ذات شتاء و الستينيات من القرن الماضي تلفظ أنفاسها جلستُ الى ثلة من الزملاء الصحافيين في مقهى السليماني في الخرطوم 2 بالقرب من دار جريدة الصحافة. كان النهار قد انتصف و ارتفعت درجة الحرارة ارتفاعا ملحوظا أرغم بعضنا على التخفف مما ثقل من أردية، فشتاء العاصمة السودانية، هو صيف بلاد تعرف تفاصيل الفصول و تؤرخ للمواسم. في الخرطوم يصفع وجهك هواء بارد فجرا طيلة أيام طوبة و بعض أيام أمشير حينما يعمي الغبار العيون و يملا الخياشيم و الأفواه، و لكن تلسعك أشعة الشمس بسياط من "عنج" فور بزوغ قرصها أو توسطه قبة السماء. كانت مجموعة الصحافيين وحدها هناك مسترخية تحت شجرة المقهى الظليلة، لا تأبه ببعض مما تساقط من أوراقها على المنضدة أو فوق رؤوسهم و أكتافهم. كانت المائدة فارغة من أية أكواب أو أقداح أو صحون، فالشهر كاد أن ينصرم و الجيوب شبه فارغة. أحكم الزميل صديق محيسي قبضته على مجلتي "شعر" و "دراسات عربية"، و أبى على الآخرين تصفحهما خشية ان يذهب احدهم باحداهما أو كليهما. إلا ان المجلتين لم تشغلاه عن متابعة حديث يدور بين عبدالرحمن احمد و يحي العوض و شيخ إدريس بركات و يوسف الشنبلي حول مشروع الدستور الاسلامي المقترح و تصرف الكتل النيابية في الجمعية التأسيسية و الأحزاب غير ذات التمثيل النيابي حيال ذاك المشروع. كان صاحب الأخبار، الصحافي الكبير رحمي محمد سليمان، ينصت الى ما يدور بلا تعليق، و يتلفت يمنة و يسرى مترقبا وصول بقية المدعوين الى مأدبة غداء في منزله، و يبتسم بين فينة و أخرى لملاحظة ساخرة بليغة رمى بها محمود محمد مدني بصوت خفيض من غير اكتراث. ثم جاء مصطفى عابدين الخانجي حاملا كومة من الصحف الإنجليزية، أتى بها من مكتبه في السفارة اليوغسلافية القريبة من المقهى، و لكن تأخر عن الحضور سكرتير تحرير جريدة الصحافة، الزميل شريف طمبل، و قد كان مهنيا بارعا صبورا يدقق في السطور و العبارات و الكلمات و الحروف و الفواصل و النقاط.
فجأة أطل الفنان حسن عطية دون ان ينتبه احد من أين أتى؛ فحرك رتابة الجلسة، إذ نهض الجميع هاشا باشا بمقدم أمير العود، ثم تحلق الجمع حوله. كان حسن عطية، كدأبه، في كامل أناقته، يرتدي حٌلةً زاهيةً، و ربطة عنق حريرية، و على رأسه قبعة بنيّة اللون من الجوخ الإنجليزي الرفيع تلائم الحُلّة و تكملّها، و ينتعل حذاءً لامعا، يبدو انه من صنع “شيرش". حينئذ نفضت الجيوب عنها خيوط العنكبوت لتتزين المائدة بأكواب الشاي و أقداح القهوة. دار الحديث حول رحلته الأخيرة الى لندن و مشاهداته هناك و الذين قابلهم من السودانيين و ما سجله للقسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية. و بينما نحن في هذا الحديث عبرت الشارع – آتية من الجنوب و متجهة نحو الخرطوم - سيارة عبدالخالق محجوب، الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني، متخطية المقهى ببضعة أمتار، إلا انه التفت يميناً فرأى الجالسين في المقهى. أوقف السيارة و عاد بها الى الوراء حتى حاذى الشجرة من الجهة الأخرى و ترجّل. كان "راشد" يرتدى حُلة لونها يماثل لون سيارته الصغيرة و هو لون الى شراب الكاكاو المخلوط بقليل من الحليب أقرب. قاد عبدالخالق طيلة الفترة التي عرفه الناس فيها "فولكس واقن" كانت شركة سفريان، وكيل الشركة الألمانية المصنّعة، تبيع الواحدة منها بثلاثمائة جنية سوداني، بما يعادل تسعمائة دولار اميركي وقتذاك، أقل أو أكثر.
عبر عبدالخالق الشارع الى حيث نحن و صافح الجميع بوجه بشوش ثم جلس الى جانب حسن عطية. كانت تلك سانحة لمعشر الصحافيين يسألون فيها الرجل عن موقف الحزب الشيوعي من مجريات الأمور في البلد المحتقن. لكن حسن عطية لم يمهلهم فابتدر الحديث دون ان يلتفت الى الجالس بجانبه. قال الأمير: لم يتح لي ان أدلي بهذا من قبل، إذ لم يسألني صحافي قط و لم تسنح مناسبة سابقا. لكن لابد أن تعرفوا ان الفضل يرجع الى عبدالخالق محجوب في إلمامنا – أنا و جيلي - باصول الموسيقى. لقد كان الرجل يحثنا على سماع الموسيقى العالمية و تعلم النوتة حتى ننهض بالغناء السوداني. كان يخصص لنا وقتا يشرح فيه مؤلفات كبار الموسيقيين الكلاسيكيين دون كلل و لا ملل، فهو من العارفين بأسرارها و جمالياتها و تأريخها. و هنا قال احدنا بخبث، و من خلال الموسيقى، كان يشرح لكم التعاليم الشيوعية. فرد حسن عطية بالقول: ان الرجل لم يأت على سيرة كارل ماركس أو لينين مطلقا أثناء تلك اللقاءات، بل لم يذكر لنا اسم موسيقار روسي واحد حتى سأله التاج مصطفى عن شايكوفسكي و بحيرة البجع. عبدالخالق محجوب من العالمين بالغناء السوداني، مضى أمير العود الى القول و أسهب في ذلك، بينما الدهشة تعلو وجوه مستمعيه. لم يعلق الزعيم الوطني الكبير على ما قاله الفنان المخضرم، إلا بسؤال واحد: أما زلتم تستمعون الى الكلاسيكيات؟ ثم استأذنا سويا، و انصرفا معا. و بعدها بقليل اكتمل عقد المدعوين و ذهبنا الى دار رحمي سليمان الذي كانت تنتظرنا فيه وجبة شهية أعدتها والدته، و ما يُستوجب تناوله مع مثل تلك الوجبة الدسمة من شراب و سياسة و صحافة و أدب و فن و مِلَح و طرف. كان رحمي سليمان أعزباً معظم حياته، لكنه أدرك قطار الزواج متأخرا.
كان عبدالخالق من أهل النهى يسعى الى بذل معارفه الى كل أهل السودان و غيرهم حيثما حل و في أي بقعة حط رحله، و لذلك ظل ذكره حاضراً عند كل ملتقى و مناسبة.
يوم عُقد اللقاء الصحافي العالمي لإحياء مئوية لينين في ليننقراد (سان بترسبرق حاليا) في نوفمبر/تشرين الثاني العام 1969، و هي من الفعاليات العديدة التي سبقت الاحتفال الرئيس في العام 1970، كنت و محمود محمد مدني من السودان، و من مصر احمد حمروش و حسين فهمي (رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم حينئذٍ، و ليس المشخصاتي المعروف)، و واثق الشاذلي من اليمن "الجنوبي"، و حسين العودات من سورية نجلس في أروقة قاعة المؤتمر أو في أرجاء الفندق الى لفيف من الصحافيين و الكتاب من شتى المشارب و العقائد و المذاهب أتت بهم الرياح الأربع الى قصر سمولني و فندق سوفتسكايا الذي أنشئ حديثا يومذاك. لم يكن لينين هو محور النقاش، بل عبدالخالق محجوب و رؤيته الى الأحداث في سودان 25 مايو/أيار، و موقفه من حركة اليسار الجديد في أوربا، و تداعيات ما بعد ربيع براغ، و مساومة برلينقوير التاريخية و موقف حزبه منها جميعا و من الانقلابات العسكرية. كان رواد تلك الحلقات من سيرلانكا و السويد و جزر الرأس الاخضر و الاروقواي و الفلبين و إيران و غيرها. يذهبون ثم يأتي غيرهم من أماكن اخرى و الموضوع واحد، و هكذا دواليك، طيلة أيام الاجتماع. و بالقرب من تلك الحلقات كانت تنتثر في مناضد تتوزع الممرات و الأروقة، صحف و مجلات و كتب دعائية سوفيتية بلغات مختلفة، إلا ان ما لفت الأنظار هو العدد الأخير من مجلة (أنباء موسكو) بمختلف اللغات و هو يحمل في الغلاف صورة ثلاثي فرقة (البلابل) السودانية، و في داخل العدد تحقيق صحافي واسع عنهن مع صور اخرى. كان ذلك التحقيق في بعض الأحيان مدخلا الى حديث يدور عن السودان ثم يدلف الى الحزب الشيوعي السوداني و زعيمه و يقف هناك فلا يبرح الى موضوع آخر.
ظل راشد محط احترام الجميع من مختلف التيارات السياسية و غيرها. كان ذلك واضحا جليا في جلسات الجمعية التأسيسية أو في مقصفها، قبل دخول القاعة أو أثناء الاستراحة بين الجلسات، و حينما ينعدم النصاب لتغيب أعضائها. في هذه الأحايين، كان رئيس الوزراء، محمد احمد محجوب، يصحب عبدالخالق الى الركن الشرقي من المقصف لينضم إليهم زعيم جبهة الميثاق الاسلامي، حسن الترابي، و قطب حزب الأمة، اسحق محمد الخليفة شريف، و الشريف زين العابدين الهندي، و أحيانا زعيم المعارضة، محمد إبراهيم دريج. انقسم حزب الأمة آنذاك الى قسمين يقود احدهما إمام الأنصار حينذاك، الهادي المهدي، و الأخر ابن أخيه الصادق الصديق المهدي؛ و كان أحمد إبراهيم دريج من قسمة الصادق. الى ذلك الركن يُهرع الصحافيون ليشهدوا حديثا في الفكر و الأدب و المشاكسة السياسية و الحوادث و النوادر و الطرائف و المزاح الرفيع. لذلك لم يكن مستغربا البتة ان ينعى محمد احمد محجوب في كتابه "الديموقراطية في الميزان" الصادر عن دار النهار البيروتية في العام 1973 عبدالخالق و يصف اغتياله الخسيس بأنه نهاية عهد التسامح في السودان. ورد في ذلك الكتاب ما يلي:
"ان إعدام زعيم الحزب الشيوعي السوداني يشكل نهاية عهد التسامح و الحلول الوسطى في حياة السودان السياسية. إنني أعرف عبدالخالق محجوب منذ 20 سنة. كان يتحلى بنزاهة و شجاعة بالغين، و كانت الأخلاق السودانية تأتي في الطليعة في تفكيره السياسي، و قد ساهم كثيرا في إيجاد توافق بين تاريخ السودان الاسلامي و الآراء الماركسية الثورية، و هذا ما جعلني دائما اصف الحزب الشيوعي السوداني بأنه حزب سوداني لا يدين بالولاء لموسكو أو أي بلد شيوعي آخر في العالم."
كلام صريح و واضح سطّره احد رموز اليمين المستنير في السودان، و أحد الذين دانوا بالولاء لإحدى الطائفتين الإسلاميتين الكبيرتين اللتين صبغتا المشهد السياسي و الصوفي بألوانهما و ما زالتا، ألا و هي طائفة الأنصار التي يتوارث مرجعيتها الدينية و السياسية آل المهدي، مثلما يرث المراغنة مرجعية الطائفة الختمية. و لهذا فقد كتب بازل ديفدسون مؤلف كتاب " أفريقيا تحت أضواء جديدة" - الذي ترجمه الأديب و الدبلوماسي الراحل، جمال محمد احمد(1) - في معرض نعيه لعبدالخالق "انه قد استطاع تأسيس طائفة ثالثة في السودان الى جانب الطائفتين الدينتين الرئيسيتين، الأنصار و الختمية". و أردف القول ان تلك الطائفة التي أسسها عبدالخالق محجوب كانت تضم مريدين من كل أبناء السودان بمختلف انتمائهم القبلي أو الديني أو الطائفي أو الجهوي أو العرقي، و هو ما تفتقده طائفة الأنصار و منافستها طائفة الختمية. نشر بازل ديفدسون نعيه في "أفريكا كونفدينشيال"، و هي نشرة غنية، تصدر نصف شهرية و تطبع في أوراق زرقاء اللون تشبه أوراق الرسائل البريدية و في حجمها، و ترسل الى المشتركين فقط. أطلعني على هذا النعي - و الخرطوم تحت قهر ُبسطار العسكر الجامحين الذين ما كانوا يتسامحون مع من يحمل مطبوعة فيها مثل هذا الكلم - الزعيم الإرتري عثمان صالح سبي، و كان من المشتركين فيها، تأتي إليه في مقره الدمشقي. كان سبي في زيارة الى الخرطوم يومئذ يحاول مرة بعد مرة مع رفاقه الآخرين رأب الصدع الذي أصاب جبهة التحرير الإرترية و أسال دماء ما كان لها ان تسيل في غير سوحها، و ما زالت الى يومنا هذا، للأسف، تهدر بين الإخوة الأعداء في غير طائل، سوى نهم السلطة و شراهة لا مثيل لها الى سبل التسلط و القهر و المال الحرام. لكن تلك المحاولات، التي بذلها و رفاقه، ذهبت سدى، و سدت في وجهها سبل الوفاق و فتحت أبواب الشقاق الى يومنا هذا.
اعتدت و اسحق محمد الخليفة شريف ان نمشي الهوينى عصرا من مبنى الجمعية التأسيسية في شارع الحلواني بالخرطوم الى وكالة الأنباء الإقليمية (رويتر) في عمارة أبي العلاء. و نتوقف في الطريق لتحية هذا و مجاملة ذاك. و يطول وقوفنا في ظلال المصرف التجاري السوداني، الذي قام على أطلال مقهى الحلواني الشهير، حينما نلتقي بالمحامي عبدالوهاب بوب.
كان اسحق رجلا جسيماً، لكنه رقيق الحاشية، خفيف الظل، دوما يسبقه عطره. فقد ظل الناس يعرفون بمقدمه قبل ان يروه من عطره الفريد النفاذ. كان شاعرا مرهفا، كتب الشعر بالعربية و الانقليزية و الفرنسية، و له، حسبما أذكر، عمل مشترك مع الشاعرة الفلسطينية، سلمى الخضراء الجيوسي، لعله عن انطولوجيا الشعر العربي. حينما يلتقي اسحق و عبدالوهاب تتدفق الفرنسية منهما سلسبيلا، و أنا أجاهد في فهم بعض الكلمات و العبارات الباريسية القحة الدارجة، فيفوتني المعنى لأسأل عنه اسحق حينما نتابع الطريق. و اسحق هو الذي عرفّني على أعمال شعراء عرب كتبوا بالفرنسية و منهم جورج شحاده. فبينما كنت اكتب حصيلة نهاري من أخبار لرويتر أو وكالة أخبار الخرطوم، كان يقرأ هو شعره بلغة من اللغات الثلاث أو شعرا بالفرنسية لآخرين، مشيرا الى مواضع القوة أو الضعف في تلك القصيدة أو منهج ذلك الشاعر. كنت أدرك بعضه و يفوتني الكثير، و أنا أسابق الزمن لأرسل ما لدي من أخبار، قبل ان يسبقني المنافسون.
ذات صباح، كانت الجمعية التأسيسية قد انفضت مبكراُ، فذهبت الى حال سبيلي ثم عدت الى مكتبي عند الظهيرة لأجد اسحق في انتظاري، يقلب أوراقا في يده. حياني الرجل ثم مد يده بالأوراق وقال: "جئت لسببين، الأول أن ادعوك الى حفل شاي في منزلي الأسبوع القادم تكريما لعبد الخالق محجوب. سيحضر الحفل لفيف من المثقفين، و أهل السياسية، و الصحافيون الانقليز الذين يزورون البلاد هذه الأيام. أعلم ان وزارة الإعلام لن تضع في برنامجهم مقابلة هذا الرجل المفكر الكبير، و لذلك سأقوم بهذه المهمة بدلاً منهم. أما السبب الثاني، أريد منك أن تقرأ ما كتبت عن النقاب، و تحاول ان تجد من ينسخه لي على الآلة الكاتبة، حتى ابعث به الى الاسبكتاتور.” كان المتعلمون السودانيين، على عادة الانقليز، يحتفلون بالناس بإقامة حفلات الشاي في الخامسة عصراُ أو يدعونهم الى فطور صباحي.
قرأت ما كتبه هذا الشاعر المرهف بانقليزية رفيعة و أسلوب سلس. كان المقال عن تاريخ النقاب و بعده عن صحيح الإسلام، بل رده الى عصور الانحطاط عند المسلمين أتى به غير العرب من سلاجقة و عثمانيين الخ.. و قد جعل "النقاب" عنوانا للمقال. انتظر الرجل بصبر حتى فرغت من قرآة المقال الطويل، و استمع إلي ما قلتُ فيما كتبَ؛ ثم دلفنا الى خبر إيداع بعض أعماله الشعرية باللغة الانقليزية مكتبة الكنقرس، و قد حدث ذلك في تلك الأيام. كتابة ذلك المقال أتت استجابة لطلب رئيس تحرير مجلة الاسبكتاتور، و هي مجلة يقرأها المثقفون، و أهل الرأي و الصفوة و من هم مثلهم، غير المجلات و الصحف الأخرى التي يطلع عليها عامة الناس، و العوام و غير العوام. و أظن ان رئيس تحريرها أو احد محرريها كان من بين أعضاء ذلك الوفد الزائر. ثم أمسك بسماعة الهاتف و أملى على بعض الصحف المحلية خبر حفل التكريم الذي سيقيمه لزعيم الشيوعيين السودانيين، فنشرته في اليوم التالي في صفحات الاجتماعيات. إلا ان علة طارئة حالت بيني و بين حضور ذلك الحفل، و ان عرفت ما دار فيه من نقاش و ملخص للكلمات التي ألقيت ترحيبا بالمحتفى به من اسحق نفسه و من آخرين حضروا ذلك الحفل. دونته في أوراق تركتها خلفي في حي العمدة بامدرمان، لا أدري ان كانت باقية أم ذوت. و لكني أدعو من حضر ذلك الحفل أن ينشر ما دار فيه قدر المستطاع. فهو وقفة سمحة من تاريخ السودانيين الحديث، لو يرجعوا إليها في زمن الإسفاف و الضحالة و الهرج و المرج هذا.
و في ذات السنة رزق الشاعر عزيز اندراوس، صاحب "الشاطئ المهجور" الذي صدر في خمسينيات القرن الماضي، طفلا، فنشر في صفحة الاجتماعيات انه قد أطلق على مولوده اسم "عبدالخالق" تيمنا بالأستاذ عبدالخالق محجوب. إلا انه بعد أسبوع تراجع عن ذلك و نشر "تصحيحا" ان الاسم قد أطلق تيمنا بعبدالخالق حسونة، الأمين العام لجامعة الدول العربية يومئذ. كنت في بعض الأحيان أتوقف عند "مكتبه" و أنا في طريقي الى الجمعية التأسيسية، فيدعوني لتناول القهوة. كان الرجل يكسب رزقه من الوساطة (كومسنجي) لا من الشعر. و ذات يوم سألته عن هذا الاختلاط، إذ ان الخبر لم ينشر في صحيفة الحزب الشيوعي (الميدان)، بل نشر في صحف اخرى. بدى الرجل محرجا. قال انه تعرض الى ضغوط و الى اتهامات، بل الى تهديد بالمقاطعة التجارية، و خصوصا من جاليات معينة، كانت تنشط في مثل هذه التجارة. فقلت له لماذا لم يختر عبدالخالق ثروت ان كان لابد من التراجع عن اسم عبدالخالق محجوب عثمان، بدلا من اسم رجل بلا دور و لا اثر و لا ظل. ثم أنشدت بعض أبيات قصيدة له و انصرفت:
لا تفزعي … لا تجزعي هاتي الربابة و اسمعي لحن الفؤاد الموجع
ُطبع "الشاطئ المهجور" على ورق صقيل، و انتشرت بين صفحاته صور عزيز اندراوس مع أصدقائه في مصر، من القاهرة الى الإسكندرية.
كان عبدالخالق عصامياً موسوعياُ اصمعياً، شملت علاقاته جميع الناس و على كل المستويات. فهو يخوض في حوار عن الرياضة مع قطب نادي المريخ، شاخور، بذات الجدية التي كان يتحدث بها عن إحداث الساعة، و يتجاذب الحديث طويلا مع مالك دكان يمني عن دقائق تقاليد يمنية و ما يقابلها من موروثات سودانية. و كانت معارفه تحوي السياسة و الفلسفة و الفنون و الأدب بمختلف ضروبه و الرياضة و الاجتماع و العلوم و هلمجرا.
ظل دار الحزب الجمهوري في شارع الموردة يشهد اكتظاظا لا مثيل له حينما يطل عبدالخالق إبان أزمة حل الحزب الشيوعي السوداني. كان محمود محمد طه، زعيم الجمهوريين الذي لقي على يد الجلاد نفسه ذات المصير، يسبقه حينا و يليه على المنبر أحيانا، و خطباء آخرون من مختلف الاتجاهات السياسية و التنظيمات النقابية. يفيض دار الجمهوريين بالناس و يضيق الشارع بهم أثناء تلك الليالي السياسية. و لم يكِّن بابكر كرار، رغم الخلاف الفلسفي و السياسي و المنهجي بين الرجلين، احتراما و تقديرا لأحد من رجال السياسة في البلاد، سوى لعبدالخالق محجوب. فبابكر كرار ما تردد أبدا – و هو رجل لا يلجم لسانه قط إذا ما دعا الداعي، أو حتى بدون دعوة من أحد، لان يبدي رأيا في الطبقة السياسية - في وصف السياسيين بالجهلة، و لكنه يستثنى منهم الأمين العام للحزب الشيوعي.
سيظل اغتيال عبدالخالق محجوب عملا خسيسا دنيئا، و جريمة نكراء بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني، و إهانة بالغة و تجاوزا لكل معايير العدالة، و نقطة سوداء في تاريخ القضاء العسكري السوداني، على المؤسسة العسكرية ان تعمل جهدها لإزالتها بمحاكمة ما جرى في معسكر "الشجرة"، حتى تحتفظ بسجلها ناصعا و بمناقبية أفرادها لا تشوبها شائبة. فقد كان ذلك اليوم، يوما عبوسا قنطريرا. لقد روت لي ما جرى صحافية مصرية من مجلة المصور حضرت تلك المأساة الى جانب قائد زمرة 25 مايو و أطلعتني على صور لم تنشر من قبل. التقيت بها في دار نقابة الصحافيين المصريين في العام 1988، حينما كنت و زميلي سجاد الغازي إسماعيل، نشرف على دورة صحافية نظمها اتحاد الصحافيين العرب في القاهرة ربيع ذلك العام. كانت تلك أول فعالية عربية منذ مقاطعة العرب لمصر بعد زيارة السادات الى القدس، و لذلك احتفل بها المصريون أيما احتفال. رأيتها يومئذ و قد ارتدت الحجاب. قالت لي ان رئيس نظام 25 مايو/أيار كان مخمورا، لا يتوقف عن تناول الاسكتلندي العتيق من الزجاجة مباشرة، و كذلك بقية زملائه. لقد رد حكم المحكمة مرارا، طالبا الاعدام لعبدالخالق، و كنت أظنه في وقت من الاوقات انه سيطلب من رئيس المحكمة ان يحكم على نفسه ايضا بالاعدام. تلك الهستيريا، قالت لي، لم اشاهدها حتى في افلام الغرب الاميركي، التي تصور المكسيكيين سكارى، أجلاف، و وحوش كاسرة و مغتصبين. هنا رويت لها ما درسناه في مقرر التاريخ للصف الثاني من المرحلة الوسطى عن فيليب المقدوني. قلت لها ان القصة التي رويت لنا حينذاك هي عن ريفي أتى يشكو ظلامة الى فيليب، والد الاسكندر ذي القرنين، و كان فيليب قد استبدت به بنت الحان فأصدر حكما جائرا على ذلك الريفي، الذي صاح انه سيستأنف. هنا استشاط ملك مقدونيا غضبا و صاح في وجه الرجل: ستستأنف لمن؟ فقال الرجل: سأستأنف حكم فيليب السكران الى فيليب الصاحي. هنا أدرك ذلك الملك ما أتى فعفى عن الرجل. قالت لي بسخريتها المصرية: يبدو ان صاحبنا كان غائبا عن المدرسة يوم تعلم زملاؤه ذلك الدرس!
كان راشد رجلا من بلد يكثر فيه الذكور. جمع بين الشجاعة و الرأي السديد. تجلى ذلك، على سبيل المثال، في مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد منتصف ستينيات القرن الماضي لمناقشة مشكلة جنوب السودان. لمّا فزع قادة الأحزاب الشمالية من طرح مسألة تجارة الرقيق، تصدى لها بقول يصدق اليوم على ما يدور في البلاد و ما يشتجر فيه الناس في هذا الأوان:
"ان التغييرات التي شملت بلادنا امتدت ايضا لمفاهيم الدوائر السياسية المختلفة، فانتصر صوت العقل و أصبح هناك اتفاق جماعي حول وجود مشكلة و قضية في الجنوب، و ان الحل الديموقراطي السلمي هو السبيل، بعد ان عانينا سنوات عدة من سياسة الإرهاب و البطش و إراقة الدماء. و كنا نأمل لو شملت تلك التغييرات مفاهيم بعض إخواننا هنا الذين يسمونا بأحفاد الزبير باشا، و نحن نقول بصراحة و وضوح: نعم نحن أحفاد الزبير باشا، فنحن لا نتهرب من تاريخنا، لكننا ننظر إليه نظرة موضوعية ناقدة، و في غير مرارة، نستفيد منه الدروس و نستقي منه العبر. فتجارة الرقيق التي تتحدثون عنها كثيرا كانت مدفوعة من المستعمر الأوربي و لمصلحته، و هي عار عليه في تلك العهود و عار على كل من نفذها."
هكذا يشرق الوعي و ينبئ، فالإنكار لا يجدي، و الاعتراف عودة الى الجذور الأصيلة المنسية. و في أضابير و سجلات و محاضر لجنة الاثني عشر المنبثقة من ذلك المؤتمر ما يطفئ النيران و يخمد لهيبها لو ثابوا الى رشدهم… و لكن هيهات فإضرام الحرائق يعود عليهم بالأصفر الرنّان.
————————————————————————–
(1) حينما كنت اعمل في جريدة "سودان استاندرد" اليومية التي صدرت عن دار الصحافة بعد استيلاء الدولة على دور الصحف، كان جمال محمد احمد، رئيسا لمجلس إدارة الدار. و قد ذهبت إليه في شأن يتعلق بترجمة رواية للأطفال كتبها احد الأشقاء الجنوبيين الذين عادوا من منفاهم بلندن صحبة الأديب الكبير. ثم تسرب بنا الحديث الى شؤون و شجون اخرى. حينها قال لي ان الفضل في ترجمته لكتاب بازل ديفدسون يعود الى عبدالكريم قاسم، رئيس العراق الذي أطاح بالنظام الملكي في بغداد العام 1958. و روى لي ان قاسم منع التجوال في بغداد بعد صدامات دامية بين القوميين و الشيوعيين، فلزم جمال بيته، و كان سفيرا للسودان في العاصمة العراقية، ليمضي لياليه في نقل الكتاب الى العربية. و تلك، قال جمال ضاحكاً، مأثرة لعبدالكريم قاسم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة