|
ربع قرن من الاستبداد/الفاضل عباس محمد علي
|
بسم الله الرحمن الرحيم الفاضل عباس محمد علي
كنت قد تباطأت في الكتابة وفقدت الشهية لها في الفترة الماضية، بحثاً عن وسيلة نضالية أخري أكثر نجاعة بعد خمس وعشرين سنة من المساهمات في الصحف السيارة لم تجد فتيلا؛ ولكن التحدي الذي أطلقه الوزير أحمد بلال (الراجل يكتب تاني في الصحف الإسفيرية) جعلنا نلتقط القفاز لنمارس حقنا في التعبير الذي لم يكن أصلاً منحة من أحد، والذي نهدف من ورائه، ليس الرد علي الصعاليك المنبتّين أمثال احمد بلال، إنما للمساهمة في رفع درجات الوعي لدي أبناء وبنات شعبنا، وللاستمرار في البحث عن حلول ثورية وعلمية ومناسبة لقضايا الوطن. أما الرويبضة البلال فيكفي ملفاته التي أنزلها الإسفيريون والفسابكة منذ عهد التلمذة بالأبيض الأميرية الوسطي. وبالأمس استعرض صديقي الدكتور حيدر ابراهيم علي بهذه الصحيفة مسيرة الإنقاذ المشؤومة عبر الخمس وعشرين سنة الماضية، فلا داعي لتكرار القول، ولكن لا بأس من بعض الحواشي: • من أسرار بقاء النظام الإخواني الراهن، علي الرغم من رفض الشارع له، أنه دائماً يسعي وينجح في الفت في عضد الخصم وزرع الفتنة بين صفوفه، والتظاهر بالجدية في الحوار مع الفصائل المعارضة، بل ابرام كافة انواع الاتفاقيات والتفاهمات مع تلك الفصائل، لا من باب التنازل عن شيء من السلطة أو اشراك الآخرين في الأمر، إنما بهدف لإطفاء الجزئي للحرائق وامتصاص السخط الجماهيري - وكل ما من شأنه أن يضمن استمرارية النظام كاملاً غير منقوص. وهكذا، فقد اتفق النظام مع رياك مشار ولام أكول، مجموعة السلام من الداخل، عام 1997، وبعدها بعامين اتفق مع حزب الأمة في جيبوتي سالخاً إياه عن التجمع الوطني الديمقراطي المعارض؛ ثم دخل في محادثات ماشاكوس بكينيا مع حركة جون قرنق الشعبية عام 2002، إلى أن تكللت تلك العملية باتفاقية نيفاشا عام 2005، مشفوعة باتفاقية القاهرة في يونيو من نفس السنة مع باقي التجمع الوطني الديمقراطي. فماذا كانت النتيجة وما هي المحصلة النهائية؟ ما زال النظام متربعا ومتجبراً، ولقد ذهبت ريح كل الفصائل التي حاورها واتفق معها، كما أصبح جنوب السودان في خبر كان. • برع النظام في إيهام السودانيين بثمة خطر خارجي يهدد أمنهم القومي، بمسميات هلامية كالإمبريالية والصليبية والصهيونية، فجعلهم في حالة طوارئ واستنفار واستعداد عسكري طوال ربع القرن المنصرم، وفي سبيل ذلك أقحمهم في حرب جهادية في الجنوب دامت منذ مجيئه للسلطة عام 1989 حتى نيفاشا 2005، كما أقحمهم في حرب مشابهة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وكلها في حقيقة الأمر حروب داخلية مع أقاليم وعشائر سودانية لها مطالب خاصة بتوزيع السلطة والثروة، كان من الممكن الاستجابة لها بالطرق السلمية التفاوضية، ولكن النظام الذي يجيد الحوار التكتيكي الماكر والعقيم مع خصومه السياسيين، يستنكف عن فعل الشيء نفسه مع آخرين له مصلحة في استمرار العدائيات معهم: فالحروب المستديمة تبرر حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية المفروضة منذ مجيء الإخوان المسلمين للسلطة، وتبرر التضييق الاقتصادي والنهب والضرائب المبالغ فيها، وتبرر عسكرة الدولة وتفريخ المليشيات الحكومية والإخوانية، مثل قوات الردع السريع (الجنجويد). • ولقد أدخل النظام في روع المسلمين السودانيين أن هنالك هجمة ثقافية غربية تستهدف مجتمعهم، فأبطل مفعول التعليم بصيغته السابقة لنظامهم، وحارب اللغة الانجليزية، بينما استثنى من ذلك أبناء وبنات الطبقة الحاكمة الذين وفروا لهم المدارس الانجليزية (الإسلامية) الخاصة، وبعثوهم للجامعات الأرستقراطية الناطقة بالانجليزية في ماليزيا والدول الغربية والخليج. ومن ناحية أخري شجع النظام الدجالين والمشعوذين - مثل ذلك الذى بعثه رئيس الجمهورية ضمن وفد رسمي لدولة خليجية مؤخراً؛ كما فرض النظام كافة أنواع القيود علي حرية الناس في اللبس وطرق الاحتفال، بينما تتسوق نساؤهم في دبي ولندن وكوالا لامبور، مستمتعين بآخر صيحات الموضات العالمية.
ونتيجة لتلك الممارسات بلغت بلادنا حافة الهاوية، ومهما طاب المقام للإخوان المسلمين الجالسين علي أنفاس الشعب طوال ربع قرن، فإن لكل أول آخر. ونحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق. ويبدو أن الجميع الآن مقتنعون بأن النظام قد بلغ محطته الأخيرة، وقد استنفد كل أحابيله الثعلبية، وأصبح مكشوف الظهر تماماً، خاصة بعد سقوط دولة الإخوان المسلمين في مصر عبر ثورة شعبية حقيقية كاسحة. ويتحدث الجميع الآن عن سيناريوهات الخروج من المأزق:
• ماذا عن الحوار الذى ابتدرته الحكومة وشاركت فيه الأحزاب الصورية الموالية للمؤتمر الوطني الحاكم، بينما قاطعه الحزب الشيوعي وقوى الإجماع؟
- يرى المراقبون أنه "حوار الطرشان"، وأن الحوار الجاد هو ما تسبقه إجراءات محددة: a. إطلاق سراح المعتقلين السياسيين؛ b. - إلغاء القوانين القمعية الاستثنائية؛ c. - إبداء الاستعداد الكافي لحل المؤتمر الوطني، وتشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط المعتدلين غير المرتهنين للإخوان المسلمين. d. - إعمال خريطة طريق محددة تتفق عليها القوى السياسية كافة.
- ويرى المراقبون أن الحكومة الحالية غير مضمونة العواقب وغير مأمونة علي أي اتفاق يخرج به الحوار؛ فلا بد من إشراك جهات إقليمية ودولية تشرف علي مثل هذه العملية، مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة والنمسا والنرويج...مثلاً.
• وماذا عن السيناريوهات الأخرى المحتملة لتغيير النظام؟
- لا داعي البتة للاستغراق في أحلام اليقظة التى تتوهم حدوث انقلاب عسكري، أو انقلاب قصر، أو حركة اغتيالات مفاجئة يعقبها بروز طاقم حاكم جديد من وسط الركام. فلقد ظل هذا النظام يتحسب لمثل هذه التصرفات لأنه جاء للحكم بمثلها، وهو يجيد عمليات التآمر والتآمر المضاد، ولم يبزه أحد في ذلك طوال ربع القرن الماضي.
- شيء واحد لن يقدر عليه النظام، وهو الهبة الشعبية. فلقد أثبت الحراك الجماهيري خلال العامين المنصرمين أن جذوة النضال الجاد المستميت ما زالت متقدة، وأن عبقرية الشعب ما زالت تتفتق عن اساليب مبتكرة ومتجددة لبعث ما تريد من رسائل للنظام. ومهما تظاهر النظام بعدم الاكتراث، فهو الآن مدرك تماماً أن الشعب قد وضع يده على جميع ملفات الفساد والخيانة الوطنية ونهب مقدرات البلاد والسمسرة للجهات الأجنبية المشبوهة الضالعة مع تنظيم الإخوان المسلمين العالمي. - والانتفاضة الشعبية التى تفجرت في سبتمبر من العام المنصرم، ما زال صداها يتردد في وجدان الشعب وهو يعد العدة لبعثها من جديد؛ وما زالت فرائص النظام ترتعش من جرائها. فما هي العوامل التي ستساعد في هذا البعث، وفي استمرارية الحراك الشعبي وبلوغه الأهداف المطلوبة، وهي زوال نظام الإخوان المسلمين، ومسح فكرهم من الوجود مثلما حدث في مصر، وترسيخ دعائم الترتيبات الانتقالية المتفق عليها من جانب قوى الإجماع والحركة الثورية (أي الحركات المعارضة الحاملة للسلاح)، ووضع خريطة الطريق موضع التنفيذ (الحكومة الانتقالية ولجنة الدستور والانتخابات...إلخ)؟؟
• من الواضح ومن الجيد أن حركة الشارع السوداني يتولي أمرها الشباب والكوادر الذين لم تغسل أدمغتهم خمس وعشرون سنة من دعايات الإخوان المسلمين، والمدركون لعجز القوى الطائفية التقليدية التى تغلغل في أحشائها المؤتمر الوطني وأغرقها في الرشي والفساد المالي والإداري. وهذا ما يشير إلي أن مخرجات الانتفاضة الشعبية ستكون هذه المرة تقدمية ومعافاة من الارتهان للقوي الرجعية والطائفية فيما يلي الانتفاضة من تطورات، كالانتخابات الرئاسية والنيابية. • ومن المفيد للغاية أن هؤلاء الشباب يتعاطون التقنيات التواصلية الحديثة التي تحدت القوانين المقيدة للحريات، وتخطت جميع صنوف السنسرة والتحجيم، فأصبح من الميسور الدعوة للتجمعات وكافة الفعاليات التى ستتفجر عبرها الانتفاضة القادمة، ومن الميسور نشر الأدب السياسي والتوعوي الصادر عن الجهات المعارضة. • وعلي الرغم من أن النظام الإخواني الحاكم ما زال يبطش بالخصوم السياسيين ويودعهم السجون، كما حدث في النهود، هنالك بعض هامش من حرية الحركة لم يجرؤ النظام علي إلغائه تماماً، وبسببه تمكن بعض القادة من مغادرة البلاد في هذا الصيف، ومن عقد العديد من المؤتمرات واللقاءات التشاورية، مما رسخ الوحدة الفكرية الماثلة بين قوي الانتفاضة بالحواضر السودانية والقوى الحاملة للسلاح والكوادر المعارضة الأخرى المتناثرة ببلاد الدياسبورا.
ولقد راجت في الآونة الأخيرة إشاعة خرطومية بأن البشير أوشك علي التقاعد، وأن خلفه سيكون الفريق بكرى حسن صالح، إرضاءاً للجيش، وكذلك باعتباره رمزاً للتيار غير الملتزم وسط الإخوان المسلمين (الذى لم ينس حظه من الدنيا)، وباعتباره قامة دنقلاوية لها ارتباط قوي بالعاملين في قصور الأمراء السعوديين - ومن هنا تشير التخرصات لثمة مباركة سعودية لهذا السيناريو، كونه متمشياً مع نظرية الإنزال السلمي السلس للنظام الذى لا ينجم عن بركان في السودان يشبه ذلك الذي يمزق سوريا و ليبيا و اليمن. ومعروف جداً ان هذه الإشاعات مصدرها أجهزة أمن النظام نفسه، بغرض خلق بلبلة وربكة وتردد في الشارع، وإيجاد حالة من الترقب تساهم في تقاعس الجماهير وفي ارتكانها لأحلام اليقظة (أحلام زلوط)؛ ولربما تكون النتيجة كذلك معلومات مرتدة من الشارع تكشف عن مدى شعبية بكرى أو عدمها. ومهما يكن من أمر، فإن الخلاص من النظام الراهن لا يكمن في وساطات الدول الأخرى، مهما كانت نواياها طيبة تجاه السودان وشعبه؛ ولا يكمن في انقلاب قصر يبدل شخصاً بشخص. إن تغيير النظام عملية متشابكة وعميقة الجذور، يساهم فيها معظم أبناء الشعب، حتي يتحملوا نتائجها قريبة وبعيدة المدي بصفة جماعية. ومثل هذه الأنظمة الاستبدادية لا تنهار بذهاب شخص واحد جالس علي القمة؛ فهي متكئة علي تنظيم سياسي ذي شوكة عسكرية واستخباراتية، وذى رسالة أسس من جرائها علاقات واسعة النطاق إقليمياً ودولياً، وذي عضوية تحولت إلي مافيا اقتصادية احتكرت ثروات البلاد وتمرغت في نعيمها، ولن تتخلي عنها إلا بشق الأنفس. واقتلاع النظام يعني اقتلاع كل هذه المنظومة من أخمص قدميها حتى زعانفها وذؤابتها. وعلى كل حال، إن ذهاب النظام الباطش البائس الراهن يبدو كأنه وارد في أي لحظة، ولكنه لن يكون من السهولة بمكان. إن الوجه الكالح الذى ظهرت به مليشيات النظام إبان انتفاضة سبتمبر المنصرم يشير إلي أنها لا تتورع من التمادي في ضرب المتظاهرين بالذخيرة الحية بنفس الطريقة التى اشتهر بها نظام صدام حسين البعثي العراقي، والتي لم يألفها السودانيون من قبل. وليس هناك ما يجعل تلك المليشيا أقرب للرحمة ومراعاة حرمة الدم والقربي، فلقد أحالت حكومة الإنقاذ معظم السودانيين إلي شراذم يتربص بعضها ببعض، وحل ببلادهم يوم يفر المرء من أمه وأبيه. وسوف تخطئ الجماهير خطأً لن يغتفر إذا هي لم تعرف كيف تدافع عن نفسها هذه المرة. فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثلما اعتدى عليكم. وخير وسيلة لحماية المتظاهرين هي الائتزار بالحركة الثورية (الحركات الحاملة للسلاح) المدعوة بشدة للتواجد في حواضر السودان عند اندلاع الانتفاضة القادمة، وهي آتية لا ريب فيها، عما قريب. والسلام.
|
|
|
|
|
|