بحسب صديقنا المشترك هاشم محمد صالح، كانت تلك آخر محادثة هاتفية له، والتي جرت بيننا قبل أيام قلائل من رحيله، وكان وقت ذاك قد أفاق من غيبوبته الأولى لبرهة من الوقت، وعندما رد عليَّ لاحظت وهناً في صوته، وسألته ما إذا كانت الوعكة الخفيفة التي ألمت به قد تفاقمت، وأردفت متلهفاً قبل أن يرد على تساؤلي بالاستفسار عن ضعف صوته، فأجابني بذات الصوت المتهدج، وقال إنه طريح الفراش، بل في غرفة الإنعاش تحديداً. فألجمتني المفاجأة عن الاسترسال، لربما شعر بذلك، فحاول بكلمات التطمين المعهودة أن يخفف عني هول ما سمعت، ذلك كان العهد به دائماً حينما لا يريد لمحدثه أن يداهمه قلق جراء شيء ذرَّه على مسامعه. بل كان ذلك نهجه في الحياة كلها وهو يحاول دوماً، إما أن يخفي آلامه أو يقلل من وطأة معاناته مع مرضه العضال الذي تطاول أمده. (2) قلت له إذاً لن أطيل معك الحديث، ودعنا نتحدث غداً، وهو الغد الذي لم يأت مطلقاً. فقد دخل بعدئذ في غيبوبته الثانية، والتي كان ينازع فيها سكرات الموت حيناً فحينا. ذات الموت الذي كثيراً ما طاف عليه ووجده أكثر تمسكاً بالحياة، ليس من أجل متعة أو رفاهية يرتجيها، ولكن لأنه كما أعلم لديه العديد من المشاريع السياسية والفكرية التي لم تنجز بعد. بيد أن إرادة الموت كانت غلابا هذه المرة، وأبت أن تتركه يكمل الذي عاش من أجله وسخّر حياته له. فلم يكن عبد الماجد أو ماجد أو بوب أو علي، الذي تعددت اسمائه بين محبيه، يرى الكون وإنسانه بمنظار أحادي. فالإنسان في نظره باختلاف عرقه وإثنيته ولونه ومعتقده وتعدد ثقافاته وأفكاره ومشاربه السياسية واحد لا يتجزأ، ولا فضل لتميَّز على آخر إلا بمزيد من الإنسانية! (3) بالرغم من كثرة أصدقاء بوب والذي أناديه توقيراً بالبروف أيضاً، كنا نتحادث بصورة مستمرة، بل أزعم متباهياً أنه لم يطلُ الحديث مع أحدٍ ولساعات طوال بمثلما اعتاد معي. وفي واقع الأمر كنت عندما أحادثه – بل لعل ذلك ديدن كل من يحادثه – أنسى نفسي تماماً، وهو بين الفينة والأخرى يقول عبارته الاعتذارية بذاك الحس الإنساني الرفيع (يا أخي أطلت عليك) وكنت أنفي تماماً ليس مجاملة، ولكن لأن الحديث معه لا يُمل. فقد كان بالنسبة لي – بل بالنسبة لعارفي شخصه – وعاء يجمع كريم الخصائل الإنسانية، ومستودع للحكمة والعلم والمعرفة. (4) كنت كلما ضاق صدري بأمر ما في شأننا العام ألجأ إليه كما يلجأ التائه لدليله، فأجد الرأي السديد الذي يجنبك مغبة ما لا يحمد عقباه، أي حينما تغيب الحكمة في ساعات الضيق النفسي أو الغضب. لهذا فلا غرو أن بدأت منذ رحيله الفاجع أحس بشعور ذاك الطفل الذي ضاع من أبويه في لحظة زحام، بل شعور اليتُم الذي يجعل الدنيا تسود في ناظريك، وتحس بتعاستها وتقزُمها وتفاهتها. وفي واقع الأمر لا يخالجك أدنى شك في أن بوب خُلق من أجل أن يزرع الأمل في قلوب الناس، وألفته كثيراً في وضع المعاذير مسبقاً لمن أخطأ وتنكب الطريق. فكنت أقول له كلما مارس تلك الفضيلة، إنك تذكرني بصديقنا علي عبد القيوم، الذي استعجل الرحيل أيضاً، وأورثنا حزناً ما نزال نلعق طعمه المر برغم تقادم السنوات. (5) كان بوب يؤمن بالعمل الجماعي Team work ولهذا تجده يرفدك بالأفكار النيرة والخلاقة، وينتخب لك من هو يستطيع أن ينجز معك ذلك الأمر، ثم يقول لك بتواضعه وأدبه الجم، يمكن أن أرسل لك خطوطاً عريضة ربما تستفيدوا منها. وأقول دون أن أغمط أحداً حقه، إنني ما رأيت إنساناً غيوراً على وطنه مثل بوب. وما رأيت إنساناً جعل لوطنيته لساناً وشفتين، وأصبحت هماً مقيماً في حياته مثل بوب. وما يكفي أنه ظل شاهداً أكثر من نصف قرن قضاه متبتلاً في محراب الوطن وهمومه. ومن فرط نكرانه لذاته - الذي دأب عليه - يشعرك كلما حدثك في شأن متصل، كأنه عرف لتوه الدار بعد توهم، في حين هو من ظلّ يتابع الليل بالنهار ويلوم نفسه إن غمض له جفن! (6) يأسرني بوب دائماً حينما يسأل محدثه عن الشأن الخاص قبل تناول الشأن العام، ثمَّ يستغرق معك في الحديث عن الأسرة حتى يكاد ينسى نفسه، ولا يطيب له السؤال إلا بعد أن يسأل عنهم بأسمائهم فرداً فرداً، بل لا يكتمل حديثه إلا عندما يُحمِّلك التحيات الزاكيات كخاتمة لازمة. وبالقدر نفسه كان حفياً بأصدقائه، لا يتحدث عنهم إلا بالذي تود النفس أن تسمعه، وكان يكثر من السؤال عن من غاب عن ناظريه حيناً من الدهر بسبب شاغل من شواغل الدنيا. لا أدري كيف سيستقبل صديقنا المشترك حلمي شعراوي الخبر الأليم، فقد كان يحرص أن يُحمِّلني السلام له كلما يممت وجهي شطر القاهرة، ولا ينسى بعث تمنياته الدائمة له بأن يكون قد ترك التدخين. وحلمي الذي نسميه بسفير السودان في مصر، نشأت بينه وبوب علاقة إنسانية جميلة وراقية، منذ أن عملا معاً في جامعة جوبا، وقضيا في رحابها شطراً من حياتهما، ولو حدثك أي منهما عن تلك الفترة للمست الفخر والاعتزاز يطغي على حديثهما، بالرغم من أنها فترة لم تخل من البأس الذي يُمتحن به بني البشر عند الشدائد! (7) كثيرٌ ما كان بوب بتواضعه الذي يعرفه الناس ويميزه عن كثير من البشر، يطلب مني أن أراجع له بعض ما يكتُب، وهي ذات المهمة التي يوليها أيضاً لخليله وصفيه هاشم محمد صالح. وهاشم لو تعلمون، يحتل في قلب بوب مكاناً علياً يمكن أن يشعل غيرة التواقين لمثله. تطربني دائماً تلك الثقة التي يمنحني لها بوب. ويكفيني اعتزازاً في هذا الإطار إنني كنت ضمن قلّة - إن لم أكن في مقدمتهم - تحدث معهم في أمر استقالته من الحزب الشيوعي، وبالطبع كان يعلم أنه ليس بيني وبين هذا الحزب سوى احترام صامد على مر السنين. وأسعدني بالطلب من شخصي الضعيف أن أطلع على مذكرة استقالته قبل نشرها، وهل ثمة شرف أرفع من يطلعك المرء على خصوصياته قبل أن يذاع أمرها؟ تحادثنا كثيراً حولها قبل أن يدفع بها إلى من يهمهم الأمر، والآن بعد أن مضى إلى رحاب ربه فإن ذلك كله أصبح في ذمة التاريخ. أي التاريخ الذي سخَّر له نفسه بالمثابرة والتوثيق والإئتمان. وليس أدل على ذلك من سفره المميز (جنوب السودان: جدل الوحدة والانفصال) الذي قضى في جمع مادته وتوثيقها كتابة، أكثر من عقدين من الزمن كما قال لي! (8) كذلك وثَّق بوب لحركة انقلاب (19 يوليو إضاءات ووثائق) وكان جهداً تضاءلت معه عزيمة مراكز بحثية، وكذا همة أي من يريد خوض غمار ذات التجربة، وفي هذا كان بوب يذكرني بعلماء وفلاسفة في أزمنة غابرة دأبوا على قطع الفيافي والمسافات الطوال من أجل الحصول على معلومة صغيرة تروي ظمأهم وتشبع رغبتهم النهمة للمعرفة. حينما كان بوب يحدثني عن أمثلة لبعضها، كنت أقول له يا صديقي لقد أورثتنا أمراً عُسراً. من المفارقات المبكيات أنه كان بصدد السفر للسودان الذي أدمن حبه، وفي صدارة اهتماماته في هذه الزيارة الوقوف على ترتيبات كتابه الجديد عن (جوزيف قرنق) والذي أحبه بوب ويعتبره السياسي الأيقونة، وبلا شك هو قمين بجهد كهذا. لكن المؤلم أن بوب لن يرى ذياك الكتاب، ولكن سيقرأه الذين نذر لهم عمره في التوثيق والتدقيق والإنصاف! (9) يا صديقي العزيز مضيت إلى رحاب ربك راضياً مرضياً، أودعنا الجسد النحيل لحده، وسجيناه بدموع الفقراء والكادحين والمثقفين والسياسيين والمفكرين، وكل نساء ورجال الوطن المكلوم، قبرناك في أرض غير الأرض التي تعفرت أقدامك بترابها الطاهر، ولم تكف عن التمني بتنفس غبارها لتملأ به الرئتين المعطوبتين، وفي يقينك سيكون فيه الشفاء. يا صديقي العزيز سأفتقد ذلك الصوت الرخيم عند كل مساء، فمن لنا بعدك نلتمس فيه الحكمة ونتزود بالصبر ويمنحنا الأمل. يا صديقي العزيز نعلم أن النيل الذي كنت تنتظره عند المنحنى سيكف عن الجريان، فما عاد ينبت زرعاً ولا يروي ظمأً. يا صديقي العزيز الحلم الذي كنت تتحراه كما يتحرى الصائم رؤية الهلال، ما يزال يرنو لنا ومن مقلتيه ينهمر الدمع الهطال. انهض يا صديقي لنشهد معاً كهوف الاستبداد تتحطم حجراً حجراً، وقلاع الظلم تتهاوى دكاً دكاً. أيها الناس رحل بوب الإنسان وفي نفسه شيء من حتى، إذ لا يزال الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد يجثمون على صدورنا، فهلا بشرناه بزوال يُوسِّع مرقده! (10) آخر الرثاء: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر! [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة