عزيزتي الابنة/ عبير سويكت.. قرأت مقالك حول التعاون السودانى الإيطالي و الذي عبرت فيه عن سعادتك بالقاء القبض على الداعشي الفزان.. و جنحت إلى الحديث عن أن " الصحف السودانية والإعلام السوداني جميع أخبارهم واهتماماتهم تصب في مصب واحد هو المعارضة والحكومة والمكائد والضغائن والشتائم وكيفية إسقاط النظام والاسطوانات المعروفة"..
كنت مشتعلة في مقالك.. و الأسعار في السودان تشتعل..!
فرحنا و فرح كثيرون، كما فرحت أنت، عقب القاء القبض على الداعشي الفلتة.. ولا نشك في أن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة قد فعل فعل السحر في تسريع عملية التضييق الشديد على الداعشي التونسي و دواعش مصريين آخرين لإثبات جدية النظام في محاربة الارهاب المتأسلم. هذا إلى جانب تأثيرات الأزمة الاقتصادية السودانية.. و تنازل نظام البشير عن شريعته ( المدغمسة) نزولاً عند رغبة دول الخليج طمعاً في الريالات و الدولارات و الدراهم.
أرجوك ( روِّقي المنقة شوية).. و لا تحمِّلي المعارضة كل جرائم الحكومة.. أو تجعلي المعارضة و الحكومة يتساويان في الجرم، و لكل منهما جرائمه الخاصة به!
فكيف تجرمين المعارضين عند تخطيطهم لاسقاط النظام المتهالك و الاقتصاد منهار و خطاه تتسارع نحو الهاويةً.. و ها هي سفارات و أصول السودان في الخارج مهددة بالاستيلاء عليها من قبَل الدائنين.. و لم يبقَ للنظام سوى اعلان تفليسة البلد المأزوم.. و تكمن أزمته الكبرى في عدم قدرته على احتواء الأزمات و الحيلولة دون وقوعها.. و ما أزمات دارفور و جبال النوبة و النيل الأزرق سوى دليل عجزٍ النظام عن تفادي تلك الأزمات قبل أن تطل برأسها.. و فشله بعد ذلك في إدارتها، بوعي و إدراك، بعد وقوعها... فاستمرت الأزمة و استمر الكر و الفر بين النظام والحركات المسلحة..
و بلغ الصرف على تأمين النظام أرقاما مهولة تتضاعف عاماً بعض عًام تسلب قوت المواطنين.. و الانتاج ينكمش عاماً بعد عام.. و أرقام العاطلين عن العمل ترتفع بشكل مخيف.. و العطالى من الخريجين يبحثون عن وظائف و ( لا توجد وظائف خالية) دون توصية.. و خريجو كليات الهندسة العطالى يسوقون الركشات أو يجلسون وراء طبليات تبيع ( الاسكريتشات) و ( اكسسوارات) و ( كفرات) التلفونات و سلع خفيفة أخرى لا يحتاج التعامل فيها لدراسة الهندسة ..
لو كانت المعارضة قوية بما فيه الكفاية لسقط النظام منذ زمن.. و بدون ضوضاء.. و لكرر قائلٌ من الحكومة قول نزار قباني: " ما دخل اليهود من حدودنا لكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا"..
و عيوب الحكومة لم تتسبب فيها المعارضة في المبتدأ.. إنما سببتها الأنانية الموغلة في الذاتية ( الإخوانية).. و التهور الأرعن.. و ادعاء القدرة الأبدية على الاستفراد بحكم البلاد إلى الأبد.. و ( الزرعنا غير الله اليجي يقلعنا..)!
و الأسعار تشتعل!
عزيزتي الابنة/ عبير، أكاد أرى التشاؤم يتجول بين شبابنا القادر على الانتاج.. و الطرق المفضية إلى الانتاج مغلقة بحواجز ( التمكين) صلبة الاختراق.. و الشباب مكبل في زنزانة الحاضر دون حراك.. يدفعه اليأس إلى التخطيط للهروب من البلد.. و ليتك تجلسين وسط مجموعة منهم كي تعرفي الزاوية الكئيبة التي ينظر الشباب إلى المستقبل منها.. و نفس الرؤية القاتمة تغرق أرباب الأسر رجالاً و نساءً..
و الأسواق نار تشتعل يومياً..!
ليتك تقومين، في رحلة استكشافية، تغشين أثناءها الأسواق الطرفية فربما رأيت مأساة السودان في ابتسامة امرأة أسعدها شراء مصارين و ( قلانقيت) فراخ لإطعام صغارها.... أو في فرحة أخرى حازت على بعض ( كوارع) فراخ و ( حبة) صلصة تم (كيلها) بملعقة شاي.. أو امرة ثالثة سعيدة بكيس بلاستيك بداخله ( ميس كول) من ( عفشة)، أي نصف ربع كيلو ( كرشة) عجل يا عبير.. نصفُ ربعِ كيلو ( كرشة) عجل يسعد من استطاع إلى نصف الربع سبيلا! و عدد السعداء بالوصول إليه قلة فقط ..و تتضاءل القلة يومياً وسط زحمة السوق..
و الأسعار تشتعل..!
الأسعار تشتعل، دون مبالغة يا عبير! و لو كانت المعارضة قوية بما فيه الكفاية لتهاوى النظام.. و سوف يتهاوى، و الأسعار تشتعل..!
الأسعار تحرق اللين و اليابس.. و عكسها انتشرت في أسواق مهمشي السودان نظرية ( قدِّر ظروفك) التي ابتدعتها تكافلية الانسان السوداني البسيط، و لأنها أشبه ما تكون بالتكافل المجتمعي الكامل، فهي الوحيدة التي تجمِّل بؤس حياة فقراء السودان.. و السودانيون في غالبهم يقدرون ظروف بعضهم البعض و تلك محمدة و أي محمدة..! إنها مصدر القدرة على استمرار الحياة في بطن غول الغلاء الشره..
و الأسعار تشتعل!
عزيزتي الابنة/ عبير، هل سمعت تشبيهاً أبلغ من التشبيه السائد الآن في سودان ( الانقاذ) عن أن " عنقريب الجنازة ما برفعو زول واحد! "؟ إنها كناية عن العجز في القيام بمستلزمات الأسرة التي يصعب على المواطن الفرد القيام بها، اللهم إلا المنتمين لطوائف النظام الحاكم و مواليهم.. و باقي السودانيين يقفون على الرصيف في انتظار الفرج..
و الأسعار تشتعل!
تلك بعض الأوجاع التي يعكسها الاعلام المعارض و ليس بإمكانه أن يعكس سوى واقع الحال المعاش في السودان.. و عند عكس الحال أمام الاعلام، ينبري اعلام النظام بالسباب.. و الشتائم.. و التخوين و التحديات و وراء الاعلام النظامي قدرات مالية مهولة تساندها الدبابات و الكلاشينكوف على أهبة الاستعداد لتنفيذ ( لزوم) ما لا يلزم!
لا أود أن أسألك عن آخر مرة زرت فيها السودان.. و لكن أذكرك بأنك إذا كنت في السودان و غادرتميه قبل اسبوع، فتأكدي من أن الفقراء قد ازدادوا فقراً مضاعفاً و أن الفقر يسارع الخطى نحو متوسطي الحال من غير ( الطائفة) الحاكمة.. و أنك كنت ستدفعين 200% من الثمن المطلوب لتذكرة الطائرة التي أقلتك إلى الخارج قبل اسبوع.. و الأسعار تتوحش و تشتعل في غابة بلا حارس.. و الداعشيون السودانيون الحاكمون يعيشون خارج دائرة الشريعة و هم الذين كانوا يصرخون في زمان غابر:- " شريعة سريعة و الاَّ نموت.. الإسلام قبل القوت..".. و لم يتبق شيئ من الاسلام في دفاتر يومياتهم.. بينما يعيشون عيشاً هنياً و الشعب هو الذي يموت لانعدام الدواء و القوت..
قال الإسلام قبل القوت قال!
عزيزتي الابنة عبير إننا لا نتكلم كثيراً عن الاقتصاد العالمي و لا التجارة العالمية، ولا عن التطورات في عالم الصحة العالمية لأن سوداننا خارج تلك الدائرة، لكننا كثيراً ما تطرقنا إلى تدني التعليم، و تحدثنا و نتحدث عن كل ما له تأثير على مجتمعنا.. و لما كان وجع القلب يؤرق مجتمعنا فواجبنا أن نعكس الآلام التي تمور في قلب المجتمع.. و السعي لعلاج العلة، و أن نبيِّن للجميع أن العلة هي النظام و متنفذيه المستفزين دائماً.. ( أراذل القوم..)!
و نعود إلى موضوع الداعشي الفزاني و الدواعش المصريين و نتساءل عن كيف عرف الطليان مكان وجود الفزاني و كيف أبلغوا الأمن السوداني عن مكانه.. و كيف عرف المصريون أماكن تواجد الدواعش المصريين و التبليغ عنهم كذلك؟ و نحن نعلم أن أمننا يعلم ما يحدث و لا يتصرف لأن يد متنفذين من داخل النظام تمنعهم عن تعكير صفو الدواعش!!
و قصارى القول، إن النظام وحده الذي شوه صورته الداعشية أمام العالم منذ بن لادن.. و مع ذلك تقولين أن المعارضين يستخدمون الخوف من الاسلام لتشويه صورة السودان في الخارج .. تقولين ذلك لأنك لا تعلمين أن الدواعش موجودون بين ظهرانينا منذ بدايات الانقاذ.. موجودون بكثرة و لا يحتاج المعارضون إلى أي مجهود لعرض بضاعة ملأت السوق و ظهرت على شاشات القنوات العالمية بكل تفاصيل مكوناتها..
عزيزتي الابنة/ عبير.. روقي المنقة شوية..
و لا يفوتك أن نظام الانقاذ يسعى حالياً للقبض على دواعش مصريين.. و شرع أولئك الدواعش في تغيير أماكن سكنهم بالخرطوم ، و انتقل بعضهم إلى مدن سودانية غير الخرطوم تفادياً للقبض عليهم و تهجيرهم إلى مصر.. إنهم يتنقلون في السودان مستفيدين من حرية التنقل مكفولة لهم وفق الحريات الأربع سيئة الذكر..
إن النظام لم يتسارع بتقديم الفزاني إلى إيطاليا عن عبقرية إيجابية.. و لم يلقِ القبض على الدواعش المصريين إلا ليجمِّل صورته الداعشية المقيتة أمام العالم، خاصة بعد انتخاب ترامب الذي آل على نفسه أن يحارب الارهاب في أي بقعة على وجه الأرض.. و قد ضم ترامب إلى إدارته غلاة المحافظين لتنفيذ وعوده الانتخابية.. و على النظام في السودان أن يحذر تهور ترامب.. و أن يحذر الأسعار و هي تشتعل..
كتبت قبل هذا عن عدم استخدام سلاح المظاهرات لإسقاط النظام.. و أن الظرف كان و لا يزال مواتياً للعصيان المدني أكثر منه للمظاهرات.. و أن الأسعار سوف تشتعل و تظل تشتعل إلى أن تصل مرحلةً يخرج الموتى فيها من قبورهم للدفاع عن أقربائهم الأحياء المتظاهرين ضد الموت جوعاً..
و الأسعار تشتعل، أقول للنظام الحاكم في السودان ما قال الشاعر جمال حسن سعيد مخاطباً نفسه الشفافة: " وين مهربك.. من دفترك.. من مظهرك!"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة