كتب السيد النبيل سعيد محمد عدنان مقالا بعنوان (رد على الأستاذ محمد وقيع الله في حرمة زواج المسلمة من النصراني) ردَّ به على مقالي الردِّي على الأستاذ عبير المجمر، وكان حسنا أن وجه الأستاذ عدنان الأمر إلى أصوله الأولى؛ أي إلى مصدره التشريعي الذي نجم عنه، وأقام جداله بعد ذلك على هذا الأساس الوجيه الذي به يُختصر الجدال. وقد استخدم الأستاذ عدنان عبارة (مصدرية القداسة الدينية) تعليقا على قولي للأستاذة عبير:" فهذه مسألة دينية شرعية تحكمها مصادر الوحي السماوي لا مصادر العقل البشري" وقال إنه يتفق معي في هذا إلى الدرجة القصوى:" لأن الدين أساسا عبادة لله بالتسليم له لأوامره والانتهاء من منهياته؛ التسليم له بذكره وحمده وسؤاله (الذكر والصلاة)، والتسليم لأوامره (الزكاة والحج والصوم وكل ما أمر به في آياته البينات) والانتهاء عن منهياته؛ وهي كلها منزلة أوامرها بآيات بينات". ولكن طرأت الشبهة إلى ذهن الأستاذ عدنان عندما تطرقتُ عرضا إلى موضوع الإجماع الفقهي على عدم مشروعية زواج المسلمة من غير المسلم وقلتُ إنه:" لا يمكن رفض إجماع علماء الشرع على مرِّ العصور تعويلا على قوة العقل الإنساني المجرد أو على دعوى الحرية الشخصية وحرية الفكر". وكأنما أوحى قولي هذا بأن مصدرية تحريم زواج المسلمة بغير المسلم هو الإجماع الفقهي وحده، وهو أمر غير صحيح، أو لنقل إنه غير دقيق. وقد التبس قولي هذا غير الدقيق على الأستاذ الفاضل فعلق عليه قائلا:" أتفق معك في ذلك بوصف فتاوى وإجماع العلماء اجتهادا بشريا وليس له في القداسة من شيء لاستثنائه من محصّل القداسة التي تمثل الدين؛ أي أمر الإله الواحد الأحد". ويحملنا هذا التعليق الوارد من قلم الأستاذ الفاضل على أن نأتي بالتعريف الصحيح لمفهوم الإجماع الفقهي الذي يعتبر مصدرا من مصادر التشريع، ثم نتطرق بعد ذلك للإجابة عن السؤال المشروع المرفوع في وجه هذا التعريف وهو: هل يوجد إجماع في الحقيقة بهذا المفهوم؟! يُعرَّف الإجماع من حيث الاصطلاح على أنه: اتفاق جميع علماء الدين المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي عملي، فإذا اتفقوا سواء كانوا في عصر الصحابة أو بعدهم على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعا، وكان العمل بما أجمعوا عليه واجبا. وتُلتَمس حجية الإجماع كمصدر من مصادر الشريعة الإسلامية في قول الله تعالى:(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) النساء:115. وفي قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة". صححه الألباني. وقد كان الصحابة يجتمعون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يتدارسون الأحوال المستجدة، ويَرجِعونها إلى الشرع، كل بما عرف من النصوص ومدلولاتها، ويتفقون على الحكم الشرعي حسبما تقرره النصوص ومقاصدها. وظل هذا النهج متبعا للفقهاء من التابعين، ومن تبعهم بإحسان، يحاول كل منهم ألا يشذَّ عن جمهرة أهل العلم برأي، إلا أن يجد له أساسا أقوى من الأدلة الشرعية. والإجماع الشرعي المعتبر حقيقة هو إجماع العلماء المجتهدين المختصين في الموضوع محل البحث، ولا أثر لغيرهم من العوام والمبتدئين الذين لم يتعمقوا الموضوع ولم يَسبُروا غوْره. وفي هذا يقول الإمام محمد بن علي الشوكاني:" الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن، العارفين به دون من عداهم، فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء، ولو خالف أهل الإجماع واحدٌ منهم لا يُعدُّ الإجماع قد انعقد". وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة:" لا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول الجمهور". وقد لاحظ الإمام الشافعي أن الإجماع إذا افتُرض فيه أن يكون شاملا لجميع الفقهاء المجتهدين في الموضوع محل النظر قد لا يقع أصلا بهذه الصفة، وذلك نظرا لاتساع دار الإسلام، وتكاثر الفقهاء المجتهدين، وتعذر حصول المعرفة بهم جميعا، وصعوبة جمعهم على صعيد واحد. ويمكن أن نضيف إلى ما ذكره سيدنا الإمام الشافعي أنه لا يوجد أصلا اتفاق عام على معايير صارمة تَميِز العالم الفقيه المجتهد من غيره من الفقهاء غير المجتهدين. ويضاف إلى ذلك من مشاهد الواقع المعيش أن أمة الإسلام قد تفرقت طرائق قددا. وبناء على هذا الوضع يصعب مثلا أن يتفق علماء الشيعة مع علماء أهل السنة والجماعة. إذ من دأب علماء الروافض أن ينظروا دائما إلى أين يقف علماء السنة والجماعة في مسائل الدين؛ من أجل أن يتخذوا مواقف مخالفة ومناوئة لهم. وبالعموم فيستبعد اتفاق العدد الجمِّ الضخم الوفير من الفقهاء بهذا الوضع الموصوف على حكم شرعي معين. اللهم إلا إذا كان لهذا الحكم الشرعي مستند شرعي أكيد واضح لا خلاف عليه من القرآن الشريف أو السنة المكرمة أو من المصدرين كليهما. وهذا ما قصدته حين أشرت في مقالي في الرد على الأستاذة عبير إلى أنه لا يمكن رفض إجماع علماء الشرع على مرِّ العصور على حرمة زواج المسلمة من غير المسلم. فإن علماء الإسلام من أهل السنة والجماعة لم يجمعوا هنا على أمر اجتهادي لم يسبق النص عليه بشكل قاطع في الكتاب أو السنة. وإنما أجمعوا بهذا الخصوص على أمر بتَّ فيه القرآن الحكيم بتا نهائيا؛ وذلك في قول الله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة:5. وهذه الآية قاطعة في مفهوم الأصوليين من ناحية دلالتها الحكمية الباتة النهائية الطابع والصفة بعدم حلِّ زاوج المسلمة من غير المسلم. فالإجماع الذي أشرتُ إليه بصدد هذا الموضوع ليس إجماعا اجتهاديا، كما أشار الأستاذ عدنان، وإنما هو إجماع اتباعي، لا يُعرف له شذود في اتباع هذا الحكم الملزم الذي جاء به القرآن الحكيم. وأما ما استأنس به الأستاذ عدنان من رأي الدكتور الترابي الذي يُحلُّ زواج المسلمة من الكتابي فهو من الشذوذ الذي لا يؤبه به. بل هو من قبيل المخالفة البيِّنة المتعمَّدة للأمر الشرعي القاطع. (ولنا عودٌ إلى الموضوع بإذن الله)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة