تقترب بلادنا من الاحتفال بذكرى الاستقلال في يوميه العظيمين 19 ديسمبر يوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، ثم الفاتح من يناير عندما تَمّ إنزال عَلمي دولة الحكم الثنائي ورفع عَلَمَ السودان. وقد قررت أن استبق مناقشات كل عام التي تبحث في جدوى الاستقلال وتقلل من قيمته وتقدح في مصداقيته. وقد يعذر الإنسان البسطاء من الناس الذي يعجزون عن تمثل معاني الاستقلال في حياتهم، إذ أنّهم يبحثون عنه مُباشرةً في حياتهم ومعايشهم و"قُفة الملاح" والعلاج والتعليم، فلا يجدونه، فينعكس ذلك في تجاهلهم للاستقلال، وابتعادهم عن الاحتفاء به، وربما فقدان الإحساس بأهميته. وهؤلاء مظلومون مرتين، مرة بما ذكرناه عن عدم وجود نتائج ومصالح حياتية مُباشرة لهم في الدولة الوطنية المُستقلة، والمرة الثانية لأنّ النخب المُثقفة والمتعلمة عجزت عن توصيل هذه المعاني لهم عبر التوعية والتثقيف. لكن من لا يُمكن عذرهم هم أفراد النخبة المُتعلِّمة والمُثقفة الذين ما انفكوا يُعايروننا بالاستقلال وكأنّه مسبة، أو على أقل تقدير يُقلِّلون من قيمته وأهميته، ويصل بهم الحال لإنكار جهد آبائنا وأجدادنا في صنعه، ويقولون إنه جاءنا على طبقٍ من ذهبٍ، "عطية مزين" من الاستعمار البريطاني، بعد أن مَلّ بقاءه في بلادنا القاحلة والجافة، وفي هذا ظلمٌ بين وتجنٍ فاضح يحتاج لمن يردعه. الأصل عند الشعوب أن تحكم نفسها بنفسها وتدير شؤون بلادها، نجحت في ذلك أو فشلت، وما غير ذلك استثناء وخروج عن القاعدة يجب تصحيحه ببذل كل جُهدٍ مُمكنٍ. والدول الاستعمارية لم تحتل أياً من بلاد الدنيا عطفاً وشفقةً عليها، ولا كانت مبعوثاً مُخلصاً من العناية الإلهية، ولا كان الغرض الأساسي تطويرها وعمارها وتنميتها، وإنما استغلالها وحلب مواردها لتكون في صالح شعوب الدول الاستعمارية. وما حدث من تطوير أو تعمير، ولو بشكل جزئي، كان لتسهيل عملية الحكم والإدارة والاتصالات وتوفير الموارد لإحكام السيطرة على البلاد، فشيدت المباني ومهدت الطرق وأقامت المشاريع وفتحت المدارس لتخريج الكوادر الإدارية المساعدة. وليس صحيحاً أننا من الشعوب التي استسلمت للاستعمار حتى قرّر طوعاً الخروج من بلادنا، هذه فكرة بائسة ومعلومة خاطئة ومُغرضة تبتذل أرواح ودماء ونضالات السودانيين التي بذلت خلال أكثر من 130 عاماً، منذ تصدت مجموعات سُودانية عديدة لجيش إسماعيل باشا، مروراً بالثورة المهدية وثورات ود حبوبة والسلطان عجبنا والنوير، مروراً بثورة 1924، ثم النضال السلمي المدني للحركة الوطنية الحديثة والذي تم تتويجه بإعلان الاستقلال. قد يحتج البعض بفشل الدولة الوطنية الحديثة في مُواجهة التحديات، وعجزها عن بناء مقومات دولة مدنية حديثة، وهو فَشلٌ مُستمرٌ ومُتواصلٌ. لكنه ليس فشل الشعوب ولا دليل على عدم جدوى نضالات الحركة الوطنية، بل هو فشل نفس النخب التي تدين الاستقلال وتبخس من معناه، فقد آلت إليها الأمور وأمسكت بمقاليد الحكم، فلم تلتفت إلاّ لمصالحها الذاتية، وعجزت عن قراءة واقعنا واستخلاص رؤية بديلة وجديدة للمستقبل. شَعبنا يَستحق الاستقلال، وقد دفع ثمناً غالياً من أجله، وناضل في سبيل تحقيقه، ثم خذلته النخب الحاكمة، ولا تزال، وليس الحل في الحنين للماضي الاستعماري، ولا في التقليل من قيمة الاستقلال، بل في استكمال المسيرة لبناء الدولة الحديثة برؤية وأفكار جديدة، ولا بديل عن ذلك أبداً. altayar
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة