أقول ذلك لأني لا أتهمك بالعلم فقط وإنما أيضا بالذكاء والقدرة على التمييز) أن ما ورد في بيان السفارة عارٍ من الصحة. وبالإضافة إلى أنه عارٍ من الصحة على ضوء حقائق طبيعة النظام السوداني فإنني كنت أتوقع أن يصدمك منطقه أيضا حسب مقياس فكرك الديني. إن فكرة فصل السلطات فكرة أوربية وغريبة على النظرية والممارسة الإسلامية. إن كان النموذج الذي تريد أن تقدمه للسودانيين وللعالم هو نموذج دولة محمد (ولا شك أن هذا هو أعلى نموذج من الممكن أن يقدّمه الإسلامي) فإن دولة محمد لم تكن دولة فصل سلطات إذ جمع محمد في يده السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية. ولا شك أنك تعلم من التاريخ أن دولة خلفاء محمد في المدينة سارت على نهجه وأن مجمل تاريخ الدولة الإسلامية بعد دولة المدينة يعكس روح دولة محمد (ويمتدّ هذا للنماذج الحديثة بما فيها النظام الحالي في السودان). لقد طلبت منك في السابق البدء بإدانة المادة 126 إن كنت تريد أن تكون ذا مصداقية فكرية حقيقية تليق بقيم عصرنا. إلا أنك بكل أسف حرّفت معنى كلامي وأخرجته عن سياقه عندما قلت ردّا عليه "[إنني] لا أملك أي سلطة مادية في إبطال أو دحض مادة الرِّدة في القانون الجنائي السوداني". وكما قلت في الرد عليك إنني لم أطالبك بـ "إبطال" المادة لأنني أعلم أنك لا تملك "سلطة مادية" لفعل ذلك، وإنما طالبتك فقط بإدانتها إذ بدون هذه الإدانة لمادة تقمع حرية الفكر والاعتقاد والضمير لن تكون مؤهلا للخوض في حوار فكري، فالشرط الأولي لمثل هذا الحوار هو احترام الحرية الفكرية الكاملة للطرف الذي تدخل في حوار معه. صحيح أنك لا تملك "السلطة المادية" --- ولكنك تعلم حق العلم أنني كنت أتحدث عن سلطة أخرى يملكها المثقف وهي "السلطة المعنوية" لمن يمسك بقلمه ويعبّر عما يعتقد. إنك صاحب قلم (أو "يراع" كما شاء تعبيرك) فارَقَ الأعراف الدبوماسية التي أرساها ذلك الجيل الرائد للدبلوماسيين الأوائل في الخارجية السودانية والذين كانوا يحتفظون بمواقفهم الفكرية لأنفسهم لأنهم كانوا يدركون أن التعبير عن الانحيازات الفكرية يتعارض مع مهنية عملهم. وهكذا فإنك ترى أنك قد مارست السلطة "المعنوية" للمثقف ولكنك بكل أسف مارستها من موقع الانحياز للمادة 126 ولمشروع القهر الإسلامي. لقد كتبت وقلت مرارا إن الإسلام هو أكثر الأديان قهرا لحرية الفكر والاعتقاد والضمير اليوم. وفي تقديري أن التحدي الكبير الذي تواجهك به قضية مريم (المسجونة والحامل والمكبّلة والتي يعيش معها في حبسها البائس طفلها ذو العامين) وتواجه به كل المثقفين المنحازين للمشروع الإسلامي هو الإعلان عن واحد من موقفين: إما أن تقولوا إن المادة 126 هي الشريعة وأن الشريعة فوق المواثيق العالمية لحقوق الإنسان ولن نتراجع عنها، وإما أن تطالبوا بإلغاء هذه المادة لأنها تتعارض مع حرية أساسية خليق بكم كمثقفين أن تدركوا أهميتها وحيويتها. خياران لا ثالث لهما. وإن اخترتم الصمت (وهذا بكل أسف ما أتوقعه ولكني أتمنى أن يكون توقعي في غير محله) فإن هذا لن يكون في واقع الأمر صمتا وإنما انحيازا للمادة 126. مع خالص تقديري محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان. [email protected]
|
|
|
|
|
|